لم تكن الرُّؤى الأكثر سوداوية تتوقع ما آل إليه الأمر بالعالم العربي. في تونس مهد الثورة، أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تهدد نبت الديمقراطية، وتتطاول على رموز الدولة.
وفي مصر، حيث عرف الربيع زخمه الكبير، قبضة أمنية أسوأ من تلك التي عرفتها خلال حكم مبارك، أما ليبيا فلم تبرأ من اهتزازات تهدد وحدتها، واليمن يضطرب في أتون حرب أهلية، فضلاً عن سوريا الغارقة في حمام دم مزق أوصال المجتمع وهدم المنشآت ودفع الملايين إلى الهجرة والعيش في المخيمات وسط الصقيع.
في المغرب وفي ظل دستور جديد (2011) غداة الحراك، يُمنح رئيس الحكومة سلطات واسعة، تحول هذا الأخير في نهاية المطاف إلى موظف كبير لا يد له في التوجهات الكبرى ولا علم له بها. وفي ظل الدستور الجديد الذي وسّع مجال الحريات الفردية والعامة، جرت محاكمة شبيبة الريف التي نادت بمطالب اجتماعية بأحكام خيالية، وجرت متابعة أصحاب الرأي بجرائم أخلاقية، وأصبح الحزب الإسلامي الذي كان يقيم الدنيا ولا يقعدها ضد التطبيع، يدبج البيانات لإيجاد التبرير لسياسة التطبيع من دون أن يجد حرجاً في ذلك، ويتهجم على من ينتقد عدم اتساق سياسته مع توجهاته.
كانت دول الخليج واحة نسبية بالنظر إلى غناها وإلى إطار يضبط إيقاعها هو مجلس التعاون الخليجي، وكان النظام الإقليمي الوحيد الذي صمد. ولكنه منذ 2017 دب فيه الخلاف منذ تَقرَّرت محاصرة قطر وتسربت إليه الأحلاف، وقام حلف الرياض-أبو ظبي بتواطؤ القاهرة.
في شتاء 2018 بزغ ما اعتُبر النسخة الثانية من الربيع في السودان والجزائر، ضد قائدين جثما بين عشرين سنة وثلاثين سنة على البلدين، وتفجر الحراك حاملاً آمالاً ليست للبلدين الأكثر مساحة في العالم العربي، فقط، ولكن لروح الربيع، واستبشرت قوى التغيير ورأت أن جسد العالم العربي لا يزال ينبض بالحياة.
وسرعان ما انتهى الحراك إلى خيبة، إذ ارتهن السودان إلى قوى المحافظة، وأسلم لها زمام أمورها، ويعرف وضعاً متوتراً مع إثيوبيا، أما الجزائر فلم يستطع الحراك أن يفضي إلى وثيقة دستورية تحظى بالإجماع، وفاقم من الأمر غياب الرئيس عبد المجيد تبون لأسباب صحية.
ثم تحركت موجة ثالثة في لبنان والعراق ضد الطائفية، وقال اللبنانيون عن بكرة أبيهم: “طائفتي لبنان”، وصدح العراقيون: “نريد وطناً”، وانتفضوا ضد المحاصصة وما يترتب عليها من فساد. وما لبث لبنان أن غار في مأزق مؤسسي على أرضية أزمة اقتصادية، واهتز جراء تفجير ميناء بيروت في أغسطس/آب المنصرم، ولم يجد لبنانيون غضاضة في أن يستنجدوا بـ”أمنا الحنون” فرنسا، وعبرت فاعليات عن رغبتها في عودة انتداب فرنسا، وتحدث لبنانيون إلى الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته لبيروت عقب التفجير كما لو أنهم تحت الانتداب، ولم يرَ الرئيس الفرنسي حاجة كي يمر على قصر بعبدا. أما العراق فقد عاد إلى سيرته الأولى من التفجيرات واستهداف المدنيين والفوضى غير الخلاقة والإرهاب.
كان يوجد بصيص من الأمل في بلدان المغرب، وفي مصالحة بين المغرب والجزائر تمليها المصلحة والوشائج العميقة بين مجتمعي البلدين، ولكن هذا الأمل تضاءل في ظل التطورات الأخيرة التي عرفتها المنطقة، بتطبيع المغرب علَاقاته مع إسرائيل، وهو وضع ينذر بسياسة المحاور في المنطقة وما يترتب عليها من توتر وانفلات للقرار من بين يديهما. ولم يعرف البَلدان تصعيداً إعلامياً كما عرفاه في الآونة الأخيرة، ومناورات عسكرية بالذخيرة الحية، مع خطابات حربية.
كانت اللُّحمة التي تشد العالم العربي، هي القضية الفلسطينية، وأُريدَ الإجهاز على هذه اللحمة مع صفقة القرن. صفقة القرن هي نتيجة لحال التردي والهوان التي يعيشها العالم العربي. لم يكن لها أن تكون لولا التمزق والضعف والاقتتال بين مكونات الشعب الفلسطيني.
كانت الجامعة العربية هي الإطار الذي يجمع دول العالم العربي، ولو أنه كان إطاراً هشاً، لم يُفعّل قط معاهدة الدفاع المشترك، ولم يحل نزاعاً، ولم يُقم إطاراً للتعاون الاقتصادي، لكن ظل محافظاً على الحد الأدنى، من خلال لقاءات دورية روتينية، مع خطب ركيكة وأخطاء لغوية فادحة. إلا أن الجامعة العربية انتهت عملياً بعد ما سمي “اتفاق إبراهام” التطبيعي.
النظام العربي الذي بزغ عقب الحرب العالمية الثانية انتهى.. والربيع العربي أخفق.
هل نخلص إلى أن العالم العربي ليس موجوداً، وأن ما يوجد هو دول عربية ولكل دولة أولوياتها ومصالحها؟ هو هذا المنحى الغالب، النظرة الواقعية أو البراغماتية. لماذا الجري وراء سراب؟
لكن هل يمكن الزعم أن كل الأواصر تحللت؟ هل يمكن القول إنه لا شيء يجمع من هو في بغداد مع من هو في نواكشوط؟ هل يمكن أن نختزل اللغة العربية في وظيفة التواصل وأنها جامدة محايدة لا تحمل ذاكرة ولا آصرة، وأن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم؟
على الرغم من حالة التردي والتمزق والفرقة فلا يمكن نفض اليد مطلقاً، لا تزال جذوة ثاوية وسط الرماد، هي ما يتعين النفخ فيها وإذكاؤها. وتتعين قراءة جديدة للخريطة الدولية، لأن العالم متداخل وهو في تطور دراماتيكي.
توجد بوارق أمل، منها المصالحة بين دول الخليج، وتوجد بوادر بث للدفء بين السعودية وتركيا، ويوجد تأثير مجتمعي في المغرب والجزائر كي لا يؤول الأمر إلى المواجهة، ويوجد عزم لوقف الاقتتال في اليمن.
محكوم علينا بالتفاؤل كما كان المسرحي السوري سعد ونوس يقول، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.