أولا – مهاد تاريخي :
****************
هو أبو سعيد مجد الدين بوري بن أيوب المعروف بتاج الملوك الأيوبي (بوري – بالتركي – يعني الذئب .. وفي الثقافة التركية يرمز الذئب إلى الشجاعة والشرف).
ولد في 556هج واستشهد على أسوار حلب في 579 هج وهو في الثانية والعشرين من عمره .. تزيد أشهرا.
وهو شاعر عربيّ فصيح كرديّ أرومةً .. لكن الشعر لغة .. ولغة شعره هي العربية.
حلب في ذلك الوقت :
وكان يحكم حلب في ذلك الوقت ملكٌ زنكيٌّ هو عماد الدين بن مودود بن زنكي خلفا للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود زنكي، وقد توفي إسماعيل هذا شابا دون العشرين سنة 577 هج.
فأوصى بالمُلك من بعده لابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل .. فسار الأخير إلى حلب وجلس على عرشها ..
لكن أخاه عماد الدين بن مودود صاحب سنجار (منطقة الجزيرة) راسله ليتبادلا منطقتيهما .. وتم الاتفاق : فأخذ عماد الدين حلب وأخذ أخوه عز الدين سنجار (لقرب سنجار من الموصل مملكة عز الدين أساسا).
– و لكن من هي هذه الأسرة الزنكية ؟
هي أسرة تركمانية مسلمة أشهر قادتها هو الملك المجاهد نور الدين محمود الشهيد .. وهو الذي بعث أسد الدين شيركوه وأخاه نجم الدين أيوب وابن نجم الدين (صلاح الدين يوسف) على رأس جيش إلى مصر الفاطمية لتثبيت أوضاع الدولة الداخلية وحمايتها من الصليبيين ..
وانتهت الحملة بعودة أسد الدين شيركوه إلى الشام وموت أخيه نجم الدين أيوب فصار ابنه صلاح الدين يوسف هو وزير العاضد آخر خلفاﺀ الفاطميين ..
أكمل صلاح الدين خطة معلمه نور الدين بتوحيد العالم الإسلامي حول فلسطين (المحتلة من الجيوش الصليبية ..) فسعى لتوحيد بلاد الشام و مصر وشبه الجزيرة العربية في سلطنة أيوبية تحت اسم الخلافة العباسية شكليا ..
– حصار صلاح الدين لحلب :
وسار السلطان صلاح الدين الأيوبي في سنة 578هج من مصر إلى بلاد الشام ميمما وجهه إلى حلب لأهميتها عنده .
دار الجيش الأيوبي حول حلب واستلم عددا من المدن والنواحي مثل تل باشر وعنتاب .. إلى أن نزل بجيشه على أسوار حلب في الميدان الأخضر (لعله المنطقة التي تقع فيها الآن الحديقة أسفل جبل الإذاعة وصولا إلى باب جنين . فإن “باب الجنان” تسمية تفيد أن وراﺀه منطقة خضراﺀ. وخاصة أن نهر قويق يخترقها) و ذلك في السادس عشر من المحرم سنة 579 هج.
وبدأ المقاتلون يناجزون الجيش الحلبي في بانقوسا وباب جنين لإحكام الحصار على المدينة بغية استلامها في سبيل تحقيق الوحدة انطلاقا للتحرير.
وتحقق للملك الزنكي (عماد الدين بن مودود) أنه لا قبل له بجيش السلطان الأيوبي العظيم، فأرسل إليه يعرض عليه أن يسلمه حلب مقابل أن يسمح له السلطان بحكم ما لمنطقة سنجار ..
فوافق صلاح الدين وأعطاه خيولا وعتادا وسمح له ببيع كل الأثاث الملكي في القلعة ..
وقال : لا أريد من حلب سوى الحجر والبشر ..
– تاج الملوك الأيوبي :
وكان بوري بن أيوب (أخو صلاح الدين) من الشجعان الذين قاتلوا في المقدمة أثناﺀ حصار حلب .. فأصيب بركبته .. هل هي ضربة سيف أم رمية سهم ؟ لا فرق .. فقد نزف كثير من دم الشاب ..
– الاحتفال بالاتفاق :
وضمت السلطان صلاح الدين وملك حلب عماد الدين الزنكي مأدبة في الميدان الأخضر احتفالا بالاتفاق، وذلك في يوم الأحد التاسع عشر من صفر 579 هج.
وأثناﺀ المأدبة العامرة وسيادة أجواﺀ الصلح وروح الوحدة الإسلامية، اقترب أحد الخاصة السلطانية من صلاح الدين وأسرّ في أذنه أن أخاه تاج الملوك قد مات متأثرا بجراحه .. فكتم السلطان الأمر لكيلا يعكّر صفو الصلح ويفسد الأمر وقد استتب له ما أراد ..
ثم قال السلطان بعد ذلك : ما أخذنا حلب بقليل .. لقد دفعنا فيها دم تاج الملوك ..
وهذا يعكس قيمة هذا الفارس الأيوبي الشاب الشجاع الذي كان يقاتل في مقدمة الصفوف ..
وعلم عماد الدين بموت أخ صلاح الدين .. فعزاه بعدئذ.
تم دفن تاج الملوك خارج أسوار حلب في مدفن يعرف بمقام إبراهيم (بحي الصالحين) .. ويقول بعض المؤرخين إن صلاح الدين نقل جثمان أخيه بعد ذلك إلى مقبرة الأيوبيين في دمشق.
– استلام صلاح الدين مدينة حلب :
وحين وصلت رسل عماد الدين من سنجار أنهم قد استلموا سنجار من رجال صلاح الدين، تم رفع الأعلام الأيوبية الصفراﺀ على قلعة حلب، وذلك في يوم الإثنين السابع والعشرين من صفر سنة 579هج.
وأظهر صلاح الدين فرحا عظيما بسيطرته على حلب، وعد ذلك بداية الحشد العام لتحرير بيت المقدس.
حيث صنع له سليمان بن معافى الأختريني منبر الأقصى الشهير ولم يضرب فيه مسمارا واحدا.
(تم تركيب أجزاﺀ المنبر بتقنية التعشيق : تداخل الخشب بإحكام).
ونتيجة هذه المعاملة الحسنة من السلطان للملك الزنكي انضم عماد الدين برجاله لجيوش السلطان في معركة حطّين المجيدة.
– ثانيا – تاج الملوك شاعرا :
*********************
هذه مختارات من شعر تاج الملوك مع إلقاﺀ بعض الضوﺀ عليها :
1- الحنين إلى مصر :
شربتُ من الفرات ونيلُ مصرٍ
أحبُّ إِليَّ من شطِّ الفُراتِ
ولي في مصرَ مَن أصبو إليه
ومَن في قُربِه أبداً حياتي
فقلت وقد ذكرت زمان وصلٍ
تمادى بعده روحُ الحياة
أرى ما أشتهيه يفرُّ منّي
ومَن لا أشتهيه إليَّ ياتي
تبين هذه الأبيات أن تاج الملوك عاش بعض الوقت في مصر، فالجيش الذي أتى لفتح حلب انطلق من مصر كما أسلفت.
ويفضل الشاعر مصر على بلاد الشام تفضيلا واضحا :
ونيلُ مصرٍ أحبُّ إليَّ من شطِّ الفراتِ
والسبب أن حبيبة الشاعر (وقد تكون جارية) بقيت في مصر .:
ولي في مصر من أصبو إليه
إذن هذا الحنين إلى المكان بسبب من يحل به مجازا مرسلا على طريقة مجنون ليلى :
وما حب الجار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
ويخلص الشاعر إلى حكمة لا بأس بها :
أرى ما أشتهيه يفرُّ مني
ومن لا أشتهيه إليَّ ياتي
وقد لاحظ قارئو شعره قديما هذه الرقة في شعره .. وهذا مفهوم لكونه شابا يافعا .. نشأ في بيت عز وسلطان ..
2- القمر السالب :
سلبَ الفُؤادَ فلا عدمتُ السَّالِبا
قمرٌ فكان اللَّحظُ سهماً صائبا
قمرٌ مشارِقُهُ القلوبُ ولا يُرى
أبداً له إلا القلوبُ مغَاربا
مَلَكَ الفؤادَ بمُقلتين وحاجبٍ
أمسى لحُسنِ الصَّبر عنّي حاجبا
وحكى القضيبَ شمائلاً لعبت به
أيدي النَّسيمِ شمائِلا وجنائبا
ولوى ثلاثَ ذوائبٍ من شعره
تركت فؤادي بالصّبابة ذائِبا
فارقتُه وَا لهفَتي لفراقهِ
لو كان من بعد التَّفرُّقِ آيبا
لِلهِ أيَّةُ ساعةٍ وهبت به
لو ردَّت الأيّامُ شيئا ذاهِبا
قد كان لي فيها الحبيبُ مُنادِماً
أفدِي الحبيبَ مُنادماً ومُصاحِبا
دعني أَسُحُّ الدّمعَ بعد فراقِهِ
فالوجدُ ما ترك الدموعَ سَواكبا
فَلَوَ أنّني قطَّعتُ قلبي بَعده
أسفاً عليه لما قضيتُ الواجبا
ويحَ الزمان أكلُّ يوم غُصَّةٌ
بِبعادِ إلفٍ أو فراقِ حبايبا
حتّى كأنَّا ما خُلقنا كي نرى
من دهرنا إلا نوى ونوائبا
وهذه أبيات غزلية مفعمة بذوق عصره من كثرة المحسّنات البديعية المولّدة للمعنى ..
والصور فيها تقليدية مكررة عند شعراﺀ عصره ومن قبلهم : فالحبيب قمر يرسل سهما صائبا يملك القلوب بمقلتين وحاجب وقوامه كقضيب النبات المياس بالنسيم ولشعر الحبيب ذوائب… إلخ
ويتحسر على ساعة كان ينادمه فيها الحبيب (وهذا يرجح عندي أنه أحب جارية له)
وعلى عادته يتخلص في الأخير من الخاص إلى العام :
حتى كأنا ما خلقنا كي نرى
من دهرنا إلا نوىً ونوائبا
3- رحلتم و خلفتم بقلبي صبابة :
رحلتُم وخلَّفتُم بقلبى صبابةً
لها جمرةٌ في القلب ذاتُ تَلَهُّبُِ
فأظلمتِ الدّنيا غداةَ مسيرِكم
إلى أن تساوى كلُّ صُبحٍ وغَيهب
فيا كبدي ذُوبي ويا أضلعي قِدي
ويا مُهجتي بيني ويا أدمُعي اسكبي
ويا حسرتي زِيدي على الدهر حِدَّةً
لفقد مُريحي في الهوى ومُعذِّبي
عفا اللهُ عنه من حبيبٍ ألِفتُهُ
كثيرَ التَّجنِّي في الهوى والتَّجنُّبِ
فقلبي على حفظ المودَّةِ ثابتٌ
ولكن له قلبٌ كثيرُ التّقلُّبِ
سأبكي على عيشٍ مضى بدُنُوِّه
رقيق الحواشي سابغِ الظّلِّ طَيِّبِ
وليلٍ به قضَّيتُهُ يُخجلُ الضحى
بطيبِ أحاديثٍ وطيبِ تعتُّب
غَنيتُ به عن بدره وبكأسِهِ
وقد مُزِجَت أن أستنيرَ بكوكب
وكان العرش الأيوبي في طور التأسيس، وفرسان هذه الأسرة على صهوات الجياد لا يستقرون في مكان : من تكريت إلى بعلبك، إلى دمشق، إلى القاهرة ثم العودة إلى بلاد الشام، قطرا قطرا، ومدينة مدينة .. حتى نزل أحد أمرائهم إلى اليمن وانتزعها لصالح بني أيوب ..
ولذا نجد في شعر هذا الأمير أثر هذا السفر الدائم والتنقل المستمر ..
والأبيات السابقة تنبئ عن شاعر متمكن، وتنم عن بعض قراﺀاته في ديوان أبي تمام مثلا ( رقيق الحواشي : صورة تمّاميّة ).
ولعل الأبيات السابقة أن تكون نموذجا يثبت مقدرة تاج الملوك والذوق الشعري العام .. والمرجح أن مثل هذا الشعر أخذ طريقه إلى الغناﺀ.
ولتاج الملوك قطع في غير الغزل .. لديه نزر قليل في الهجاﺀ ومثله في الرثاﺀ .. غير أني كنت وما زلت أنتظر أن يكون له شعر في الحماسة والحرب، وخصوصا أنه فارس شاب شجاع، قاتل في مقدمة الصفوف حتى الاستشهاد .. فلم أظفر بشيﺀ .. ولعل غيري يجد له ما لم أجد ..
غير أنه قال مفتخراً :
لنا الهمَمُ التى تُخشى وتُرجى
ليوم البأسِ أو يومِ الثَّوابِ
وإنّا معشرٌ كرموا وطابوا
ثناءً بارئاً من كُلِّ عابِ
وبعد:
فتاج الملوك شاعر مات شابا كطرفة بن العبد وكالشابي .. غير أن تاج الملوك مات موتا مشرّفا في مسيرة توحيد الأمة، وتحرير المقدسات.
وأخيراً :
******
أقول بعد قرون في رثاﺀ تاج الملوك الأيوبي :
تاجُ الملوكِ على أسوارِها انكسرا
حَبا الجميلةَ نبضَ القلبِ فانتصرا
يا شاعرَ الغِيدِ ما عادتْ ملامحُنا
كما بعصرِكَ ميلاداً و مُحتضَرا
حتى الزمانُ الذي يَحياهُ واحدُنا
كالموتِ يخجلُ أنْ يُدعَى لنا عُمُرا
حلب : 2022/10/31م