و هي في الصف الثالث كانت ترى معلمتها النموذج المثالي للتأسي به،كانت تراها تصيب في كل شيء ولا تخطئ ابدا.
ترعرعرت نزهة في عائلة لا تؤمن إلا بقدرات الذكور ولا تهتم بتعليم البنات ،فيقولون :” البيت للبنت،و الدراسة و العمل للولد”،إلا أن والدها كان مختلفا تماما عن باقي اخوته و باقي رجال القرية ،كما أنه رزق بأربع بنات ،و كانوا يسخرون منه و سمع ما سمع منهم غير ان كلامهم لم يحرك فيه ساكنا، راضيا بما اعطاه الله و قائلا :” بناتي هن نبضي الذي لا ينقطع ،و ستكون كل واحدة منهن بألف رجل ” ، طرد الحاج عبد الله من القرية لان الشيخ اعتبره فاسدا بعدما قرر تدريس بنته الكبرى نزهة في مدرسة لا يلجها إلا الذكور، تحدى الصعاب ،و خالف كلام الصحاب ،و رحل الى قرية اخرى ،ادخلها المدرسة ،فتعلقت بحب مدرستها السعدية و عدّتها قدوة لها ،كما أن السعدية كانت تعير نزهة اهتماما شديدا كونها لا تنجب البنات ،و لأن نزهة الوحيدة في صفوف مئات الذكور .
و في إحدى الليالي المضاءة بضوء القمر، سأل الحاج عبد الله نزهة : ” ما العمل الذي تودين مزاولته عندما تكبرين،بنيتي؟”
فردت و الفرح يملأ مقلتيها:” أستاذة يا أبي”
-الحاج:”جيد! و لم التعليم يا نزهة؟ “
-نزهة:” صحيح يا أبي أن الوالدين هما اللذان يعلمان أطفالهما الكلام و لكن الأستاذ هو الذي يعلمنا كيف نحرك لساننا،كما أن التعليم مهنة شريفة هدفها التبليغ ،و التبليغ مهنة الانبياء .”
الحاج:”بارك الله فيك يا نزهة!”
نزهة:” أرجو من الله أن يطيل في عمرك يا أبي حتى تراني أحسن أستاذة كمعلمتي السعدية”
كبرت نزهة عاما بعد عام و هي تردد عبارة واحدة :”لن أبرح حتى أبلغ” .
أصبح عمرها الآن 25 سنة و بالفعل بلغت مرادها،و هي أستاذة للغة العربية بالسلك الثانوي، بعدما انتقلت للعيش و اسرتها بالرباط، و حققت مبتغاها، فجأة،ستجد نفسها مكبلة بقيود التعاقد ،صمتت في الاول ،لكن الشيء زاد عن حده ،فنطق صمتها مطالبا بحقه بالادماج في سلك الوظيفة العمومية،بدأت تخرج و اصدقاءها الذين يربطهم بها نفس المآل إلى شوارع المدينة للمطالبة بحقوقهم و الدفاع بكل حرقة عن المدرسة العمومية ،فاعتبرت مجرمة لأنها نادت بمطالبها و مطالب اطفال الشعب، و رغم ذلك فإن كثيرا من أولياء أمور التلاميذ يشتمونها و يسبونها لأنها هجرت القسم دفاعا عن حقوق اطفالهم الذين لا يستطيعون تدريسهم بمدارس خاصة ،و بعد أن كان للمعلم مكانة عظيمة في المجتمع ، و كانت تحترم من لدن اي كان (فلاح بسيط او دكتور اكاديمي)،و كان يقال “ابتعد عن المعلم سبع خطوات حتى لا تطأ على ظله بالخطأ”،و هاهو الان يُداس عليه عمدا،و يضرب ويعنف،و ينكل به،و يدخلونه السجون،و هاهو الحاج عبد الله بعد أن كان يرى مهنة نزهة شريفة و لا يمكن المساس بها ابدا،ولو بكلمة،ولو بحرف ،يراها الآن يزج بها في الاحباس و ذنبها الوحيد أنها أستاذة ..