لقد أوقع العالم الرقمي الإنسان في قيم الزيف والوهم والكذب، واستخدم تقنيات كثيرة مثل تقنية )Deepfake ( لقلب حقائق الواقع حتى يصبح الكذب صدقا، والوهم حقا، إلى درجة استحالة التمييز بين الواقع المطبوع، والواقع المصنوع، وفي هذا انقلاب للقيم ما بعده انقلاب.
هـذه التقنيات تتحدى الواقـع لتصنع واقعا لهـا، متوسـلة بكـل معـطيات الـواقـع الطبيـعي و الحقيقي من أجل صناعة واقعها.
إن عدمَ نسيان الآلة الرقمية كل المعلومات المسجلة فيها ضربٌ لقيمة النسيان التي تميز الإنسان في معاملاته، إذ إن النسيان قد يكون وسيلة للتسامح و استئناف علاقات جديدة تبني ولا تهدم وترفع ولا تضع، بينما عدم نسيان الأحقاد والعورات ليس إلا وسيلة للتصارع والتقاتل.
ولا ينفع هنا اعتراض المعترض بأن عدم النسيان قد يكون توثيقا للخير، و بالتالي مجاوزة الصراع السابق، ذلك بأن عدم نسيان الخير رتبة خلقية لا يوصل إليها الفعل الآلي، إذ إن الأصل في من لم يحصل هذه الرتبة هو نسيان ذلك الخير أصلا أو تناسيه عمدا، خدمة لمصلحته المادية و تحقيقا لمنفعته الحسية.
ومعلوم أن تذكر المعروف و عدم نسيان الجميل قيمة عليا لا تدرك الآلة معانيها الخفية ولا أخلاقها السنية، حتى وإن حفظت ظاهرها وصورتها، هذا فضلا عما أكسبته الآلة
للإنسان في الزمن الرقمي من أوصافها الإجرائية والتقنية حتى فصلته عن عمقه القيمي بكل ما فيه من معانٍ سامية وتذوقات راقية .
هذا، زيادة على أن النسيان في سياق بناء الأخلاق وتوثيق العلاقات هو كمال للإنسان لا نقصا له، كما كان كمالا للتعريف في أصل الاشتقاق الذي يعتبر الإنسان إنسانا لأنه ينسى.
وإذا كان من الاشتقاق أن الإنسان سمي كذلك لأنه يأنس بغيره، فإن الأنس لا يتحقق دون نسيان هفوات بعضنا تغاضيا وتجاوزا وتسامحا، إذ لولا هذا النسيان، لما استقرت علاقة ولا بالأولى توثقت صلة سواء أ كانت في الأسرة أو فـي الصداقة أو في غيـرهما من العلاقات و الصلات التي تطوي داخلها كل القيم التي يقوم بها الإنسان.
ولنا في الخزان التداولي الإنساني ما يزكي هذا، إذ نجد عبارات ومسكوكات مثل )نحن أبناء اليوم( و)ما فات مات( و)الإسلام يَجبُّ ما قبله( تدعم النسيان الذي يحقق به الإنسان كماله، لا النسيان الذي يكرس به هلاكه، من قبيل النسيان الذي أهبط بني آدم قيمِياً قبل أن يخرجهم من الجنة وينزلهم إلى الأرض.
إن العالم الرقمي حَرَمَ الإنسانَ من حقه في الارتقاء الوجداني و السمو الخلقي، إذ إنه حصره في منظومة من الإجراءات التي تتميز بها الآلة، صورة وضوءا وشبكة، وغيرها من المميزات الآلية التي تتسم بالجمود، لخلوها من المعاني التي تعطي للأفعال دلالتها الخلقية.
هكذا تساهم الرقميات في تقزيم دلالة حياة الإنسان، إذ تقصرها على الدلالة المادية، مضَيعَِةً بذلك ما في الحياة من دلالات روحية تحقق للإنسان سموه وكماله وعلوه بشكل لا تحققه الدلالة المادية المحدودة.
إن انبهار الإنسان بفتوحات العالم الرقمي وإنجازاته التي لم يعرفها التاريخ من قبل ،جعلته يدخل في غيبوبة جمدته على واقعه، بحيث فقد معها القدرة على تحسس كل جوانب زمنه فضلا عن استشراف مستقبله، فأضحى جامدا في محله غير قادر على الحركة ليرى موقعه داخل الكون.
كل هذا الانبهار و التحير جعله يقترن بوصف الرقمية اقتران ازدواج، بحيث أصبح يرجو أن يفعل كما تفعل الآلة الرقمية في أفعالها الإجرائية وحركاتها التقنية حتى تجرد من إنسانيته وخرج عن طبعه، ساقطا في درك الآلية، ومعلوم أنه لا مخرِج للبشر من حقيقتهم من دخول فعل الآلة على سلوكهم وتصرفاتهم.
وبذلك ينتفي كل معنى للقيم، إذ يصبح فعل التضحية مثلا بلا معنى، لأنه ليس إجراء ولا تقنية، فضلا عن غياب كل مكسب مادي من ورائه، فالزمن الرقمي لا يرسخ في الكائنات ربحا أعظم من الربح المادي، بحيث يضحى الربح المعنوي بلا قيمة ولا مضمون.
وهكذا يكون الإنسان قد تنازل عن روحه الذي يرتقي به إلى أعلى مراتب إنسانيته، كما يكون قد تخلى عن شعوره الذي يسمو به إلى أزكى معاني حياته.
لقد جعل الزمن الرقمي من البشر مجرد كائنات تنفيذية، بمعزل عن أهم مميز للإنسان، وهو الحرية والاختيار، فالكينونة التنفيذية التي ألبسه إياها هذا الزمن، جعلته خاضعا للبرمجة مثله مثل الأجهزة المصنوعة، ومادام قد برمج، يكون قد خرج من طوره الإنساني المميز بالحرية إلى طوره الرقمي المميز بالحتمية، وبذلك يصبح كائنا تنفيذيا ينفذ ما شاءه منه مبرمجه وفق توليفة معينة تكون أشبه بما تفعله الخوارزميات في البرامج الحاسوبية.
وضميمة لما سبق، فإن من الانقلابات الجوهرية التي أحدثها الزمن الرقمي في الإنسان عدم اكتفائه باقتحام فضائه العام، إذ صار إلى اقتحام فضائه الخاص أكثر إصرارا، عن طريق استدراجه عبر وسائل التواصل الاجتماعي و)الميتافيرس( إلى فضح كل
خصوصياته و حميمياته جلبا لأكبر عدد من المشاهدات والتعليقات و الاستيطان في الإنترنيت بواسطة )الأفاتارات(، وبالتالي طمعا في أكبر قدر من الأرباح و العائدات.
وبناء على ما ذكر، يكون الإنسان قد انتقل من طور الطي و الستر، إلى طور الفضح والنشر، بحيث يتعذر عليه في حال ندمه )وهذا شعور إنساني نبيل( أن يستأنف حياته
بطريقة عادية، لكونه با ت كائنا مفضوحا تلاحقه فضائحه أينما سار وذهب، وتذكِّره ذاكرات الرقميات بما كان يفتخر به، وصار إلى التواري منه، حين استرجع عمقه الإنساني، ولات حين مندم.
ذلك بأن التواري خرج عن ملكه لكونه تنازل عن حقه في امتلاك خصوصياته متى مَلكََّها غيره من الناظرين والمتابعين، ونتيجة لذلك، يفقد حتى حقه في طريق العودة إلى صافي إنسانيته وخالص آدميته.
انطلاقا مما سبق، ومن مبدإ حرية الإنسان، فإن الذكاء الصناعي لا يمكن أن يتحمل مسئولية ولا أن يعبر عن إرادة كشأن بني آدم، فهل تتحمل الآلة الرقمية مسئولية الخطإ الطبي حالة وقوعه، وهل سيتدخل القانون لعقابها وجزائها، وحتى لو فرِض وقوع هذا العقاب، فما الجدوى منه، وهل ستبقى للقانون سلطة أو قيمة أو حكمة في مستقبل عالم تحكمه الرقميات.
وبالنسبة للتعبير عن الإرادة، فالإنسان يأكل الطعام خضوعا لحاجة غَرَزِيَّة، كما أن الآلة تشحن بالطاقة خضوعا لحاجة مادية، لكن هل تستطيع هذه الآلة اتخاذ قرار الصيام ليوم واحد، فضلا عن إدراكها لمعانيه ومدلولاته ومقاصده.
الإنسان وحده هو القادر على اتخاذ هذا القرار، لأن الصيام هو أسمى عبارة عن الإرادة، كما أنه أرقى إشارة إلى الحرية.
وبالنظر إلى سؤال الفن الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات بل المصنوعات كالآلة
الرقمية، فقد يعترض معترض مقدما دعوى معاصرة مفادها قدرة بعض الأنظمة الحاسوبية على كتابة الرواية، أو تأليف بعض المقاطع التي ظنوها فنية لوقوعهم في غيبوبة الانبهار بسبب الفعل الرقمي في الزمن الراهن، والجواب هو الآتي:
ـ أ ـ إن الرواية المعاصرة قد تخلت عن عمقها الفني الذي كان يعبر عن روح الإنسان، ذلك بأنها تأثرت أشد التأثر بالمنهج العلمي في التحليل و التجريب، ومادامت كذلك فإن الحاسوب بِفعل ما سَمو ه ذكاءً يكون أعم إحاطة بهذا المنهج، و من ثمة لن تستعصي عليه كتابة رواية علمية أكثر منها فنية.
ـ ب ـ إن ملاحِظَ شخصيات الرواية المعاصرة سيكتشف بناء على ما ذكر في ـ أ ـ أنها انحدرت من مستوى الشخصية ذات الفرادة والطبيعة البشرية، إلى مستوى الشيء والمادة، ومعلوم أنها إذا خَلت من الوجدان أصبحت مظهرا لا يستعصي على فعل الآلة الإجرائي بناؤه وإنشاؤه.
ـ ت ـ إن العلاقات القائمة بين الشخصيات في الرواية المعاصرة علاقات آلية، تغَيِّب كل المشاعر الوجدانية، و تحضر مجموعة من الأنشطة والإجراءات التحليلية، حتى تصبح تلكم العلاقات في أمتن أحوالها علاقة سبب بنتيجة، ومعلوم ألا علاقة أنسب للتحليل العلمي من هذه العلاقة التي يتقنها الحاسوب أيما إتقان.
ـ ث ـ إن النقد الذي تناول الرواية المعاصرة هو نقد معجَبٌ في غالبه بالمناهج العلمية التحليلية، وبذلك وقع في تمجيد هذه الرواية التي اتخذت لها معايير تنأى عن المعايير الفنية الأدبية التي يجب أن تكون في الأصل هي الحكم في التقويم.
ولذلك وجدنا كثيرا من النقاد يعتمدون نظريات علمية محضة تتعلق بالفيزياء وجراحة الأعصاب وغيرها، فيخرجونها عن مجالها ويسقطونها على مجال بعيد كل البعد عن الأول، فكأنهم يريدون أن يتعاملوا بقانون الجسد مع الروح أو بمقاييس المادة مع المعاني، وهذا خلل في المنهج كبير لو كانوا يعلمون.
هذا فضلا عما فيه من اشتطاط نتيجة محق الاختلاف بين المعارف واستتباع أغلبها للقانون العلمي التجريبي والمادي، دون اعتراف بالاعتبار المعنوي لكل معرفة معرفة .
وفي الختام ،يبقى السؤال موضوعا حول قدرة الإنسان على إنقاذ نفسه من سابق تعاقده مع الزمن الرقمي، مادام هذا التعاقد مازال في طوره الضمني وقبل أن يقفز إلى طوره الرسمي فيستعبدَ الإنسان أسَوَأَ مما استعبده في الزمن الغابر، فيضيع منه وجوده وتاريخه، كما
أصبحت تضيع منه ثقافته وكينونته، خاصة مع ظهور تقنية تصرف الإنسان عن حضوره الواقعي وواقعه الحضاري، ليصبح مواطنا أو)أفاتارا( داخل مدينة الإنترنيت التي تلغي بعد العالم الحقيقي، مدخلة الإنسان في متاهات الماوراء وغيبوباته، حتى تغرقه في مزيد من الوهم والتيه، بعيدا عن سؤال المعنى و القيم.
وما عليه حينها إلا أن ينتظر ـ إن سمح له بالوجود ـ إنهاءَ الزمن الرقمي دور تهَ، بكل عجَرِ ها و بجَرِ ها، ثم يلَملِم نفسَه ليستأنف دورة جديدة لا ندري بما هي آتية.