“التسمية بالجملة وما أشبه :
شاب قرناها وأعلام أُخر” :
شاهدت فيلماً أمريكيا رائعا اسمه ( الراقص مع الذئاب ) يتحدث عن تدفق الأوربيين على العالم الجديد منذ القرن الخامس عشر، وظلمهم سكانه الأصليين الذين عُرفوا تاليا باسم الهنود الحمر .. إلى أن تمّت إبادتهم تقريبا لصالح المحتل الجديد..
وقد لفت نظري في الفيلم أن البطل الأبيض سمّاه السكان الأصليون ( الراقص مع الذئاب ) لأنه كان يشوي من صيده ليلا، فتأتي الذئاب الجائعة تقترب منه ليرمي لها ما يزيد عن حاجته من اللحم .. ثم يقوم فيرقص منتشيا على ضوﺀ النار بمحضر الذئاب …
هذه التسمية المرتجلة تفسر لنا نمطا من التفكير في إطلاق أسماﺀ الأعلام، فقد عرف العرب الجاهليون هذا النمط ومن ذلك:
– تسمية امرأة ب ( شاب قرناها ) :
ولعل ذلك حدث حين كبرت المرأة واشتعل شيب طرفي الرأس من جهة الجبين ( مكان القرنين المفترضين ) .. فتُنوسي اسمها الحقيقي وغلب عليها الاسم المرتجل بصيغته التركيبية تركيب إسناد.
ومن شواهد سيبويه في كتابه :
كذبتم وبيتِ اللهِ لا تنكحونها
بني شابَ قرناها تصرُّ وتحلبُ
يقول صاحب البيت ( وينسب إلى بني أسد ) :
لن تتزوجوا هذه الفتاة .. يا أبناﺀ الراعية ” شاب قرناها ” التي تربط على ضروع الحيوانات الحَلوب وتحلبها ..
والحلب والصرّ مهنة يترفع عنها علية القوم ويتركونها للعبيد والإماﺀ ..
ولذلك حين طالب بنو عبس من عنترة أن يهاجم أعداﺀهم قال لهم :
العبد يحسن الحلب والصرّ ولا يحسن الكرّ
فقالوا له : كُرّ وأنت حرّ
فالبيت المذكور يعبر عن فارق طبقي بين أبناﺀ شاب قرناها وأهل الفتاة التي يريدون الاقتران بها ..
فكأن الشاعر يقول لهم : أنتم خدم ونحن سادة ولا يمكن أن تتزوجوها.
وقد علمت أن للشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني قصيدة بعنوان ( رحلة ابن شاب قرناها )، وجعل عنوان القصيدة اسما لمجموعة شعرية لم تنشر في حياته.
وقد قرأت القصيدة المطولة فوجدتها لا تليق بتراث الشاعر الكبير وتجربته الشعرية المتميزة.
– تأبّط شرا : وهو شاعر جاهلي اسمه أصلا ( ثابت بن جابر الفهمي )، فغلب عليه أن يقال له ( تأبط شرا ) ولهم في ذلك تفسيرات متعددة منها أنه كان إذا تأبط سيفه خرج في شرّ، ومنها أنه صاد الغول وحمله تحت إبطه ( الغول حيوان خرافي فلعله اصطاد حيوانا نادرا )، ومنها أنه حمل لأمه ذات يوم جرابا ( كيسا ) مملوﺀا بالأفاعي … إلخ
– برقَ نحرُه : ولعل ذلك أن أحدهم لبس ما تلبسه النساﺀ فبقي على نحره شيﺀ من زينتهن، فدعي بذلك تندرا واستخفافا ولهوا.
– جادَ الحقُّ :
و(جاد) هو أحد الأسباط أبناﺀ النبي يعقوب الاثني عشر عليه السلام. لكن العرب يدرسون هذا الاسم ( جادَ الحقُّ ) على أنه من التسمية بالجملة.
وأشهر من كان اسمه كذلك شيخ الأزهر قبل عقود صاحب الفضيلة ( جادَ الحقُّ جادَ الحقُّ ) رحمه الله تعالى ( 1917- 1996م )
اسمه : جادَ الحقُّ
واسم عائلته التي ينسب إليها كذلك : جادَ الحقُّ.
– أعلام أعجمية :
وينتشر عند المسلمين العجم تسميات عَلَمية عجيبة .. فقد تسمع أن أحدهم اسمه ( بسم الله الرحمن الرحيم )، وكان في إيران صحفي اسمه ( ما شاﺀ الله شمسُ الواعظين )، وبعضهم يسمي ابنه ( حسبنا الله ونعم الوكيل )، وآخر ( لا حول ولا قوة إلا باللله ) .. وكان أحد الإعلاميين الأفغان اسمه ( اللهُ رحمن ) وعجبت أن صاحب القناة الفضائية وهو يسأل هذا الإعلامي يقول له :
– أستاذ الله .. ما ذا تتوقع … ؟
وهذا من سوﺀ الأدب والجهل أن يسمي أحدهم ابنه (الله رحمن)
ولو سماه : عبد الله الرحمن، لأصاب وارتفع عن درك الجهل ..
– طرفة تاريخية :
وقيل إن تيمورلنك اجتمع بجُحا ( نصر الدين خوجه ) فقال الطاغية للشيخ :
أنتم تسمون خلفاﺀكم بمثل : المعتصم بالله – المعتمد على الله – المتوكل على الله …. إلخ
فأريد منك أن تفكر لي بلقب على القياس نفسه..
فقال له جحا :
أنتَ ( أعوذُ بالله ) ..
– إعراب هذه الأعلام :
وتعرب هذه الأعلام على الحكاية، فإعرابها في أبياتي هذه يليها:
( تأبّطَ شرّاً ) سارَ بالسيفِ غازياً
إلى أنْ رأى بينَ الشِّياهِ عجوزا
رأى ( شابَ قرناها ) تصرُّ حَلوبةً
وتحلبُ أخرى لا تصدُّ عزيزا
سقتْهُ حليبَ الشّاﺀِ والماﺀَ بارداً
وقالَ بظلٍّ ساعةً لِيَجوزا
( برقْ نحرُهُ ) قد مرَّ بعدُ تَمختُراً
وإبداعُ ( جادَ الحقُّ ) ذاعَ رُجوزا
وعنْ رجَزِ الأعرابِ تسمو إلى العُلا
( قفا نبكِ ) قد صِيدَ الجمالُ وحِيزا
– ( تأبّطَ شرّاً ) : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها الحكاية.
– ( شاب قرناها ) : مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة المقدرة منع من ظهورها الحكاية.
– ( برقَ نحرُهُ ) : مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها الحكاية :
” وقد سكنت قاف ( برق) في الأبيات ضرورة ”
– ( جادَ الحقُّ ) : مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة المقدرة منع من ظهورها الحكاية.
– ( قفا نبك ) : فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها الحكاية.
وهكذا الشأن إن سميت سورة الإخلاص ب ( قلْ هوَ اللهُ أحد )، أو سميت الفاتحة ( الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ) .. تحلُّ الجملة محلّ الاسم المفرد. ونلتزم داخل الجملة المتخذة اسما بحكايتها كما هي في الأصل، وتأخذ هذه الجملة إعراب الاسم المفرد وتُقدَّر الحركات جميعا إذ تمنع الحكاية ظهورها.
والله تعالى أعلم.
حلب :2022/6/12م