كلما حملنا الورق، يتدفّق فينا حرفه الآتي من شوارع تلك القصيدة، ترانيم بين الوجع والمسرة، تتسلل تقاسيم الروح، لنتشارك نبض مرقمه الساكن بين خلجات النفس. ما زلنا نعبر معه الذاكرة، لنقطف أطوار الحكاية، أحداث نألفها، وأخرى تقرؤنا من خلال إحساسه المبحر في أعماقنا. برفقة قلمه، يصاحبنا الصمت، فيترجّل البوح من على تنهيدة الأنفاس، ليتأبّطنا التأمّل لأبجديّة مازالت تعزف لنا ملامحه، لتنشده الشاعر والكاتب الصحفي الجزائري منير راجي.
س- عندما نجالس حرف الشاعر “منير راجي”، ما خصائص اللوحة الشعرية التي تعزفها لنا القصيدة لنعبر من خلالها سفرا نحو أعماق الإنسان “منير راجي”؟
ج- صدقيني إن قلت لك أن القصيدة هي التي تكتبني.. تتوغل قوافيها داخل أعماقي لتبحث عما هو ساكن بذاتي.
س- كيف يصوّرك الحرف من خلال ملامح القصيدة؟
ج – حاولت مرارا ترويضه لكن أبى إلا أن يجعل مني ذلك الإنسان المتمرد.
س – عن ماذا يبحث الشاعر والكاتب الصحفي “منير راجي” في جيوب الحرف؟
ج- أبحث عن حرف يغير مجرى التاريخ.. أبحث عن ذلك الحب المفقود، الذي لا يراه غيري.. أبحث عن حرف يجسد وجودي وذاتي.
س- الشاعر يدرك ما لا تستطيع أن تراه، بين الإدراك والرؤية، إلى أين يأخذنا قلم “منير راجي”، بين الشاعر والكاتب الصحفي؟
ج- معادلة صعبة.. وقلت مرارا إن الروائي يدرك ما لا تستطيع إدراكه، بينما الشاعر يدرك ما لا تستطيع أن تراه.. فهو صراع بين العقل والقلب.. وهو نفس الصراع بين منير الشاعر ومنير الكاتب الصحفي.. فالشعر لا حدود له بينما الكتابة الصحفية فهي تعتمد أصلا على المنطق، هذا الأخير الذي لا يؤمن به الشعر.
س- هل نستخلص من رؤيتك هذه توافقا أم معارضة مع معتقد الشاعر الإنجليزي “ويليام شكسبير” حيث يقول: الشعر الأكثر صدقا هو الأكثر تلفيقا؟
ج- فرق كبير بين الشعر الأوروبي والشعر العربي.. فإذا كان الشعر الغربي يصنع فإن الشعر العربي يكتب بإلهام ووحي وبالتالي يكون أكثر صدقا.. ولهذا كان دائما الشعر ديوان العرب.
س- ينتفض القلب، وينطق القلم، فإلى كم من رحيل ينزف الإحساس ويبوح الألم؟
ج- الألم هو الوقود الذي من خلاله ينتفض القلب وينطق القلم.. فالشعر هو أعذب ألم.
س- منك تعلم العذاب أبجدية الألم، متى تتمكن الكلمة من معالجة الوجع؟
ج- الكلمة لا تعالج الوجع، وإنما تجعل من الوجع حياة جديدة.
س- كيف هي الحياة عبرة مسيرة “منير راجي” الكاتب والإنسان والجزائري؟
ج- صراحة أعشق الفوضى وأعشق التمرد وأعشق التناقض، ففي الفوضى أجد النظام، وفي التناقض أجد الانسجام، وفي التمرد أجد ذاتي.
س- وفي ذاتك، ماذا يجد المبحر في وجدانها؟
ج- في ذاتي تكمن كلمة واحدة هي (الحب)، هذه الكلمة التي صنعت الشعوب وصنعت الحضارات وصنعت الإنسانية والتي بدونها لا وجود للحياة.
س- هل قناعتك هذه تؤكد لنا توأمتك لموقف الكاتب الفرنسي- الجزائري “ألبير كامو”، حيث يقول: “نحن نعرف واجبا واحدا وهو أن نحب”؟
ج- الحب ساكن فينا منذ الولادة حتى تلك الصرخة التي ينطق بها الطفل أثناء الولادة فهي صرخة حب.. وبالمناسبة لا يمكن أبدا اعتبار ألبير كامو جزائريا، كيف يكون جزائريا وهو من اعتبر الثورة الجزائرية إرهابا.. فهو لم يدرك أبدا كلمة حب، وأعتقد أن حب كامو ليس حب منير.
س- من لا يملك حاسة الحب، لا يمكنه أن يملك حاسة الإبداع، ما ملامح العلاقة بينك وبين الإبداع؟
ج- ما يجمعني بالإبداع هو ما يجمع الحبيب بحبيبه.. وما تلك القوافي والأوزان التي تنطق بها شفتي إلا تلك العاصفة الجنونية المفعمة بالحب.
س- حب الوطن شيء جميل، لكن لماذا يجب أن يتوقف الحب عند الحدود؟ بماذا يجيب الجزائري “منير راجي” استفهام الموسيقي الإسباني “بابلو كاسالس”؟
ج- الوطن هو الهوية والانتماء.. صحيح أن الحب لا حدود له وحتى الأديان السماوية تكرس ذلك.. لكن لا يمكن للحب أن يعبر أرجاء الكون دون هوية.
س- يا أجمل كائنات الكون، أنت العشق والترف، ها هي حروفي، في معبد العشق تعترف، بأنك، أروع عروس، بالجمال تتصف. هذه هي الجزائر في دواخل الجزائري “منير راجي”، إلى كم من إحساس تتواصل الجزائر مع هذا العمق في المحبة؟
ج- الجزائر هي تلك الأرض الخصبة التي ترعرع فيها منير ووجد فيها سرا لم يجده في باقي أراضي الكرة الأرضية.. تلك الأرض التي سقيت بدم الشهداء وتسابيح المجاهدين.. فعلا إنها أروع عروس بالجمال تتصف.
س- من معتقدات الشاعر الإنجليزي “ويليام شكسبير” أيضا أنه يرى بأن “مداد قلم الكاتب مقدّس مثل دم الشهيد”، إلى كم من عاطفة يراه الشاعر والكاتب الصحفي “منير راجي” قد أبحر في أعماقها من خلال هذه القناعة؟
ج- أعتقد أن الثورة الجزائرية فريدة من نوعها في العالم.. ومهما حاول شكسبير أن يتكلم عن المقدس في الثورة فلا يمكن له وصف حقيقة الاستشهاد وحقيقة النضال من أجل استرجاع الهوية والانتماء.. فالمقدس في الوطن هو الهوية والوجود.
س- أعرف أنكم سوف تحكمون علي بالإعدام، لكن لا تنسوا إنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة، وأصبحت الجزائر حرة مستقلة، كيف تقيم نضال الجزائرية “جميلة بوحيرد” من أجل استرجاع هذه الهوية وهذا الانتماء؟
ج- جميلة بوحيرد إحدى المجاهدات من بين ملايين المجاهدات الجزائريات اللواتي ضحين بالنفس والنفيس في سبيل استقلال الجزائر.. فهي نموذج المرأة المناضلة والمكافحة من أجل الحرية.
س- “مقدار من الجنون لابد منه من أجل مقدار من الحرية”، هذا ما يعتقد فيه الكاتب التونسي “محمود المسعدي”، كيف تجادل في هذا الرأي؟
ج – أكيد فلا قيود للجنون، لأن الجنون هو سمة من سمات أي مبدع وهذا ما لا يتسنى لأي شخص.
س- لا قيود للجنون، لكن هل له لجام؟
ج – لو كان له لجام لانتحر القلم.
س – إذن، كيف بإرادتنا سيلتزم؟
ج – هذا هو التميّز.. وليس من السهل أن تكون متميّزا.
س- بماذا يختص صهيل التميّز عند قلم الشاعر والكاتب الصحفي “منير راجي” عندما يضرب بحوافره قلب الورق؟
ج- الجرأة وتكسير الطابوهات، هذا المرض الفتاك الذي أصبح ينخر جسد الإبداع العربي.
س- “الإبداع ليس ملكا لأحد، الإبداع موجود قبلك”، كيف تنضج ثمرة الإبداع في غصن جالسته رياح الخريف وسقي من شمس الربيع؟
ج- تعددت العناوين وتعددت معها المفاهيم، لكن يبقى الإبداع هو الوحيد الذي لا يتغير مفهومه وإن تعددت أشكاله، فهو موجود في ذات كل كائن حي وغير حي.. فالشمس إبداع والقمر إبداع والطبيعة إبداع والمطر إبداع والمرأة إبداع والحب والعشق إبداع.
س- “اشتقت إليك، كشوق الزهر للمطر، وأحن إليك مشتاقا، حنين العود للوتر”، كيف هو الشوق المشبّع بأنفاس الحنين؟
ج- الشوق لا يدركه إلا من أحب بصدق.. فالاشتياق هو اعتراف بوجود الآخر.
س- ما الذي يمثله “الآخر” بالنسبة للإنسان “منير راجي”، وكيف يعبّر عن ذلك الشاعر “منير راجي”؟
ج- الآخر هو ذلك العنصر المفقود الذي ما زلت أبحث عنه.. ولا أعتقد أنني سأجده، فهو مثل الزئبق، كلما وصلت إليه هرب مني.
س- عندما ينطق الصمت، أفهم ما بداخلك، بأي إحساس يخاطبك الصمت؟
ج- الصمت لغة العظماء، وقليل من يملك ذلك.
س- استضافني الصمت على مائدة حرف ينشد سفرا بطعم المساء، فهل لك في هذا المجلس مقعدا؟
ج- كيف لا والحروف تنطق صمتا.
س- متى يقول الشاعر “منير راجي”: يرحل بي الحرف نحو صمت يحجب عني ملامحي؟
ج- حين يسكن جنون الإبداع ذاتي.