قصة واحدة في روايتين “في شراك أحمد بخيت و”عصابة شيرين وببلاوي” (5) – د. جميلة الكجك

0
1330

(5)

قلت مرة أن ما يؤثر فينا أعمق التأثير -حقا- هو اللامعقول، وليس المعقول. هو خطاب الوجدان إذ يتوجه إلى الوجدان، ولذا علينا أن نخضع هذا اللامعقول لعقولنا لنتبين مدى السحر الذي نقع تحت تأثيره دون أن ندري. فالمعقول يحمل بذور نقده فيه، بينما لا نتمكن من نقد اللامعقول بذات السهولة، هذا إن تبين لنا أصلا أننا قد وقعنا في سحر ساحر! سحر الكلمة، سحر الإماءة، سحر السلوك، سحر الصورة، بل وذاك السحر الذي نرتدي منظاره ليزداد الساحر إمعانا في خداع عيوننا وقلوبنا والتعمية على عقولنا. نترك السحر ينساب فينا، بل ونهيئ له كل السبل، ونيسرها له. وليس هذا فقط بل ونحاول أن نقاوم المعقول، وتلك الشكوك التي تنتابنا، وننقاد خلف الساحر أيا يكون. 
 سحر “حضراوي” أولا وقبل أي شيء بلفظة: “ديواني” عندما نطقت بها الشاعرة المغربية التي طبع لها ديوان شعر في دار كليم. سحر بآماله وأحلامه ولم يحاول أن يتبين جدية وجدوى تحققها على أرض الواقع -دعوى مشاركة بخيت له في كل ما يملك، ودعوى مشاركة الببلاوي له في الجريدة والقناة.. وعود ووعود. ومن دلائل السحر الذي أجراه هو على ذاته دون أن يدري، حديثه-. فحديث النفس للنفس قد تسحر الذات أكثر بكثير من سحر الآخرين لها، إذ قال: “.. لقد أصبحت دار كليم الآن ملكي، طلب مني أن أعد مجموعة ملاحمي التي تجاوزت العشرين للإصدار..”.
 وسحره “بخيت” بالمديح الزائد والحديث المنمق عنه -أي عن “حضراوي” وكأنه أفضل وأقوى.. و.. شاعر في العالم العربي، وليقول له: “سنوات وأنا أعمل في حقل الشعر ولم يصادفني من لديه حتى ربع مؤهلاتك. ثم سحره له بكثرة الوعود الكاذبة والتي يجعلها تبدو كأنما هي حقيقية. 
 ولكل ما سبق لم يتبين “حضراوي” المعقول من اللامعقول في أحاديث “بخيت” إلا عندما ذكر له بالصدفة، في زلة لسان أن تكلفة إنشاء دار نشر جديدة تكلف أقل من 3000 جنيه. هنا زال السحر بسبب زلة اللسان ولأسباب أخرى، وفكت عقده وتنبه المسحور! ليقول: “أقل من 3000 جنيه، ولماذا طلبت مني أضعاف هذا المبلغ لشراكتك بالنصف فقط؟!! وهكذا انقلب السحر على الساحر واتضح كل شيء، وفكت خيوط الشباك عنه. ترك “حضراوي” “بخيت” بعد ذاك النقاش الذي اتضحت له فيه حقيقية الأمور كلها وهو مسندا ظهره إلى جدار مكتبه، دامع الخد مشدوها يتابع “حضراوي” بنظرات حائرة ولسانه الملجم بعد أن فشل في آخر محاولة له للتأثير عليه بعدم فضحه. 
من الهبات ما يأتينا بصورة معاناة لكنها في حقيقتها تكون هدية قيمة بل ربما نعمة من أعظم النعم! تلك الأحداث المؤلمة التي عاشها الشاعر حولها بإبداع وتميز إلى روايتين قصهما بأسلوب مشوق، ألبسهما ثوب الجمال الفذ رغم أن أحداثهما بالنسبة له كانت مأساوية. دراما من نوع خاص جدا. جعل الحكاية روايتين، الأولى سردية، والثانية سردية حوارية. “حضراوي” ومنذ بدايات شبابه وقبل كتابته للروايتين لم يكتب إلا الشعر، لم يدر بخلده يوما أن يكتب خاطرة واحدة حتى، الشعر والشعر فقط كان محط اهتمامه. فكيف تحول فجأة إلى مبدع روائي فتميز بطراز للرواية فريد؟! هو الإبداع والإبداع وحده إن تمكن من شخص حول كل ما حوله وما بين يديه إلى جماليات. خلال أيام حول الشاعر حكايته مع “بخيت” من جهة و”ببلاوي” وزوجته من جهة أخرى إلى نسيج عرف كيف يتم من خلاله غزل الكلمات حتى تصبح الحكاية على ما هي عليه.

عادة ما يغزل القاص من كلماته ومن نسج خياله أحداث روايته لكن الرواية هذه المرة كانت جزءا من واقع، أحداثها حقيقية، شخصياتها حقيقية، حتى الأسماء جاءت كما هي، لم يحاول المؤلف أن يموه فيها. تعددت الشخصيات نعم، ولكنها جميعا كانت ضمن السياق الحقيقي للأحداث. فكانت قصة حقيقية حتى في الصراع ذاته للشخصيات تلك. كان منها من هم عماد القصة كالشعراء الثلاثة: أحمد حضراوي، أحمد بخيت، أحمد الببلاوي. ثلاثتهم شعراء، وثلاثتهم “أحمد” وثلاثتهم نفوس طموحة، ولكن شتان ما بين شخصية وأخرى فالرواية حللت تلك الشخصيات الثلاثة باقتدار. وصفت ذات كل منهم بدقة متناهية جعلت القارئ وكأنه يعيش بينهم: الأول شاب طموح بدأ طموحه بمحاولة نشر ديوان له ثم بمحاولات مشاركة في دار نشر وجريدة وتشوف إلى تأسيس قناة تلفزيونية، أراد تأسيس دار نشر وحده عندما انكشفت له ألاعيب “بخيت” وخدعه العديدة. أنشأ جريدته.. لكنه ترك كل ذلك خلفه وعاد إلى مقر إقامته عندما وقف على حقيقة الأمور، ثم “بخيت” الثعلب المراوغ، و”ببلاوي” الذي تبين لنا القصة ضعف نفسه الفقيرة إلى أي من المعاني الإنسانية. إلى جانب أولئك كانت هناك شخصيات ثانوية وأخرى هامشية، لكن لكل منها دورها المهم في تحريك أحداث القصة كلل. فهناك “مها” ابنة “بخيت” بالتبني والتي قال فيها المؤلف “حضراوي”: “.. إلا أني كنت أرى فيها دونا عن كل من قابلتهم وصادفتهم بمصر من الجنس “اللطيف”، صفات الفرعنة والكيدنة التي درست نماذجها عبر التاريخ القديم، سواء لمصر أو لغيرها من الحضارات”، “.. كان لا بد أن تتنافر القلوب في مصر بسبب امرأة مصرية، جينات امرأة العزيز والنسوة اللائي قطعن أيديهن ما زالت تتنقل في كل حين في أرض الفراعنة.. “، “..لم أكن أختصر كل هذه الصفات في امرأة العزيز لأن دافعها كان الحب والشغف، بل في سالومي لأن دوافعها كانت البغض، فلم تكن تهدأ إلا إذا فرقت.. ” أقواله السابقة تلك في “مها” تنقلنا إلى قدرة المبدع في توظيف الرموز التاريخية في قصته، فقد كان يستحضرها للوصف والدلالة والترميز. كما في قوله كذلك عمن آذاه في مصر “..تناسيت تماما أنها كانت -أي مصر- مهد فرعون وهامان وقارون أيضا، لكن صورة بدن فرعون الغريق الممدد في أحد توابيت المتحف المصري الزجاجية خدعتني حينما اعتقدت ولوهلة، أن آخر فرعون يمكن أن تعرفه مصر أصبح أيضا ممددا على فراش بعد أن أغرق طوفان شباب ثورة  25 يناير عرشه، هكذا يتموقع دائما حال الجبروت والطغيان..”.

تميزت الرواية التي بين “أيدينا” بعنوانها المعبر فالشراك حبال الصيد، المصيدة والكمين. فقد أحس “حضراوي” بل وتأكد أن “بخيت” و”ببلاوي” قد نصبا له الفخاخ ليقع فيها، فهي لم تكن فخا واحدا بل فخاخ كل واحد منها يفضي إلى آخر. أحس أنه كما السمكة صغيرة التي وقعت في شراك صياد ماهر وأنى لها الخلاص وقد أحكم الصياد شراكه.

تميزت القصة بتشبيهات واستعارات وكنايات جملت الكثير من سطور وفقرات الرواية، والغريب أن أجمل وصف كان للعدو الأول للبطل في قصته إذ وصفه بقوله: “.. فُتح الباب السحري فرأيته واقفا أمامي بابتسامته السحرية وعينيه المشتعلتين، وسحنته النوبية وشعره الأجعد.. “، وكذلك وصفه للقاهرة إذ يقول: “..لم تستطع عيناي أن تركز على جغرافية هذه المدينة الضاربة جذورها في القدم أبدا، فقد كانت دائما صورتها التاريخية هي التي تدغدغ مخيلتي وتسبح بها فيما اصطلح عليه بأمجاد مصر، وكأني أودع هذا المنظر الرائع إلى الأبد..” وفي قوله كذلك: “..أصبح خداي أشد حمرة من كلماته من خدود عذراء ليلة خطبتها..”.

“حضراوي” هو مؤلف القصة بشقيها، وهو البطل والراوي والمتحكم الوحيد بالسرد، لا يحكمه إلا ضميره، وهذا بالتأكيد يحمله مسؤولية أخلاقية ومعرفية، فهو وإن كان المظلوم إلا أنه دارس للقانون يدرك نتائج كل ادعاء يدعيه، وكل كلمة يتلفظ بها. يمتلك وثائقه التي تثبت دعاويه كلها. ورغم التحديات التي واجهته، والإشكاليات والمفارقات التي حدثت إلا أنه تصرف وفق ثقافته هو ولم يعاملهم وفق ثقافاتهم. لم يتأثر بأخلاقياتهم ليعاملهم بالمثل، بل ترفع عن كل ذلك. شخصيته بقيت كما هي لم تتأثر بسواد نفوسهم. وكان انتقامه الوحيد بأن فضح ألاعيبهم وحيلهم كي لا يقع غيره بشباكهم ومصائدهم. كان هذا هو الهدف الأسمى لإبداعه. أسهب بذكر تفاصيل التفاصيل كما أية رواية ليعيش القارئ الأحداث كما شخوصها. وهي -أي الرواية- وإن لم تكن نتيجة إبداع مخيلة فنان إلا أنها تثير مخيلة القارئ ليتصور كل التفاصيل كما وقعت بالفعل، فقد أخذ “حضراوي” يرسم بالحروف والكلمات والعبارات كما رسام، وإن كان الرسام ينهي عمله بلوحة فهو قد أنهى عمله بعدة لوحات واضحة المعالم. والملفت أنها وإن كانت رواية واحدة بكل تفصيلاتها إلا أنها عدة قصص في رواية. وهي وإن كانت قصة واحدة في النصب والاحتيال إلا أنهما روايتين حقيقيتين. روايته الأولى عن الشراك الذي أوقعه فيه “بخيت”، والرواية الثانية عن تلك العصابة التي شكلها “الببلاوي” وزوجته. فكانت في القصة عدة حبكات احتاجت من الراوي التمييز بينها. ولهذا وصل بنا المؤلف إلى حالة من الترقب والدهشة وملاحقة الأحداث بكل الشغف الذي يود فيه القارئ الوصول إلى الخاتمة، وهنا ليس من خاتمة إلى الآن، بل توقف لمجرى الحقيقة عند مصبها من نهر الكلمات والعبارات حتى بحر الحياة بل محيطها، ليبقى الصياد واقفا على الشاطئ يحمل شباكه لمزيد من الضحايا، يلوح بتلك الشباك في وجه ضحيته غير عابئ بالنتائج وكأنه ليس معنيا بتلك القصة ولا بأحداثها. بل ويقف ليدعي أنه المظلوم وهو الظالم، وأنه وهو الظالم مظلوما، إلى هذه الدرجة تقلب الأمور رأسا على عقب.
 نقل لنا المؤلف خبرته واختباره لبعض دور النشر وطرق تحايل أصحابها على المؤلفين. وطرح لنا معالجته لقيم هؤلاء الفاسدة والتي لا يرجون إلا المادة وحدها، يودون نيلها دون مقابل من فعل. لا يراعون ذمة ولا ضميرا، وكأنما إبداع المبدع مجرد أوراق تسوّدها الأقلام فتستحق الإلقاء في سلة المهملات أو تكدس على شرفات منازل ومكاتب أولئك. وكان هذا أهم أهداف القصة ككل واحد.
القصة بحد ذاتها سرد تسجيلي توثيقي  ولكن صيغت من خلال خبرة وفن شاعر ذو ذائقية جمالية مرهفة. تحدث فيها المؤلف كما يتحدث الصديق إلى صديقه يشكو له ما حصل بالضبط. ورغم ذلك السرد التسجيلي والتوثيقي إلا أن التشويق كان من أولى الأحداث واستمر حتى نهايتها ولم ينته بعد. تحدث المؤلف عن لقائه بشخص ما في القطار أثناء عودته من العمل، وحكى تفاصيل لقائه به وظنونه اتجاه تصرفاته معه وأقواله له وجملته التي قال فيها: “صافحني بحرارة وهو يهم بالنزول وكأنه وجد ضالته أو ربما فريسته”. من تلك الأحداث وحتى كتابته للبيان، لم تخل القصة من إثارة وتشويق يزدادان مع كل حدث يستجد. والبيان كان رسالة مفتوحة وجهها المؤلف إلى “بخيت”، يطالبه فيها بتسوية الأمور العالقة بينهما وسداد الديون. وهكذا نرى أن المؤلف قد قص علينا أو بالأحرى كتب قصة متكاملة العناصر، بل ومتميزة بصدقيتها كما تميز هو بإبداعه في كتابتها. فهناك الأشخاص الذين نسجوا أحداث الرواية: البطل وهو المؤلف، والخصم الرئيس وهو هنا في هذه الرواية من القصة “بخيت” بالدرجة الأولى، ثم يأتي بعده “الببلاوي” وزوجته، وتأتي “مها”. ثم لتكون هناك شخصية محايدة ومحببة إلى نفس المؤلف هي شخصية مصمم الأغلفة، ثم العديد من الشخصيات الهامشية سواء تلك التي اصطدم بها أو تفاعل معها أو تفاعلت معه. أما الحبكة الدرامية فقد صنعها تلاقي أقدار هؤلاء كلهم في وقت واحد من تاريخ مصر، هو تاريخ ثورة الربيع العربي هناك. فقد شارك المؤلف في الحدث ذاك من خلال تأليف قصيدته “الفرعون الأخير” وإلقائها في ساحة ميدان التحرير، من على المنصة التي كان عليها يومها الكثير من قيادات الثورة، حافظ سلامة بطل وقائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس، عبد الرحمن يوسف الشاعر، الداعية صفوت حجازي، محمد البلتاجي وأسامة ياسين، د. محمد العوا، أيمن نور.. ، فكانت لحظة تاريخية بالنسبة له ولمصر بالفعل.
 وأرى أن أهم ما ميز هذه الرواية تلك المفارقات الغرائبية والشديدة والتي سبق لنا ذكرها في ثنايا القراءة والمتناقضات كذلك، والمشاعر العميقة التي انتابت المؤلف والتي كانت تميد به نحو حب مصر التاريخية وأهلها الذين اتسموا بالطيبة وعرفوا بها وما يواجهه في خضم وقائع تحدث له بالفعل مع أفراد يعايشهم ويبادلهم التعامل يبدون، على النقيض تماما وكأنهم من عالم سوداوي الكيان. هذه الأحداث الدرامية التي لم يجد لها المؤلف سببا حقيقيا يدفع هؤلاء إليها. تبدأ التعقيدات معهم ولا تحل ولا تنتهي بل تزيد تعقيدا. جعلوه يعيش قلقا لا مبرر حقيقي له إلا أطماعهم بماله ونفسه الكريمة وحسن أخلاقه. وقد ألحق المؤلف هذه الرواية بقصيدة تحمل عنوان: “كليم النيل” سنعمل على قراءتها والتعليق عليها كتتمة لقراءة الرواية ذاتها. وإني لأرجو أن أكون قد أنصفت المؤلف وروايته وبحق.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here