قراءة في ومضة “ديماغوجيّة” للكاتب سمير البوحجاري ــ ذ. نصر سيوب

0
25

“ديماغوجيّة” :
أغرتْه الكراسي ..
هجَر القوافي ..
تخشّبت لغتُه.
*********
ــ مقدمة :
في عالم السياسة، حيث تتلاقى السلطة والطموحات، تتجلى أحياناً ظاهرة مقلقة تعرف بـ “الديماغوجية”، إنها فن استغلال عواطف الجماهير وتضليلهم لتحقيق مكاسب شخصية، غالباً ما تكون على حساب القيم والمبادئ. المبدع سمير البوحجاري، بومضةٍ شعريةٍ مكثفةٍ ومؤثرةٍ، يضيء على هذه الظاهرة، ويكشف عن تحولاتٍ قد تطرأ على شخصية الفرد/الشاعر، بعد أن يستولي على السلطة ويستولي عليه الكرسي.
في ثلاثة أسطرٍ فقط، يختزل الكاتب تحولاً دراماتيكيّاً لشخصيةٍ أغرتها الكراسي، فبدأت رحلتها نحو التخلّي عن مبادئها وقيمها. “ديماغوجية” ليست مجرد كلمة، بل هي صورةٌ قاتمةٌ لانحرافٍ قد يصيب الفرد، ويجعله يهجر عالمه الإبداعي، ويستبدل لغةَ الشعر بلغةٍ أخرى، لغةٍ تخشبت، وفقدت حيويتها وجمالها.
هذه الومضة الأدبية، رغم قصرها، تحمل في طياتها معاني كثيرة، وتثير تساؤلاتٍ عميقة حول طبيعة السلطة، وتأثيرها على الفرد والمجتمع. فهل هي مجرد أداة لتحقيق الطموحات الشخصية، أم أنها مسؤوليةٌ عظيمةٌ تتطلب من صاحبها الالتزام بالقيم والمبادئ؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يحمي نفسه من خطر الديماغوجية، ومن أولئك الذين يستغلون عواطف الجماهير لتحقيق مكاسب شخصية؟

ــ في أحضان الومضة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان “ديماغوجية” خبر مرفوع لمبتدإ محذوف تقديره (هذه)، وهي كلمة معرّبة ذات أصول يونانية تتكون من مقطعين: ” Demos ” وتعني “الشعب”، و ” Agogos ” وتعني “القيادة” أي “قيادة الشعب”؛ لكنها تحمل دلالة سلبية تُبرز التلاعب بالجماهير عبر الخطابات المُنمَّقة الفارغة، فالديماغوجية هي فن تضليل الجماهير واستغلال عواطفهم لتحقيق مكاسب شخصية، وتُحيل بالأساس إلى الخطاب السياسي المُزيَّف الذي يعتمد على العواطف والوعود الكاذبة لخداع الجماهير. فاختيار هذا المصطلح يُشير إلى نقد لاذع للزعماء أو المثقفين الذين يتخلّون عن مبادئهم الفنية أو الإنسانية لملاحقة السلطة.
فالعنوان يشير بشكل مباشر إلى موضوع الومضة، وهو تَحوُّل شخصيةٍ ما بعد الوصول إلى السلطة. فهو يثير التساؤل حول طبيعة هذا التحول، هل هو تحول إيجابي أم سلبي؟

2 ــ مضمون الومضة :
يتكون متن الومضة من ثلاثة أسطر مكثفة، تختزل تحول شخصية وصولها إلى السلطة :
ــ السطر الأول: “أغرته الكراسي..” يشير إلى أن الدافع الرئيسي لهذا التحول هو الإغراء بالسلطة والنفوذ. الكراسي هنا ترمز إلى السلطة والمناصب، تُستخدم هنا كمجاز مرسل لتمثيل السلطة المادية الفارغة. الفعل “أغرته” يشي بالغواية والخداع، وكأن الكراسي كيانٌ فاعلٌ يجرّب الإنسان، مما يُضفي طابعا تشخيصيا عليها، في إشارة إلى سطوة المنصب على الفرد.
فالومضة هنا تُلامس ظاهرة تسييس المثقف أو الشاعر الذي يُضحّي بإبداعه لصالح المنافع المادية أو السياسية، وهو أمر شائع في السياقات العربية حيث يُصبح المثقف أداة في يد السلطة.
ــ السطر الثاني : “هجر القوافي..” يعني التخلي عن المبادئ والقيم التي كان يؤمن بها سابقاً. القوافي هنا ترمز إلى الشعر، والإبداع الأصيل، وهجرانها يعني التخلي عن الهوية الفنية والرسالة الإنسانية. يُقابل هذا السطر تناقضا مع السطر الأول : فبينما الكراسي تُغري، القوافي تُهجَر، مما يُبرز صراعا بين السلطة والإبداع.
فالهجر هنا ليس مجرد ترك الشعر، بل هو خيانة للذات والموهبة، مما يُعزّز فكرة أن السلطة تُجفّف منابع الإبداع.
ــ السطر الثالث : “تخشبت لغته..” التخشُّب (التصلّب) كناية عن الجمود الفكري والانحدار الأخلاقي. اللغة “الخشبية” تفقد حيويتها ومرونتها، فتصير كالأدوات الجامدة التي تخدم السلطة لا الحقيقة.
فاستخدام الفعل “تخشّبت” بدلا من “تصلّبت” أو “تجمّدت” يخلق صورةً بصريّةً قويّةً تربط بين تحول اللغة إلى مادة ميّتة وخشب، مما يُعزّز الإحساس بالجمود.

3 ــ اللغة والبناء الفني:
استخدم الكاتب لغة مباشرة وواضحة، لا تحتاج إلى الكثير من التأويل إلا أنها لغة مكثفة وموجزة، حيث اختزل الكثير من المعاني في كلمات قليلة تعكس فكرة الخيانة السريعة للفن مقابل السلطة. هذا الإيجاز يُشبه الهايكو الياباني، حيث تُختزل الفكرة في صورٍ مكثفةٍ تترك أثرا عميقا. فالومضة اعتمدت على التدرج الدرامي، حيث تبدأ بالإغراء، ثم التخلي، ثم التحول، مما يُجسِّد سقوط الإنسان من الإبداع إلى الهاوية.
كما استخدم الكاتب الرمزية؛ فالكراسي ترمز إلى السلطة، والقوافي ترمز إلى الفكر والإبداع، وتخشّب اللغة يرمز إلى فقدان القدرة على التعبير بصدق.

4 ــ علاقة الثقافي بالسياسي :
الومضة تُلامس إشكالية “المثقف العضوي” (حسب الفيلسوف وعالم الاجتماع الإيطالي أنطونيو غرامشي) الذي يفقد دوره النقدي لصالح السلطة. وفي الواقع العربي، حيث تُستقطب النخب الثقافية لدعم الأنظمة، تُصبح الومضة مرآةً لخيانة المبدعين الذين يتحولون إلى “ديماغوجيين” يكررون خطاب السلطة.

5 ــ الرسائل :
الومضة تقدم نقداً لاذعاً للديماغوجية، وتكشف عن أساليبها. وتشير إلى أن السلطة قد تكون مفسدة، وتؤدي إلى تحول الشخصية بشكل سلبي، محذرة من فقدان القيم والمبادئ عند الوصول إلى السلطة. كما تؤكد على أهمية التعبير بصدق ووضوح، وعدم التخلي عن القدرة على التفكير النقدي.
وهي بهذا ليست مجرد نقد لشخصية فردية، بل هي اتهام للأنظمة التي تُحوِّل المثقفين إلى أدوات، وللمثقفين أنفسهم الذين يختارون “الكراسي” على “القوافي”. اللغة الخشبية هي النتيجة الحتمية لهذه الخيانة، حيث يفقد الخطاب الإنساني روحه ليصير أداةً للاستغلال.

ــ خاتمة :
ومضة “ديماغوجية” عمل أدبي مكثف ومؤثر، يحمل رسائل عميقة عن السلطة، والتحول، وفقدان القيم. فهي تحمل في طياتها سردية السقوط من الإبداع إلى الفساد، مُستخدمةً رمزيّةً غنيّةً وإيجازا لاذعا. العنوان ليس مجرد مُعرِّف، بل هو مفتاحٌ لفك شفرات النص، حيث تتعانق السياسة مع الأدب في نقدٍ وجوديٍ لواقع المثقف العربي.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here