سمعت صوت الجرس. وضعت الكتاب الذي كنت أحمله على الطاولة ونظرت إلى ساعة الحائط. كانت تشير إلى السادسة مساء ولم أكن أنتظر أحداً.
فتحت باب الشقة ووجدت وجهها الذي غطاه الدمع:
- ماذا حدث..؟ قلت بقلق..
نظرت إلي لثوانٍ.. كان الدمع قد سال مرافقاً كحل عينيها على وجهها.. وجدتها تقفز مرتمية على صدري.. دفنت وجهها وهي تقول بانهيار:
- لقد انتهى كل شيء..
ترددت لثوانٍ قبل أن أضع كفي على كتفيها وأربت عليهما وأنا أحاول تهدئتها قائلاً دون أن أفهم الموضوع أن كل شيء سيكون على ما يرام.
كان وجهها ما يزال مدفوناً في صدري حينما قلت لها أن علينا أن نتحدث في الداخل.
قدتها إلى الصالة لتجلس ببطء على الأريكة وتستغرق في مسح عينيها وأنفها بمنديل ورقي في حين كنت أجلس قربها قائلاً:
- إهدئي وأخبريني ماذا حدث.. أنا قلق فعلاً..
قالت أخيراً بصوت باك:
- لقد تعاركنا أنا وهو..
- هذا كل شيء؟
قلت بنبرة من تنفس الصعداء مردفاً: ظننت أن أمراً أكبر حدث.
- لا يوجد أمر أكبر من هذا.
قالت بشكل درامي في حين كنت أقول محاولاً التخفيف عنها:
- لا أقصد شيئاً ولكن تعارككما أمر عادي.. أنا مذ تعرفت عليكما وأنتما لا يمر عليكما أسبوع دون عراك أو مشاجرة، ثم تعودان مجدداً وكأن شيئاً لم يكن.
بدت أكثر هدوءاً وهي تقول:
- ولكن هذه المرة الأمر مختلف.. لقد تحدث عن اختلاف الثقافة والأخلاق وقال أنه لن يستطيع الاستمرار معي..
- ماذا كان يقصد؟ قلت باستغراب، ثم قمت من مكاني قائلاً:
- دعيني أحضر لك كوب عصير ليمون.. لقد صنعته قبل قليل وهو جيد فعلاً.
لم ترد وأنا بدوري لم أنتظر إجابتها. ذهبت لاحضار الكوب وقدمته لها لتحمله ثم قمت بتقريب طاولة صغيرة معيداً سؤالي:
- حسناً، قولي لي ماذا كان يقصد باختلاف الثقافة والأخلاق؟
أخذت رشفة صغيرة من عصير الليمون قبل أن تضعه على الطاولة بتوتر قائلة:
- هذا الأمر كان أساس جميع اختلافاتنا.. كوني ولدت هنا، في هذا البلد الأوروبي، وكونه قدم حديثاً فقط للدراسة. هو يؤمن بأن نظرتي للأمور وللعادات تختلف عن نظرته ولذلك فهو يقول أنني أبدو أقرب لفتاة أوروبية.
أومأت برأسي وأنا أستمع إليها بانتباه قائلاً:
- على العكس منه أنا لا أراك فتاة أوروبية حتى وإن كنت عشت حياتك كلها هنا. إن كان يقصد ما فهمته من أنك متحررة أخلاقياً.
تابعت شارحة:
- أنا أيضاً لا أصنف نفسي شديدة الانفتاح أو التحرر. ربما تكون ملابسي أوروبية لكنني من الداخل فتاة عربية عادية. ربما أكون مختلفة عن الفتيات اللواتي عشن في دولة عربية لأنني لا أفكر كثيراً ولا أملك القدرة على النفاق أو على التصرف بشكل متناقض، كما أنني أتصرف بطبيعية في حين يظن البعض ومنهم رفيقي أيضاً أنني إذا فعلت شيئاً فأنا أقصد شيئاً آخر. لا أعلم ما إذا ما كنت تفهمني وتفهم أن ذلك الشيء الآخر لم يكن على بالي وأنني إذا فكرت بشيء فسوف أتفوه به بلا تردد. هذا أيضاً أحد أسباب المشاكل بيننا أحياناً.
- كيف؟ تساءلت.
أوضحت قائلة:
- لأنني حينما يغضبني شيء منه أقوله له مباشرة وحين لا يعجبني شيء أيضاً أقول. هو يغضب أحياناً، لكنني لا أملك إلا أن أكون هكذا. لا أحب أن أكتم شيئاً أو أن أخبىء أي شيء أو إحساس.
قلت لها بصدق:
- ربما تكون ما تعتبرينها عيوباً هي ميزات يبحث الكثيرون عنها.
هي بدت مقتنعة بالعكس وهي تقول:
- لا أعتقد أن الناس تبحث عن هذا، أظن أنهم يبحثون عمن يخدعهم ويعطيهم من طرف اللسان حلاوة وشعراً. عمن لا يواجههم بأحاسيسه ولا انفعالاته.
أعجبني تعبيرها، لكنني لم أعلق عليه. عوضاً عن ذلك قلت:
- ولكن ما الذي حدث؟ أعني نقطة الخلاف الأخير. لم تخبريني.
- الذي حدث هو أننا كنا معاً، حينما قابلت مدربي الذي كنت أتمرن معه على التنس في الثانوية.
قالت ذلك ثم صمتت فحثثتها على المتابعة:
- ثم..؟
أردفت:
- ثم سلم علي وقبلني.. لم نكن قد التقينا منذ سنوات.
كررت:
- سلم عليك وماذا؟
- قبلني على وجنتي.. بشكل عادي.
نظرت إليها مرة أخرى وأنا أردد:
- بشكل عادي؟
نظرت إلى عيني بارتباك ثم تساءلت:
- وأنت أيضاً سيكون رد فعلك مثله؟ أنت تعيش هنا وتعلم ما أعنيه بقبلة تحية عادية.. ألا تقبّل أنت زميلاتك وصديقاتك؟
تهربت من الإجابة على سؤالها قائلاً:
- إذاً هذا هو الذي أغضبه.. أنا أتفهم شعوره..
- تتفهمه.. رددت.
أوضحت:
- نعم، أفهم أنه قد جاء من مكان ينتظر فيه المرء شهوراً طويلة قبل أن يحظى بقبلة من حبيبته أو حتى لمسة يد.
قاطعت نفسي قائلاً:
- ثم أنت من المفترض أن تكوني عالمة بشكل مسبق بطريقة تفكيره.. أنت من اخترت الارتباط بشخص وصل مؤخراً إلى هنا. كان بإمكانك اختيار شخص من المقيمين القدامى أو حتى من جنسية أخرى..
ربما خرجت عباراتي بشكل هجومي أكثر مما ينبغي. دمعت عيناها مرة أخرى، كأنها رأتني متحالفاً مع حبيبها ضدها. شرحت بصوت باكٍ أنها كانت تتجنب دائماً هذه الطريقة الأوروبية لإلقاء التحية وكانت تتجنب فعلاً كل ما يزعجه، ولكن ذلك المدرب فاجأها ولم تستطع صده..
- الأمر أكثر بساطة بكثير مما تفكرون فيه.
قالت ذلك بانهيار وهي تدفن وجهها الباكي بين كتفيها. من جانبي اعتذرت لها محاولاً أن أشرح وجهة نظري قائلاً:
- أنا متأكد من أنك أخذت الأمر ببساطة وأنه لم يكن بنيتك شيء، وربما يكون ذلك المدرب أيضاً كذلك. لكن بالنسبة لرفيقك فهذا أمر صعب القبول.
مسحت دمعها وهي تقول بحزن:
- هذا ما حدث على أي حال، ويبدو أن قصتنا انتهت فعلاً.
حاولت أن أخفف عنها وأنا أقترب منها قائلاً بشكل مازح:
- ما هذا التشاؤم الأحمق؟ إن قصة حبكما لا يمكن أن تنتهي بهذه البساطة. هو غاضب الآن بكل تأكيد ولكنه حين يهدأ ونتحدث معه سوف يتراجع عن كلماته الكبيرة والتي تدور حول اختلاف الثقافات والأخلاق.
تساءلت وهي تتعلق بكلماتي كغريق يرجو النجاة:
- هل تظن فعلاً أنه سيسامحني؟
طمأنتها قائلاً:
- أنا واثق من ذلك. ربما تكونين ارتكبت حماقة حسب وجهة نظره، ولكنها ذلك ليس جرماً كبيراً لحد إنهاء علاقتكما.
- أنا لست متأكدة من ذلك.
كانت ما تزال متشائمة وهي تردد ذلك في حين كنت أقول بدوري:
- أما أنا فمتأكد، ما أزال أذكر قلقه عليك حينما أصبت بالكورونا العام الماضي. كان كالمجنون فعلياً وظل ملازماً المشفى حتى خرجت منه. لا تقلقي سوف أتحدث معه غدًا وسوف أعقله.. هو يثق بي.
أخيراً خرجت ابتسامة مشرقة من بين غيوم دموعها وهي تقول:
- إن فعلت ذلك حقاً، فلن أنسى لك هذا الموقف.
- هذا واجبي. قلت بتواضع قبل أن أسأل:
- هل أكلت شيئاً؟
قامت من مكانها قائلة: لا.. منذ أن حدث هذا الموقف ظهر اليوم لم آكل شيئاً ولكنني سأعود إلى بيتي وآكل هناك.
قلت مازحاً:
- ليس الخروج من عندي ببساطة الدخول. سوف أستغلك لإعداد وجبة وسوف نأكل معاً.
ابتسمت قائلة وهي تمسح الدمع عن وجهها:
- أنا موافقة، ولكن ما اسم هذا استغلال أم ابتزاز؟
ضحكت بدوري قائلاً:
- اختاري ما يناسبك، لكن الأفضل هو أن تعتبريها خدمة لصديق أعزب.. تعالي معي.
قدتها إلى المطبخ مردفاً:
أحضر لي بعض الأصدقاء لحماً ومواد أخرى وكان يفترض أن نجتمع في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، لكنهم سافروا بشكل مفاجئ وأنا كما تعلمين صفر مطبخ.
أومأت برأسها قائلة:
- هل من العادة عندكم تشغيل الضيوف.؟
أجبتها بدوري:
- أين الضيوف هنا؟ أنت سيدة المنزل.
ابتسمت وهي تبدأ في اخراج أكوام اللحم قائلة:
- منطقك جيد. أنا موافقة على إعداد العشاء واللحم كذلك يبدو مختاراً بعناية.
قلت وأنا أخرج علب البهارات من مكانها:
- وأنا سأبقى معك لأساعدك.
قالت مازحة بصوت ضاحك:
- بالتأكيد سوف تبقى معي.. هل تظن أنني سأتركك ترتاح وأعد كل شيء وحدي؟
كنت سعيدًا بعودة ابتسامتها. راقبتها وهي تضع اللحم على المشواة. كانت هذه هي شخصيتها المرحة التي أعرفها. كانت محبة للحياة والأمل.
الحب هو لذة الحياة ومتعة الحياة لكن، لماذا تجعلك بعض قصص الحب حزيناً؟ لماذا تجعلك أكثر بؤساً وتعاسة مما كنت؟ هذا سؤال لم أعرف اجابته ولا أعرف ما إذا كان العشاق يتلذذون في بعض الأحيان بذلك الوجع في حين كان بإمكانهم دائماً الانسحاب وإراحة أنفسهم من كل هذا الضغط.
كانت ما تزال تقلب قطع اللحم حينما قالت فجأة:
- لقد سألتني لماذا لم أختر شخصاً مولوداً هنا مثلي أو شخصاً من جنسية أخرى. حسناً.. هو أيضاً كان بإمكانه أن يرتبط بفتاة تقليدية يمكنها أن تكون غير محتكة بالغرب. لكن هذا هو ما حدث. لم يكن قرار الحب مسألة مدروسة أو خاضعة للحسابات. أحببته وفقط وأظن أنه أيضاً أحبني دون أن يفكر. لأكون صريحة معك أنا لا أستطيع أن أقول أن ذلك جيد أو سيء. كل ما أعرفه هو أنني أحبه ولا أحتمل خسارته.
أحسست أن الحزن عاد مرة أخرى إلى صوتها وكأنها تخيلت فشل جهودها في حل خلافهما وإنهاء رفيقها لقصتهما بشكل نهائي. لم أعلق على كلامها. فقط فتحت الثلاجة قائلاً:
– لحسن الحظ فإن لدي زجاجات مياه غازية وهي جيدة مع اللحم المشوي.
كانت انتهت من تقليب اللحم وبدأت تضعه في الطبق حينما كنت أحاول أن أفتح الزجاجة لأصب قليلاً منها في زجاجة. الذي حدث هو أن الزجاجة فارت بشكل غير متوقع حينما فتحتها بحيث أغرقت الأرض وبللت ملابسها.
كانت موقفاً محرجاً وهي أيضاً صرخت باستياء قائلة:
- يا إلهي.. لقد ضاعت ملابسي.. كيف سأخرج بها الآن؟
اعتذرت لها بشدة عن هذا الخطأ قائلاً أنه لحسن الحظ فإن لدي خزانة كاملة من الملابس النسائية يمكنها أن تختار منها ما تشاء.
نظرت إلى ملابسها المبتلة قائلة:
- يبدو أنني سأضطر إلى ذلك فعلاً.
قلت مشجعاً:
- الجيد هو أن مقاسكما تقريباً واحد.
قالت وهي تنظر مرة أخرى لملابسها المتسخة:
- هذا اقتراح جيد، ثم أردفت، أما زلت محتفظاً بملابسها؟
قلت ببساطة:
- هي لم تأخذها حين رحلت وأنا لم أحب أن أرميها.
قالت بخبث:
- هذا كل شيء؟
- ماذا تعنين؟ قلت.
- أعني ربما أردت الاحتفاظ بها كتذكار.
لم أجب. عوضاً عن ذلك قلت:
- الأفضل أن تغيري ملابسك بسرعة. في الأصل كانت مشبعة برائحة المطبخ. يمكنك أن تأخذي حماماً كذلك لكن بسرعة قبل أن يبرد اللحم. بدوري سأغسل ملابسك وأحضرها لك في أقرب فرصة.
أردفت قائلاً بمزح:
- أنا أيضاً بحاجة لتغيير التيشيرت فعلى ما يبدو أنت لم تمسحي فقط دموعك ولكن أنفك أيضاً.
ضحكت وأنا أقول ذلك واعتذرت بحرج، قبل أن تتوجه ناحية الخزانة لتختار ما يناسبها ثم إلى الحمام في حين كنت أقول:
- لا تتأخري. سأعطيك عشر دقائق ثم أبدأ في الأكل.
ابتسمت وهي تفتح باب الحمام قائلة:
- ياللذوق! بعد كل هذا التعب يأكل وحيداً ويتركني.
كانت أغلقت باب الحمام حينما كنت أقلع التيشيرت وأردت أن أذهب لتغييره حينما سمعت صوت جرس الباب..
لم أكترث وقمت بفتح الباب لأجد من لم أكن أتوقعه.
- مرحباً بك.. هذه مفاجأة فعلاً..
قلت بترحيب صادق، في حين كان يقول هو باعتذار وهو يشتم رائحة اللحم وينتبه للحقيبة النسائية على أريكة قريبة:
- لقد جئت دون إخطار ويبدو أن معك ضيوفاً..
كنت أريد أن أقول له أنه لا يوجد ضيف بالمعنى وأن معي رفيقته.. لكن صوتها وهي تناديني لم يترك لي مجالاً..
كان يستمع للصوت الذي يعرفه باندهاش في حين كان تكرر اسمي قبل أن تمد رأسها خارج باب الحمام قائلة:
- أنا لا أجد صابون الاستحمام.. هل تستحم بشامبو الشعر؟
كان يبدو مستغرباً ما يزال وهو ينظر إلى صدري العاري بعد سماع صوتها.. تقدم خطوتين.. رأى وجهها ورأسها الممدود عبر فتحة باب الحمام وتساءل بصدمة:
- ما الذي يحدث هنا؟
أمسكت بذراعه طالباً منه أن يجلس وأنا أقول ببساطة:
- لا شيء يحدث هنا.. لقد..
لم يترك لي فرصة للحديث.. قال أنه لم يكن يتوقع ذلك لدرجة أنه أتى هنا ليحكي عن مشكلته مع حبيبته:
- المفارقة هي أنك كنت الشخص الذي اخترت أن أحكي له..
نفض ذراعه بعصبية واستدار خارجاً في حين كنت أطلب منه أن يتوقف:
- لا تكن أحمقاً، قلت.. اسمعني حتى تفهم.
لم يستجب إلي.. بدا لي لأول مرة شديد العصبية والغضب لدرجة أنه لم يرغب في رؤية أو سماع شيء.
قفز عتبات السلم بسرعة.. قبل أن ألحقه التفتت إلى وجها المتسمر ما يزال على فتحة الباب قائلاً:
- لا تقلقي.. سأحل الأمر وآتي به معي.
لم تجب. كانت تبدو جامدة بشكل فعلي حتى أنني لم أتأكد من كونها استمعت إلى كلماتي.
ركضت خلفه بسرعة. كان يفتح باب سيارته ويدخلها في حين كنت أطرق على باب السيارة وزجاجها طالباً منه أن يتريث وأن يمنحني فرصة للتوضيح.
باءت محاولاتي بالفشل. لم ينظر إلي حتى. بعد قليل كنت أرى أضواء السيارة وهي تشعل قبل أن أسمع صوتها وهي تدور ثم تنطلق بسرعة من أمامي..
أحسست أنا أيضاً بالصدمة.. لم أعرف كيف سأتصرف وماذا يمكن أن أقول لفتاته أو ماهي حالتها الآن. كنت أجتهد في منحها الأمل والقول أن قصتهما لم تنته بعد. سأحاول أن أمنحها الأمل من جديد، لكن مهمتي هذه المرة ستكون بلا شك أصعب بكثير.