قراءة في رواية “سبعون يوما وراء الشمس” للشاعر الأديب أحمد حضراوي / الجزء 2 ــ ذ. نصر سيوب

0
44


3 ــ الأحداث :
يبدأ أحمد حضراوي روايته بتقديم صورة قاتمة عن السجن والظلم، ثم يردفه بسرد واقعة مطاردته من قبل الشرطة، والتي أدت به إلى الاختباء في منزل طالبات جامعيات. هذه الواقعة تعمل كمدخل لتقديم شخصية الراوي وتسليط الضوء على بيئة الجامعة والاحتجاجات الطلابية. بعدها ينتقل إلى فترة دراسته في بلجيكا، حيث يواجه صعوبات الحياة في الغربة. يعود بعد عام من هجرته إلى المغرب لزيارة أهله بعدما استبدّت به الأشواق، ويجد نفسه مرة أخرى في بيئة الجامعة لكن هذه المرة بصفته زائرا، ويواجه موقفا مع طالب شاب يثير فيه ذكريات النضال الطلابي والخطابات السياسية التي عاشها، لينتهي به المطاف إلى إحدى المقاهي الشعبية بباب سيدي عبد الوهاب بإحدى أزقة وجدة القديمة واستحضار ذكرياته الجامعية وما مرّ به خلالها من الأحداث خاصة سنته الأولى بها موسم 1991/ 1992 التي صادفت إغلاق معتقل تازمامارت السيء السمعة، في لحظة تجمع بين الماضي الحافل بالصراعات والواقع الذي لا يزال يحمل بقايا تلك الأيام، لينتقل الكاتب إلى سرد ذكرياته عبر ستة عشر جزءا :

ـ الجزء ١ :
يتناول الكاتب تجربته الأولى في الجامعة، حيث يواجه أجواء مشحونة بالتوتر والصراع بين الفصائل الطلابية، يبدأ الكاتب بالتعبير عن استغرابه من العنف الذي يميز أسبوع الطالب الجديد، ويتساءل عما إذا كان هذا السلوك هو القاعدة أو استثناء. يشهد مشهدا عنيفا حيث يتعرض طالب ينتمي لفصيل إسلامي للاعتداء من قبل عناصر من فصيل يساري متطرف، مما يثير استياءه ورفضه لهذا الانحطاط.
يتدخل لإنقاذ الطالب الإسلامي من الاعتداء، مما يجعله هدفا لتهديدات من قبل نفس الفصيل اليساري، يرفض الخضوع للتهديدات ويصر على موقفه معتبرا نفسه مهددا في حياته. يختم الجزء الأول بتساؤلات حول طبيعة الجامعة كمؤسسة تعليمية، والصراع بين الفصائل الطلابية المتطرفة.

ـ الجزء ٢ :
يتعمق الصراع في الجزء الثاني من الرواية، حيث تتزايد المواجهات العنيفة بين الفصائل الطلابية (الإسلامية واليسارية) داخل الجامعة، فيتحول الحرم الجامعي إلى ساحة حرب تستخدم فيها الحجارة والعصي وحتى الأسلحة البيضاء. يتدخل البطل مرة أخرى لإنقاذ طالب إسلامي من هجوم يساري، مما يعرّضه لتهديدات متجددة تصل حد التهديد بالتصفية الجسدية. خلال هذه الأحداث، يختفي صديقه المقرب “م.م” في خضم الفوضى، ليكتشف البطل لاحقاً أن الصديق انغمس في الصراع وأصبح جزءاً من المواجهات الدموية، بينما تفتقر الفصائل الإسلامية للتضامن الفعّال.
تتدخل قوات الأمن بشكل مفاجئ لمحاصرة الحي الجامعي واقتحام مساكن الطلبة، مثل “دار القنت” و”دار السفانجي”، حيث تُمارس أساليب تعذيب وحشية ضد المحتجزين. يُحاصر البطل مع مجموعة من الطلبة في “بيت الناظور”، وتقتحمهم قوات الأمن بعنف، في مشهد يُنذر ببداية الاعتقالات الجماعية. تُكشف هنا العلاقة التكافلية بين الفصائل اليسارية والنظام الحاكم (“المخزن”)، حيث يُستخدم العنف الطلابي كمبرر لقمع أوسع.
خلال ذلك، يحاول البطل الهروب من الواقع بزيارة أهله في مدينة بركان، لكن ذكريات العنف تلاحقه، ويُجبر على العودة إلى وجدة حيث يجد المدينة مغطاة بآثار المعارك. تنتهي الأحداث بوصول البطل إلى حافة الهاوية، حيث يتهدده الاعتقال مع من في “بيت الناظور”، في إشارة إلى تحوُّل الرواية نحو تجربة السجن التي ستُصبح محور الأجزاء التالية، بينما يحاول التشبث بالشعر والأدب كملاذٍ أخير من الانهيار.

ـ الجزء ٣ :
يتعمق البطل في سرد تجربة الاعتقال والتعذيب بعد اقتحام قوات الأمن لـ”بيت الناظور”، حيث يُجبر على الخضوع لتحقيق قاسٍ داخل مرآب مخفر شرطة وجدة. تبدأ رحلة العذاب بضرب مبرح وشتائم مهينة داخل سيارة الأمن، ثم يتعرض لـ”طواف” بين أربعة محققين يكررون أسئلة تافهة بينما ينهالون عليه بالضرب بالخراطيم المطاطية. تتحول أيام الاعتقال إلى كابوس من الألم الجسدي (الركض على الحصى المسنن، السجود القسري لساعات) والنفسي (التحرش اللفظي، التهديد بالقتل)، خاصة مع سماع صرخات طلبة آخرين يُعذبون في غرف مجاورة.
تظهر لحظات من الانهيار الإنساني، مثل تبوّل المعتقلين على أنفسهم من شدة الخوف أو الألم، بينما يحاول البطل التشبث ببقايا كرامته عبر الصمت أو التظاهر بالقوة. تُختتم الأحداث بإحساسه بأنه “على حافة الهاوية”، حيث تتحول الجامعة – التي كانت رمزاً للأمل – إلى مجرد بوابة للسجن، ويُصبح السؤال المركزي :
كيف يبقى الإنسان إنساناً حين يُجرد من كل شيء؟

ـ الجزء ٤ :
يتعمق هذا الجزء في سرد تفاصيل الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي الذي يتعرض له البطل وزملاؤه في السجن. تُفرض عليهم أوضاعٌ مهينة: عصب الأعين، السجود القسري لساعات على أرضيات باردة، والحرمان من أبسط الحقوق كقضاء الحاجة أو تناول الطعام لخمسة أيام متواصلة. تتصاعد وحشية الحراس، فيُلحقون بهم أذىً جسديّاً كحرق اليدين بالسجائر، وضربهم بالعصي، بينما يمارسون إهانات لفظية مُمنهجة لتحطيم كرامتهم، مثل منعهم حتى من الدعاء أو الاستنجاد بربهم، في محاولة لطمس إنسانيتهم.
يواجه البطل تلفيق تهم خطيرة كـ”الانتماء لجماعة محظورة” تُدوَّن في محاضر جاهزة للتوقيع، لكنه يرفض الاعتراف بها رغم التعذيب. تظهر لحظات من التحدي الصامت، كتحمله حرق سيجارة على يده دون إصدار صوت، بينما ينهار آخرون فيتبوّلون على أنفسهم من شدة الألم أو الخوف. تختلط في الزنزانة أصوات صراخ المعذبين بأنين الجوعى، بينما يُحشرون مع معتقلين من خلفيات مختلفة.
تنتهي الأحداث بتأمل البطل لقسوة النظام المغربي، الذي لا يقل بطشاً عن أنظمة كـ”البعث” في العراق وسوريا أو سجون عبد الناصر، بينما يُلقى بهم في زنازين مكتظة، حيث يصبح الانتظارُ المجهولُ والعارُ الجسديُّ جزءاً من روتين يومي يختبر فيه الإنسانُ أقصى حدود التحمل.

ـ الجزء ٥ :
يتعمق العذاب في هذا الجزء، حيث يُنقل البطل إلى مرحلة جديدة من التحقيق تُركّز على كسر إرادته عبر مزيج من التعذيب الجسدي والنفسي. يُجبر على الوقوف لساعات كـ”عمود إنارة” في غرفة التحقيق، بينما يُهدد بمصير مجهول إذا لم “يتعاون”. تظهر أساليب تعذيب وحشية : الصعق الكهربائي في المناطق الحساسة، التهديد بالاغتصاب، إغراق الوجه في ماء ملوث بالبول، والضرب المبرح بالكبلات حتى يتشوه الجسد. تُلفَّق له تهمة الانتماء لتنظيم سري، ويُجبر على توقيع اعترافات مزيفة بينما يُحاصَر بأسئلة محققين يعتقدون أنه يخفي “أسرار الجماعة”.
تتكرر مشاهد الإذلال: حراسٌ يُجبرون المعتقلين على التبوّل على أنفسهم، أو يمنعونهم من النوم أياماً، بينما تتحول الزنازين إلى مساحات مكتظة بالعرق والروائح الكريهة. في لحظة يأس، يعرض أحد الحراس “قطعة بيدانسي” (طعام) مقابل التعاون، فيكشف التناقض بين غريزة البقاء ومحاولة الحفاظ على الكرامة. يصل البطل إلى حافة الانهيار حين يُجلب “متعاون” مقنع الوجه للتعرف على “الإسلاميين”، فيُدرك أن النظام يبحث عن أي ذريعة لإدانته، حتى لو كانت كذبة.
الرواية هنا لا تسرد الألم فحسب، بل تُجسِّد تحول السجن إلى آلة لطحن الإنسان : فالجوع يُذيب الجسد، والخوف يُشلّ العقل، والاعترافات المزيفة تُهشّم الحقيقة. كل هذا يصبّ في هدف النظام : تحويل الضحية إلى رقم في ملف، وصوتها إلى صدى يُردّد ما يُريدون سماعه. النهاية تُلمح إلى أن المعركة الحقيقية لم تكن ضد القضبان، بل ضد محو الذات والإرادة تحت وطأة آلة قمع لا تعرف الرحمة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here