كنت أنصت لأغنية أم كلثوم رحمها الله ” سيرة الحب ” وكنت شاردة الذهن منسجمة مع الكلمات و اللحن كعادتي إلى أقصى درجة ..إلى أن فاجأتني ابنتي الصغرى التي دخلت المطبخ لتنبهني بأن صوت الآذان لصلاة الظهر قد انطلق ..
أوقفت الأغنية على الفور وأخرست صوت الهاتف ..وشردت مرة أخرى ولكن هذه المرة لأفكر في بناتي وفي طريقة تربيتي لهن .. شجعتهن على الصلاة والصوم في سن مبكرة ،وعلمتهن احترام الآخرين : أفراد الأسرة ،العائلة الكبيرة ،الأساتذة ،الجيران بل وحتى الناس في الشارع العمومي ..علمتهن أيضا التعاطف مع الفقراء والمحرومين وكنت أتعمد أحيانا أن أتصدق أمامهن على المتسولين في الطرقات وما أكثرهم حتى يقتدين بي ويتشبعن بثقافة العطف والتضامن . حرصت كل الحرص على أن أجعلهن يحببن بعضهن ويتعاملن كأخوات وكصديقات فيما بينهن ،من أجل هذا لم أكن أفرق أبدا في تعاملي معهن ولم أفضل قط واحدة على أخرى .وكنت أحرص الحرص الشديد على أن أوفر لهن احتياجاتهن بنفس الطريقة حتى لا تحس إحداهن بالغبن أو الميز أو التقصير في حقها من طرفي.. ولا زلت على هذه الطريقة إلى الآن ..لا أعاملهن أبدا على أنهن صغيرات أو قاصرات وأثق في قدراتهن وإمكانياتهن إلى أبعد الحدود .أشجعهن بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب وأحبهن ثلاثتهن إلى درجة أن جميع من يعرفني يلاحظ أنني أبالغ في تدليلهن وأفضلهن حتى على نفسي في غالب الأحيان .
بناتي أيضا يعشقنني ولا تحلو لهن الأوقات والساعات إلا بجانبي ..نتحدث ،نناقش ،نضحك ،نفشي بعض الأسرار.. ولعل ثقتي اللامحدودة واللا مشروطة بهن هي التي جعلتهن يثقن بي أيضا ويحدثنني بكل ما يخالج أنفسهن ،هن لي نعم الصديقات وأنا كذلك بالنسبة لهن ،نحب بعضنا هذا أكيد لكن نحترم بعضنا أكثر .لكل منا الحق في التعبير عما تشاء ومناقشة كل الأمور التي تخصها وتخص البيت والأسرة ..ليس المطلوب من أي واحدة منا الموافقة الفورية على اقتراحات أو تنبيهات الأخريات والنزول عند رغبتهن بقدر ما ينبغي أن تتفهم كل واحدة آراء الأخريات وأن تتقبل النصح بروح رياضية ..لكن يبقى القرار قرارها في الغالب وعليها أن تتحمل مسؤوليتها عما تقوم به في النهاية .
حبنا للآخرين لا يعطينا الحق في تملكهم والسيطرة عليهم مهما كانت دوافعنا بريئة .. صحيح أننا كأولياء أمور وكأمهات بالذات نخشى كثيرا على أبنائنا من كل شيء ومن أي شيء لكن لا ينبغي خنقهم ومحاصرتهم والسيطرة عليهم ..نحن صحيح أنجبناهم وتعبنا وضحينا بالكثير من أجلهم لكن هذا لا يمنحنا حق التحكم فيهم، فهم كيانات مستقلة عنا لها صفات ومميزات ليست بالضرورة كتلك التي نتصف بها نحن فإذا صاروا نسخة طبق الأصل عنا فما فائدة إعادة إنتاج نفس النمط ؟ وصدق من قال : ” الاختلاف رحمة”.