قافلة النقد : اتكاﺀ الشاعر على نص سابق دلالةً أو صياغة – الشاعر أحمد السيد

0
163

من المقولات النقدية التي كُتب لها الذيوع في جامعاتنا العربية مقولة الجاحظ الشهيرة ومفادها أن (( المعاني)) مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي.. وأن الشأن يكمن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك..
وهنا أسأل :
حين يقرأ شاعر ما مقولة فيتأثر بها و يجعلها شعرا .. هل يكون بذلك ساطيا على صاحب المقولة ؟

الجواب :
———–
1- إن كانت المقولة ذات شهرة عريضة لا يمكن تجاهلُ مصدرها و لا حجبه كأن تكون مثلا من نوع ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) فالعلاقة بين ما كتبه الشاعر وهذه المقولة هي علاقة تناصّ : أثّر نص سابق في النص الجديد
ولا يحتاج الشاعر إلى التذكير بالنص الأول لزاما
ففي ظلال تلك المقولة يمكنني القول :
وطلبتَ جناتِ الخلودِ ولا تعي
أنْ تحتَ أقدامِ الأمومةِ مطلبُك

2- وإن كانت المقولة من الكلام العام .. من المعاني المطروحة في الطريق كما يقول شيخنا الجاحظ .. كأن يقال : الربيع أجمل الفصول ..
أو : الكرامة فوق الحبّ ..
وما أشبه ذلك
فالعلاقة طبعية و لا تلاصّ ( من اللصوصية ) في ذلك ولا تناصّ..
لأن هذه المعاني إنسانية.. من التفكير البشري الجمعي (وإن وجد لها استثناﺀات)..

ومثال ذلك أني قرأت هذه الكلمات : : تُعرف المرأة عند فقر زوجها، والرجل عند مرض زوجته، والإخوة عند الميراث، والصديق عند الشدة، والمؤمن عند الابتلاء.
فكتبت هذه الأبيات مقدما ومضيفا ومشعرناً بالصور والإيحاﺀ وتلوين الكلام فقلت :

إنّي لأعبرُ في الطريق وكم أرى
فيها المَعانيَ ما عرفن نظاما
فأقول : تحويلُ السبائك حليةً
فنٌّ يُزيل عن الجمال رَغاما
الجاحظُ الشيخُ السديدُ مقالُهُ
فوقَ الصياغة لا يُجيز مقاما
ولقد أرى ما لا ترون فلملموا
أوراقكم سقطت وساﺀَ كلاما
وتعلّموا من قبل أن تتكلّموا
كونَ القريض على العييِّ حراما
•••

أنتَ النبيلُ إذا الحليلةُ أصبحت
مثلَ الزهور الذابلاتِ سَقاما
ولأنتِ أنبلُ حين يشكو جيبُهُ
من قلّةٍ ربطتْ يديهِ فَصاما
ويُديمُ آصرةَ الإخاﺀ وثيقةً
أنْ نحملَ الآمالَ والآلاما

نطأُ الدنايا لا نمزّقُ فوقنا
سترَ اللحافِ تجاذباً وخصاما
صِدقُ الصديق متى الشدائدُ أقبلتْ
لا حينَ أن يصفوْ الزمانُ وئاما
وإذا ابتلاكَ اللهُ فانجحْ صابراً
وإذا رسبتَ فعاقرِ الأوهاما

3- وأما إن كانت المقولة ذات خصوصية فكرية لا تتأتّى للناس وليست على شهرة طاغية . . كمقولات جلال الدين الرومي مثلا وأضرابه من المتأملين والعارفين والمفكرين ونوابغ القائلين والكاتبين .. ففي مثل هذه الحالة وجب على الشاعر الإشارة إلى القائل الأول وإلا عُدَّ عادياً على ثمرات غيره والتماعاته الذهنية ..فبعض الشعر يكتسب مكانة وتميزاً من قوة الفكرة وفرادة الدلالة دون ريب ..

ومثال ذلك أني قرأت مقولةَ داعيةِ السلام الأمريكي المنافح ضد العنصرية مارتن لوثر كينغ وهي ( علينا أن نتعلم العيش معاً كأخوة أو الموت معاً كالأغبياء ) فجعلتها في بيتين كاتبا :

إذا ما أردْنا حياةَ الهناﺀْ

فسرُّ الحياةِ رباطُ الإخاﺀْ

و إلا فإنّا نعاني الشقاﺀْ

ونهوي إلى موتِنا أغبياﺀْ

وكمثل ذلك أني قرأت ما قاله مولانا جلال الدين الرومي :
إن أماتوا زهرة في جوفك فبستانك ما زال حيّاً
فقلت ملوِّنا :

كم ترتوي الآمالُ من جداولي

واليأسُ كم تجتثُّهُ معاولي !

أنظّفُ الحياةَ من أشواكِهِ

لِتعزِفي الأشواقَ يا بلابلي

وإنْ أماتوا زهرةً بكيدِهم

فها هوَ البستانُ يحيا داخلي .

فلعلنا بهذا نعرف ضرورة الإشارة إلى مصدر الفكرة الخاصة المتميزة دون تغافل .

الحالة الثانية :
اخذ الصياغة الجمالية
—————————-
نمثل لذلك بمقولة السيدة أسماﺀ ذات النطاقين لابنها عبد الله بن الزبير :
( الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ )
وتاثُّرِ المتنبي بهذه الصورة التشبيهية في قوله :
من يَهنْ يسهلِ الهوانُ عليه
( ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ )
ولا ريب عندي أن المتنبي أغار على المقولة الفريدة للسيدة القرشية البليغة .. وأنه عالةٌ عليها وأنه في هذا مسبوق.

وأما قول أبي تمام :

السيف أصدق أنباﺀً من الكتبِ
في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعبِ

فقد أغار عليه شاعر الثورة الجزائرية الكبير مفدي زكريا ( ابن تومرت ) بقوله :
السيف أفصح منطقاً من أحرفٍ
كُتبتْ فكان بيانَها الإعجامُ

فالفضل للأول االثاني عالة عليه.

مع التماس العذر للشاعر الجزائري الكبير : شهرة بيت أبي تمام

ومع ملاحظة أن الصياغة لا تنفصل غالبا عن الدلالة

السؤال الثالث :
——————
ومتى تكون السرقة قطعية دون مراﺀ ؟

الجواب :
———
وذلك بهدم نصّ ( لا بيت واحد ) وإعادة صوغه مع الاتكاﺀ على أفكار الأول ومشاعره وصوره وألفاظه …
وقد كتبت من قبل عن هذا بعنوان : تناصّ أم تلاصّ ؟

وأخيرا فإن الحالة التي لا مكان لها في النقد والأدب : هي أن يقرأ جاهل فارغ قصيدة لغيره مثلا فينسبها لنفسه !!! فلا علاقة لمن يقترف هذا بالأدب بمعنييه : الأدب الإبداعي والأدب الأخلاقي .

والأدب الكتابي فن جمالي فلا يتوصَّل إليه ذوو النفوس الدميمة، فإن ألف باﺀ الإبداع نزوعُ الروح إلى الجمال الخالد .

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here