لم يكن للشعر العربي ولا للشعراء العرب قديما ومنذ نشأته ملك ولا أمير، ولم يعرف تاريخنا الأدبي هذه اللفظة (إمارة الشعر) في كل العصور التي عاشها الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلا في عصر النهضة العربية أو العصرالحديث.. ففي العصر الجاهلي كان الأدب العربي يعيش عصره الشامخ وقد عرف بتشجيعه للشعر والشعراء، وعرف بأسواقه الأدبية التي كانت تعقد للمباريات الشعرية فتحضرها الوفود العربية من أغلب قبائل الجزيرة العربية ومن أطرافها لإلقاء نتاجهم الشعري وتتفاخر به كسوق (مجنة) في مكة، وسوق (ذي المجاز) القريب من عرفات، وسوق (المربد) قرب البصرة، وسوق(الكناسة) من الكوفة، وسوق (دومة الجندل)، وسوق (هجر)، وسوق (عكاظ) الذي كان من أشهرها، حيث كان الحكام يسمعون الشعراء وهم ينشدون قصائدهم في لهجاتهم، فيحكمون فيها للأفضل والأسمى إنشادا ونظما، ومن جميع لغات هذه القبائل ولهجاتها منهم، فما استحسنوه من تلك اللهجات أثبتوه وتكلموا به وما لم يستحسنوه هجروه وأسقطوه، فصارت اللغة العربية أفصح اللغات ولهجة قريش أفضل اللهجات، حيث خلت لهجتهم من سماجة اللهجات ومستقبح الألفاظ والعيوب اللغوية.
تلك نعدها فترة ذهبية للشعر -فترة الشعر العربي في الجاهلية- عجت بفحول الشعراء ولم يؤمر للشعر أمير، وكان هناك من يستحق هذه الإمارة بإجماع الشعراء والأدباء والنقاد ومؤرخي الأدب، وهو الأمير الفارس امرؤ القيس الذي امتاز بإجماع علماء الشرق والغرب بالإبداع وقوة الخيال. وكان أمرؤ القيس من شعراء الدنيا القلائل الذين ابتدعوا فأبدعوا واختطوا خطة سار عليها الشعراء من بعده بقصد أو من غير قصد. وتلت تلك الفترة الجاهلية فترات أو عصور ذهبية بلغ فيها الشعر أوجَه وقمته واحتل منزلة رفيعة، خصوصا في العصر العباسي، وكان الشعراء يعدون نوابغ القوم، وقد كان من الشعراء في هذه الفترة فطاحلهم: أبو تمام والبحتري والمعري والمتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فهو ملك الشعراء وأميرهم الأكبر.
وقد استحدثت فكرة (إمارة الشعر) لأول مرة في تاريخ الأدب العربي عام 1927 عندما عقد الأدباء في القاهرة اجتماعهم بدار الأوبرا الملكية المصرية برعاية الملك (فؤاد) ملك مصر، حيث تم اختيار الشاعر الكبير أحمد شوقي أميرا للشعراء، وقدموا له الهدايا بهذه المناسبة وتوّجوه بلقب (أمير الشعراء)، وكان ذلك اليوم مشهودا في تاريخنا الأدبي. وقد احتدم الجدال في حينه بين مجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء حول إمارة الشعر في الأدب العربي منهم من يقرها ومنهم من يرفضها ومنهم من رضي بالشاعر أحمد شوقي أميرا للشعراء، وآخرين يؤمرون غيره في جدال وصراع طويل.
والشعر العربي مر بعصور شعرية معروفة ولكل من هذه العصور شعراؤها، وفي كل عصر برع شاعر أو أكثر بز الآخرين وفاقهم، ولأجل أن نعيد للماضي حقوقا ولشعرائنا ونذكرهم بما هم فيه. لذا يحق لنا أن نسمي لكل عصر من هذه العصور الشعرية أميرا وجميعهم هم أمراء الشعر العربي بإجماع الشعراء ونقاد الأدب العربي ومؤرخيه، وهو عنوان مستحدث أرغب في إشاعته، ولنظهر أمراءنا في الشعر والأدب ونفخر بهم. ومن هنا سأتناول بالبحث والتقصي الشعر في كل عصر من العصور وشاعرا معينا، ولأعتبره في رأيي الخاص أميرا للشعر العربي، فيه ممن تتوافر فيه كل الإمكانات و الامتيازات والصفات الشعرية والأدبية التي نجعله أميرا للفترة المعينة بلا منازع. وهي حالة ابتداع ربما يلومني الآخرون عليها أو يفضلون شاعرا آخر غير الذي أختاره، ولكل الحق في إبداء رأيه وتصويبه، وربما ترقى هذه الفكرة بعالم الشعر نحو الأسمى والأسنى، والله من وراء القصد.
– لاحظ كتابي (دراسات في الشعر العربي وإماراته).