في بوح جديد نشره في “شوف تيفي”، يوم الأحد 28 فبراير2021، يواصل الكاتب أبو وائل الريفي قراءته لمستجدات الساحة الجزائرية من خلال رصده لنهاية مشروعية الجمهورية الأولى في الجزائر بعد هزيمة العسكر وبداية مرحلة ما بعد تبون؛ ملتفتا هذه المرة إلى الأزمة الخانقة التي تشهدها تونس خاصة أزمة النظام البرلماني والحيل الجديدة لحزب النهضة الأصولي، والتي اختار فيها هذا الأخير، بقيادة راشد الغنوشي، رئيس البرلمان النزول إلى الشارع للاحتجاج، ولم يفت أبو وائل الريفي التوقف عند الهامشيين بالمغرب الذين لم يستوعبوا بعد مركزية المؤسسة الملكية في الخيارات الكبرى للبلاد..
“شدتني يوم الجمعة 26 فبراير 2021 على هامش خروج الجزائريين إلى الشارع صورة كهل جزائري ممدد على الأرض وهو يبكي بعد إصابته في قدمه والمتظاهرون حوله يقدمون له الإسعافات الأولية، رجل متقدم في السن تجاوز السبعينات من جيل التحرير، جيل الشهداء. لقد كانت الصورة معبرة وتختصر كل شيء، لقد سقطت مشروعية التحرير، تحرير الجزائر من الاستعمار، المشروعية التي حكم على أساسها كل الرؤساء منذ 1962، مشروعية جبهة التحرير الجزائرية وهي المشروعية التي أفرزت صيغة للحكم أعطت للمؤسسة العسكرية دورا مركزيا للتحكم في سير المؤسسات السياسية والدستورية في البلاد. لقد سقطت يوم 26 فبراير 2021 المشروعية بالكامل، فقد كان الشعار المركزي في كل المدن الجزائرية بدون استثناء “مدنية ماشي عسكرية”.
إنها محطة مفصلية في تطور طموحات الشعب الجزائري في كل محطات تململ الشارع الجزائري، لم يكن المحتجون بهذا الوضوح وهذا الإجماع على المطالبة بنهاية تدخل العسكر في التدبير السياسي للبلاد. ولأول مرة رفع المتظاهرون شعارات ضد الجنرالات والغريب أنه بعد 59 سنة من استقلال الجزائر كان المحتجون يطالبون بالاستقلال وكانت الاعتقالات تطال كل الذين يحملون علم الجزائر.
الخروج إلى الشارع لم يكن حكرا على الشباب، بل كان يطال كل الفئات التي رفعت شعار أن “تبون مزور جابوه العسكر”. لقد تغيرت المعادلة، عوض المطالبة برحيل تبون أصبحوا يطالبون برحيل الجنرالات عن الحياة السياسية، لكن قبل الجمعة استقبل تبون رئيس جمهورية تندوف وسمح له بإعلان الحرب على المغرب من أمام قصر المرادية. يريد الجنرالات حربا مع المغرب للالتفاف على مطالب الشعب الجزائري فإذا بهم يواجهون الحرب الحقيقية مع شعبهم، وهي حرب محسومة سلفا لصالح الشعب الجزائري. إنها أول هزيمة لجنرالات الجزائر.
الرئيس عبد المجيد تبون الذي تصور أن تجديد التعاقد مع الحرس القديم للمؤسسة العسكرية يعطيه مشروعية دائمة بعد أن غيب الموت الجنرال القايد صالح، نسي أنه سيكون أول ضحية لشد الحبل بين الشعب والمؤسسة العسكرية التي تنتظر فقط تطور الأوضاع على الأرض للبحث عن بديل للرئيس الذي اصطفاه الراحل القايد صالح لقيادة الجزائر، فرغم أن الرئيس الجزائري قرر حل البرلمان فإنه اضطر إلى تثبيت صالح قوجيل على رأس مجلس الأمة رغم أن سنه فاق التسعين سنة كخطوة اضطرارية ناقضت قراره بتشبيب النخب السياسية والإدارية في البلاد، وبالرغم من أن صالح قوجيل هو موضوع مسطرة حجر شرعي مرفوعة من طرف أقربائه بسبب الخرف.
لقد كان تبون رئيس الحكومة الوحيد من عهد بوتفليقة الذي لم يحل على العدالة الجزائرية. كل رؤساء الحكومات على عهد بوتفليقة أحيلوا على العدالة وصدرت في حقهم أحكام بالسجن النافذ ولمدد طويلة.
إن الإبقاء على تبون آخر رئيس حكومة في عهد بوتفليقة سيكون مكلفا للمؤسسة العسكرية رغم تجديده التعاقد مع الحرس القديم، وقريبا سنشاهد نهاية شهر العسل بين تبون وحماته من الجنرالات.
لقد كانت المؤسسة العسكرية تريد إحالة الرئيس على التقاعد إبان الفترة العلاجية الأولى مما اضطره إلى تسجيل خطاب 13 دجنبر 2020 الذي حرص على أن يسجل تحت إشراف ابنه الذي رافقه إلى ألمانيا وحرص على حمله إلى طاقم الرئاسة ونشره على حسابها في تويتر عوض أن يتم بثه في الإذاعة الجزائرية الرسمية بعيدا عن أعين شنقريحة لاستباق إقالته، لكن خروج الجزائريين إلى الشارع يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، إلى مرحلة ما قبل إقالة بوتفليقة وإحالة كل رموز عهده على العدالة. فكم ستصمد رئاسة تبون في وجه الشارع الجزائري الذي طالب لأول مرة بدولة مدنية على أنقاض دولة الجنرالات؟
قبل أيام استقبل وزير الخارجية ناصر بوريطة رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، وكان من المفروض أن يستقبل في نفس اليوم رئيس الحكومة الليبية ذبيبة، غير أنه تخلف عن الحضور إلى المغرب بعد أن تلقى تهديدا من الجزائر بعدم السفر إلى المغرب لأن الجزائر تريد أن تحاصر المغرب على المستوى المغاربي بعد هزيمتها على مستوى الاتحاد الإفريقي. لقد فشلت الضغوطات على موريتانيا من أجل جرها إلى التغاضي عن استعمال التراب الموريتاني في التحرشات بالمغرب. صمود موريتانيا وتصديها لكل محاولات جرها إلى أتون المواجهة المغربية الجزائرية جعل أصواتا أخرى ترتفع في المنطقة المغاربية من أجل بناء مغرب عربي بدون المغرب وموريتانيا.
الدعوة إلى تكوين نواة للمغرب العربي محورها تونس من أجل فتح الحدود مع الجزائر وليبيا لم تكن في العمق دعوة مغاربية خالصة، بل كانت متنفسا اقتصاديا واجتماعيا لأزمة الديمقراطية التونسية، لأنه بعد ست سنوات من إقرار دستور تونسي يقطع مع عهد بن علي ظهرت أزمة مؤسساتية عميقة تهدد مستقبل تونس الديمقراطية بعد المواجهة المفتوحة بين الرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان. وفي غياب محكمة دستورية، اختار حزب النهضة، بقيادة راشد الغنوشي، رئيس البرلمان النزول إلى الشارع للاحتجاج.
غداة الإطاحة ببن علي، انتخب التونسيون جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، وعوض اختيار بناء دستوري يحافظ على الدولة اختارت الجمعية التأسيسية نظاما برلمانيا كان هاجسه الأساسي إضعاف مؤسسة الرئاسة لتلافي عودة شبح زين العابدين بن علي والنتيجة رئيس شرعي يرفض تزكية أربعة وزراء، حكومة شرعية مسنودة بأغلبية برلمانية شرعية مما يعكس أزمة النظام البرلماني الذي اختاره التونسيون كنظام سياسي بعد أن بين محدوديته رغم نجاحه النسبي أيام الرئيس الباجي قايد السبسي الذي فرض مؤسسة الرئاسة كمؤسسة مركزية في النظام السياسي التونسي ضدا في الدستور، وهي المرحلة التي انتعش فيها نسبيا الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
أزمة الديمقراطية في تونس تدفعنا إلى طرح السؤال الجوهري عن مستقبل الديمقراطية في الشقيقة تونس لأن النظام البرلماني ينجح بالكاد في الديمقراطيات الغربية، فبلد مثل إيطاليا يعاني كثيرا من عدم استقرار حكوماته والدعوة كل مرة لانتخابات سابقة لأوانها، وهو نفس الأمر الذي تكرر في دول أخرى مثل بلجيكا، فكيف لهذا النظام أن ينجح في الديمقراطيات الناشئة؟
تعيش تونس اليوم تحت وطأة نظام برلماني هجين بثلاثة رؤوس غير منسجمة، وعاشت مباشرة بعد2011 تحت سلطة ترويكا قسمت الرئاسات الثلاث بمنطق المحاصصة. فماذا كانت النتيجة؟ اسألوا المرزوقي الذي لم يعد يُخفي أن التضخم السياسي لم ينجح الانتقال الديمقراطي ولكنه أفرز إخفاقا سياسيا وفشلا اقتصاديا واجتماعيا.
إن أكبر منزلق يمكن أن تسقط فيه الديمقراطيات الناشئة هو تبني النظام البرلماني الذي يعمق هشاشتها وعدم استقرارها وسهولة الانقلاب عليه، ويضع الدولة في دوامة فارغة تستهلك قدراتها في الصراعات السياسوية المغلفة بصناديق الاقتراع التي قد تعطي المشروعية ولكن لا تعطي نجاعة المؤسسات، لأن الدولة تركن إلى الجمود الذي يؤثر سلبا على المجال الاقتصادي والاجتماعي. وتونس اليوم مثال حي.
ها هي ثمار الربيع العربي بعد عشر سنوات في تونس التي سوق ويسوق لها مشاة الشارع كبديل ناجح تسقط في فخ المحاصصة وتصبح أسيرة تعدد التأويلات بين مؤسسات ثلاث تتصور كل واحدة منها أنها الأصلح والأكثر تمثيلية للشعب.
المتظاهرون في الشارع التونسي خيم عليهم ظل بن علي فأنساهم تحديد البوصلة الصالحة لتونس وبيئتها ونخبها وشعبها، لقد ألصقوا كل الإخفاق الديمقراطي بشخص الرئيس، لكن إسقاط فشل الرئيس على النظام الرئاسي وحصر البديل في نظام برلماني لم تكتمل مقومات وشروط إعماله كان خطأ استراتيجيا في بلد يلعب فيه الزعيم الدور المحوري في النظام السياسي.
أزمة الديمقراطية في تونس يعبر عنها اليوم اختيار الغنوشي وحركة النهضة العودة إلى أسلوبهم المفضل وهو الشارع من خلال تنظيم مسيرة. هل يعقل أن تستعيض حركة، تشكل العمود الفقري للحكومة ويترأس رئيسها البرلمان وموجودة في كل مؤسسات الدولة، عن المؤسسات المنتخبة الممثلة للشعب بالشارع؟ هل ضاق درعها لتلجأ إلى توازي الأشكال، الشارع مقابل الشارع؟ وأين ستنتهي اللعبة؟
والغريب أنه في الوقت الذي يمنع بسطاء تونس من المشاركة في دفن أقربائهم وتأجيل كل أفراحهم بحكم ظروف الحجر الصحي، دعت حركة النهضة إلى مسيرة في العاصمة سخرت لها حافلات النقل العمومي من أجل نقل المشاركين من كل أرجاء تونس للمشاركة في المسيرة التي قال عنها عبد الكريم الهاروني رئيس مجلس شورى حركة النهضة أن المشاركة فيها فاقت بما يقارب 5 مرات الأعداد المشاركة في مظاهرة 14 يناير 2011، التي أطاحت بنظام بن علي. مسيرة النهضة وبكل المقاييس أقوى تعبير عن أزمة النظام البرلماني وأزمة الديمقراطية في تونس التي وصلت إلى مفترق طرق يهدد مستقبلها بالكامل.
أزمة الديمقراطية والنظام البرلماني في تونس تؤكد أن المغرب اختار الطريق الصحيح من خلال الحفاظ على الدور المركزي للمؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي كقاطرة لباقي المؤسسات التمثيلية في البلد، لأن الملكية فوق الأحزاب وفوق الحسابات الحزبية وغيرها من الحسابات التي لا تنتصر للمغرب في كليته.
أظن أن من يتصور في الأمد المنظور ملكية بدون دور وازن في الخيارات الاستراتيجية الكبرى للمغرب فإنه يعيش على هامش الواقع، وهذه مشكلة الهامشيين في هذه البلاد الذين لم يستوعبوا بعد تاريخ المغرب وطبيعة الشعب المغربي وينتظرهم مسار طويل لاستيعاب أصول التدافع الديمقراطي في إطار مستلزمات الحفاظ على الوحدة الوطنية.
سمعت كباقي الناس دعوات لانفراج سياسي قبل الانتخابات المقبلة التي ستجرى في مواعيدها وسمعت دعوات متفرقة من أجل إصدار عفو عن بعضهم، لكنني لم أستوعب معنى “انفراج سياسي” فهل متابعة مغتصبين من بين ممتهني الصحافة مدعاة لاحتقان سياسي حتى تستدعي انفراجا سياسيا مفترى عليه.
واهم من يتصور أن تتم الاستجابة لطلبات تقفز على حقوق الضحايا، واهم من ينتظر قرارا سياسيا يزكي تزوير الحقيقة، حقيقة طبيعة المتابعات وإلباسها قسرا لبوسا سياسيا لا يستقيم مع الحقيقة. فهل هناك فعلا من يؤمن أن بوعشرين لم يغتصب فيلقا من النساء سجله بالصوت والصورة للذكرى؟ هل هناك من يتصور أن يتم توقيف المتابعة في حق المعطي منجب الذي اختلس مال المساعدات وحوله إلى أملاك عقارية في اسمه واسم أفراد من عائلته؟ هل هناك من يتصور أن يتم توقيف مسطرة المتابعة في حق عمر الراضي وسليمان الريسوني فقط لأنهم كانوا أسرى غرائزهم وتصوروا أن ممارسة الصحافة تعفيهم من المساءلة وأن مقالات هنا أوهناك أو عريضة يمضيها فلان أو علان ستعطل تطبيق القانون في حقهم؟
من ينتظر انفراجا على حساب ذوي الحقوق والضحايا وأن يتم تبييض جرائمه في إطار صفقة سياسية ما عليه إلا أن ينتظر فالطريق لازالت طويلة.
قد يكون مفهوما استمرار استفادة بعض معتقلي الحسيمة من مسطرة العفو الجزئي أو الكلي مما تبقى من العقوبات الحبسية في إطار العطف الخاص والعناية التي يوليها جلالة الملك لأهلنا في الريف، لكن خارج هذا السياق لا يمكن تصور تبييض سياسي لجرائم الحق العام على حساب ضحايا تعرضوا لحملة تشنيع باسم القبيلة التي تعيش هذه الأيام أحلك أيامها، وعندما تسمح الظروف بكشف كل الوقائع التي تثبت عدم إيمانهم بهذه الأرض وانتصارهم لإرادات أجنبية ستتم إماطة اللثام عن كل شيء، فلا ولاء إلا للمغرب.
لقد انكشفت اللعبة بالكامل. لقد ولى الزمن الذي كان المغرب غير المغرب، أما الآن فقرارات الرباط تأخذها الرباط والمغاربة سواسية أمام القانون.
قبل أيام قرأت في المنابر الوطنية قضية أيمن السرحاني وبعدها قضية هيرفي رونار الذي تقدم بشكاية أمام النيابة العامة في الرباط بعد أن سقط ضحية شابين صوراه عاريا. لم يقل هيرفي رونار أن جهة ما هي التي صورته، لم يلجأ للاحتيال من أجل لملمة فضيحته كما يفعل بعض محترفي الاحتيال الحقوقي والسياسي هذه الأيام، بل طلب تطبيق القانون في حق الذين احتالوا عليه من أجل تصويره عاريا وحاولوا ابتزازه. تصوروا لو كان لهيرفي رونار صديق في «the economist» أو يحمل بطاقة من بطاقات الجهات إياها التي تتاجر في القضايا المدرة للدخل لعشنا مسلسلا مبتذلا آخر كالذي نعيشه هذه الأيام مع بائعة الدمى الجنسية التي بارت تجارتها وتراهن على قدماء الإرهابيين لضمان مداخيل بديلة لروتينها اليومي، تصوروا لو كان أيمن السرحاني متزوجا بيمنية حاملة للجنسية الأمريكية وتوهم هو الآخر أن FBI مختص ترابيا للبحث في القضايا الرائجة في الجديدة واعتبر أن المس ببعض أطرافه جريمة ضد الإنسانية.
يكفينا في المغرب فخرا أن حملة التلقيح فاقت ثلاثة ملايين ونصف مستفيد في أربعة أسابيع في الوقت الذي تنتظر دول مغاربية أن يتصدق عليها الخارج بما تيسر. وكم كان مثيرا للسخرية “الاستقبال” الذي خصصه القادة الجزائريون لشحنة 200 ألف جرعة من اللقاح هدية من جمهورية الصين الشعبية حيث فرش السجاد الأحمر للجرعات التي لن تصل أبدا إلى أجساد الشعب الذي طاف يوم الجمعة 26 فبراير كل شوارع الجزائر بدون كمامات بحثا عن الخلاص الذي بدأ عده العكسي مفتوحا على كل الاحتمالات.
فتحية إلى كل الذين ساهموا في تمنيع المغرب، مغرب العزة والشموخ، وتحية إلى شعبنا الذي استطاع أن يحافظ على وطن للجميع، وتحية إلى كل الذين سكنهم المغرب ومن أجل عزته وشموخه يحيون لأن المغرب أعز وأبقى ولا يبالون بكل الأصوات المبحوحة التي ترتفع هنا وهناك، لأن المغاربة لن يأتمنوا أبدا على حاضرهم وغدهم من لا يؤمن بالجغرافية ويتنكر باسم الفكر الأممي وبعض القيم لوطن قدرنا أن نعيش من أجله ونحميه حتى الموت.
وإلى بوح آخر”…
_______________
المصدر : https://anfaspress.com/news/categorie/2014-06-07-15-25-52