(1)
نص القصيدة: دعوة ناسك – أحمد حضراوي
نبضي إليكِ كدعوة النّسّاكِ
هل للصبابة غيرُ وجه رضاكِ؟
تغرين محرابي بتوبة مذنب
ألف الضلال فكان مثل هداكِ
قد كان أصغر طهره، متبتلا
كشَف الحجاب ليختلي بهواكِ
في طلعة كالماء يغمر ثغره
في أوبة الظمأ العظيم، أتاكِ
ما مر منه إليك من سيارة
ما أوردوا حبلا يثير خطاكِ
بشرى لرقٍّ لم يزل، أسرارهم
تخفي لهيب الأرض حين طواكِ
كان الطريق إلى عزيزة قصرها
ما غلّقت أبوابها للقاك
قاتلتُ دونك ثم سقت لأسرها
والأسر أنت وسدرة الأشواك
أسريت بي رؤيا لكوكبك الذي
سبر الجمال به وقال كفاك
ووهبتني خبز الجراح وصحبة
كانت أساي بموقد الأفلاكِ
فرعونُ حين رآك ضم جناحه
وهوى علي بسيفه الفتاكِ
أوصى رفاتي أن يصير غبارها
فقدا فصارت وردة لشذاكِ
لما دنا منها يعطر صبحه
ألقا جنا من لحظ كحل باكي
وجهي تدلى من أنين سلامها
ذكرى تثور ولم تثر لسواك
وتحل بي في فيك قبلة مغرم
بالبعث يسدل فوْهة المسواكِ
لما رأى ذاتي بعين حبيبتي
وهواي حاط بها كما الأسلاكِ
لفظ الذي قد ظل يضمر دهره
يحكيه لكن لم يكن بالحاكي
قد كان هارونا وموسى لم يكن
إلا أنا وعصاي تقرع شاكي
فلقت له رشدا ركبتُ عبابه
لأعود نحوك يونسا بدعاكي!
(2)
عندما تتأمل في منظر طبيعي -خلاب- وأنا أعني بهذا اللفظ ما يستميل الذات إليه بكل ما فيها من وعي وإحساس وذائقية لروعته وجماله، فكأنما هو أسر الذات ولم يتركها تتحول عنه وكذا كل عمل فائق الجمال، لوحة، موسيقى، قصيدة، سلوكا ما..، هذا الجمال الساحر يجعلك تعيش وجدا قلما تستطيع أن تحوله إلى عبارات تؤدي إحساسك به فتبقى عند مستوى التذوق الذي يجعلك تعلق فيه ولا تدري كيف الفكاك منه. هذا ما يحدث لي لأول وهلة، لكنني لا أستسلم لهذا السحر وأحاول أن أميط عن عيني غلالات السحر هذه واحدة بعد أخرى إذ أعرف أسباب فتنتي بالعمل، أغوص فيه أو بالأحرى أجعله يتخلل أعماقي لتختفي الحجب بين السحر ذاته وبيني فأواجهه مواجهة مباشرة فأعلم بعضا من أسراره، عندها فقط أقف على مشارف هذا الجمال لأستمتع به وأنا أعي لم فتنت به..
(3)
في كثير من الأحيان عندما تتحاور مع فنان يقول لك -عفو الخاطر- عملي هذا لم يأخذ مني وقتا طويلا في إنجازه، كأنما هو يملى علي، كأنما يد ما تأخذ بيدي لإنجازه، كأنما يسكب في روحي، ومن روحي تنزف الكلمات أو الألحان، أو بالأحرى تشرق هالات الضوء لتستقر فوق صفحات وجداني ثم تتسرب من خلال أناملي أو على لساني. وهذا حق، ذاك أن المبدع له رحما مجازية في عمق روحه تحمل ما يعلق فيها بعد أن تتلاقح مشاعره المرهفة مع ما يهز وجدانه من آلام وأفراح ومعاناة ومعايشة ولواعج. مثل يراها في وعيه المرهف لكنه لا يجدها في عالم يعيش فيه. جماليات يتمنى أن تحيط بنا وننعم بوجودها. وأحيانا قهر يود لو نتخلص من أسبابه. كثيرة هي تلك المؤثرات التي تتفاعل في رحم روحه، في عمق أعماقه، فإذا ما تحولت إلى علائق بدأت تنمو وتتشكل كما الجنين حتى تكتمل وفي لحظة اكتمالها تخرج إلى النور كائنا حيا يرث صاحبه وإلى الأبد، ويحقق له الخلود على قدر عظمة الإبداع. هذه مجرد فكرة من فكر كثيرة أوحتها لي هذه القصيدة ونحن في بداية القراءة بعد..
(4)
الجميل في الأعمال الأدبية الراقية والعميقة الدلالات، التي تحمل رموزا تاريخية أو دينية أو إنسانية حتى، هذه الأعمال يمكن أن تؤل عدة تأويلات وتقرأ عدة قراءات بعدد من يتناولونها بالشرح والتعليق، وتكون جميعها صادقة، فكل منا قد ينظر إليها من زاويته هو، من خلال ثقافته وخبراته أو بالأحرى معاناته التي لن تشبه معاناة غيره إلا في عموميتها، أما تفاصيلها الدقيقة فمختلفة جدا إلى درجة بعيدة المدى. وكلما كثر قراء عمل فني ما، كلما ازداد العمل ثراء، ذلك أن الإضاءات تسلط على ما غفل عنه الآخرون ليس لقصور فيهم ولكن لغنى العمل الإبداعي. وهذه القصيدة كما أراها مناجاة راقية لامرأة يمكن أن تكون تغزلا بمدينة، ويمكن أن تكون حبا عميقا لوطن، ومن ثم تختلف دلالة الرموز وقد تتباين في كل قراءة من هذه القراءات الثلاث.
القصيدة غنية برموز تاريخية دينية عديدة، وهي في غالبها تخص الحضارة المصرية وما حدث لأنبياء الله على تلك البقعة من الأرض وما ذكر عن هذه الأحداث في القرآن الكريم بالذات. فالسيارة وحبل البئر، وعزيزة قصرها، وما غلقت أبوابها، وفرعون، وهارون وموسى وعصاه، ويونس. وهناك الرموز الدينة مثل: محراب والتوبة والضلال والحجاب والإسراء والبعث.. كل تلك الرموز وغيرها وظفها شاعرنا بفاعلية أضفت دلالات عميقة على إبداعه، وفي الوقت ذاته حاك منها ثوبا مميزا من جماليات المبنى التي تتضمن ثراء المعنى.
(5)
قلت سابقا أن هذه القصيدة لغناها وجزالة معاني مفرداتها وعمق دلالاتها وتنوعها، يمكن أن تقرأ عدة قراءات إن نظرنا لموضوعها الرئيس فيها على أنه امرأة أو مدينة أو وطن. وهنا سأعتبر الشاعر وكأنما هو يتحدث بلسان من فارق وطنه وكانت أعز أمنياته أن يعود إليه، من امتلأ قلبه بحب وطنه وهام فيه. وهذه مجرد قراءة افتراضية جائزة – لا غير – تعني كل من هجر قسرا عن وطنه أو تغرب، وتسلط فرعون ما عليه، عدوا كان أو مستبدا. فقاسى الأمرين بسبب هذا الغياب. عندها يمكن لنا أن نفسر الرموز الدينية أو التاريخية بوقائعها الحقيقية. إذ يقول الشاعر:
فرعون حين رآك ضم جناحه
وهوى علي بسيفه الفتاك
أوصى رفاتي ان يصير غبارها
فقدا فصارت وردة لشذاك
وقوله:
قد كان هارونا وموسى لم يكن
إلا أنا وعصاي تقرع شاكي
فلقت له رشدا ركبت عبابه
لأعود نحوك يونسا بدعاكي!
وقد كان جاز لنا أن نسترسل في هذه القراءة لولا بعض الدلالات والقرائن التي تؤكد لنا -كما قال شاعر المبدع ذاته- أنه إنما أراد بلفظ امرأة -امرأة حقا- لا مجرد رمز، لذا سنحاول أن نقدم القراءة الأخرى..
(6)
بعد أن قدمنا -قراءة افتراضية- إذ افترضنا أن الشاعر كان يتحدث عن “وطن ما” نحاول الآن أن نقرأ القصيدة وفي ذهننا أن الشاعر يتحدث عن المرأة والتي هي الأنثى وهي ذاتها الوطن، وهي الحقيقة التي يعايشها الرجل وهي المثال المتصور كذلك. في هذه الحالة تتضح لنا دلالات ومعاني الرموز الدينية من ناسك ومحراب وضلال وهدى وتبتل وإسراء وأفلاك وبشرى ورؤيا، جميعها تؤدي إلى معان تحلق في سماوات قدسية العلاقة بين الرجل والمرأة، الحبيب والحبيبة، آدم وحواء. وقدسية العلاقة وطهرها لا تعني عدم الوصال، لكنه ذاك الوصال المقدس الذي يقترب من التعبد في محراب العلاقة بينهما. والرموز التاريخية الدينية التي أوردها الشاعر في قصيدته لها دلالات المعاناة التي يمر بها الحبيب في سبيل الوصول والوصال من تلك الإشارات التي تلمح إلى معاناة يوسف عليه السلام، وجبروت وتسلط فرعون، والأسر، ومعاناة هارون وموسى ويونس ومن ثم انتصار مثل الخير وتحقق ما كان متصورا أنه مستحيل. وبقي أن ندخل في عمق القصيدة، فنحن ما زلنا على مشارفها..
(7)
يقول الشاعر :
نبضي إليك كدعوة النساك
هل للصبابة غير وجه رضاك؟
تغرين محرابي بتوبة مذنب
ألف الضلال فكان مثل هداك
من جماليات القصيدة هذه استخدام الألفاظ بطريقة يتجلى فيها الإبداع، وعندما نقول إبداع فهذا يعني حدث غير مسبوق، فاختيار النبض ليكون هو ذاته رسالة ودعوة من الحبيب لحبيبته لهو أجدى من آلاف الكلمات. فالنبض عدا عن كونه حركة منتظمة لبث الدم خلال الجسم كله فهو باعث للحياة فيه يحوله من مجرد جسد إلى جسم تسري فيه الروح. فتعشق الروح هذا الجسد وتعلق فيه إلى ما شاء الله، ونبض هذا الناسك المتبتل محملا بدعوته القدسية تلك لا يخالطها هوى لغير محبوبته لابد إذا أن تجتاز كل المسافات والعقبات والصعاب حتى تصل كما يصل نبض القلب إلى الخلايا. ناسك لا يرى ما يكافئ شوقه وولعه الشديد -بمن يحب- ومكابداته إلا رضاها. والدعوة هنا قدسية كونها من ناسك في الحب منقطع له، لا يروم ولا يرتجي غير الرضى، وإنما جاء انقطاعه وتبتله ذاك بسبب إغراء لا إغواء وهنا مكمن قدسيته. كيف لا وهي بكل بهائها من تمكنت من تحويل محراب عبادته في الحب نحوها فكانت قبلته الوحيدة بعد أن ألف ضلاله حتى تحول إليها فكان الهدى. فكل حب لغيرها أصبح في نظره ضلالا. من هنا جاء عنوان القصيدة -دعوة ناسك- لتكون تتويجا لها، فهي ليست دعوة من أي كان لأي امرأة، بل هي دعوة ممن أوقف نفسه على حب يستحق التعبد في محراب يخصهما. والمحراب هنا هو قلب الشاعر ولذا أمكن تحويله من الضلال إلى الهدى بعد رؤيته لوجه الحبيبة، وهنا إبداع وتوظيف جديد للألفاظ في غير ما اعتدناه من نسج جمالي للعبارات على غير منوال سابق.
(8)
قد كان أصغر طهره، متبتلا
كشف الحجاب ليختلي بهواك
في طلعة كالماء يغمر ثغره
في أوبة الظمأ العظيم أتاك
بعد دعوة الشاعر المتميزة تلك لمحبوبته والتي لم أر لها مثيلا ولا رقيا فيما اطلعت عليه من أدب الدعوات والشعر معا، وبعد تحول قلبه -محراب عبادته- نحو الهدى بعد الضلال، تبدأ الحكاية، حكاية الحب، ويبدأ سردها من خلال صور غاية في الجمال يجعلنا نعايشها وكأنما نعاينها واقعا أو نشاهدها مرسومة بيد فنان ذو حساسية فائقة. فالنص يفيض بالصور البلاغية غير النمطية، ويزخر بالتشيبهات التي تقرب المعنى، وبالاستعارات التي تعبر بنا إلى وجدانه تجعلنا نشرف على معاناته لنتفاعل معها لا إشفاقا ولكن تفاعلا إيجابيا يدفعنا إلى المتابعة باهتمام حتى آخر حدث فيها. هي حكاية حب ككل الحكايات لكنها فريدة بتفرد مبدع سردها وقدرته على الصياغة، أحيانا يكون صريحا واضحا، وأحيانا يلمح لنا فيترك للخيال سعة ممتدة يجوبها الذهن محاولا التقاط المعنى أو التقاط الحدث أحيانا أخرى. يجول بنا بين عقله ووجدانه وحسه والواقع الذي عاش أحداثه ليكتمل لنا سبر غور ما حصل بالفعل. بطلة القصة حاضرة فيه -أي في وجدان الشاعر وليس معه، حاضرة في ذاك المحراب، لا في واقعه، وتطل علينا من خلال إحساسه بها، فالشاعر هنا هو الراوي وهو الفاعل والمنفعل. المتأثر والمؤثر وغيره من الشخصيات توصف ولا تحضر حضورا حقيقيا. فمبدعنا يقدم معاناته هو كما عاشها وبكل الصدق، لكنه هو الحاضر الفعلي الوحيد.
بدأ القصدة بكشف حجاب حبه لها، ذاك الحب الذي كان أقل ما يقال فيه أنه انقطاع تام عن سواها، وتوبة نصوحة عن هوى غيرها، حتى طهر قلبه من حب غيرها، ووصل هذا الحب في ارتقاء روحه ونفسه كما ترتقي الماء ثغر الإنسان كناية الغرق، أو الاقتراب منه. وكيف لا يكون ذاك وقد عاد وهو في حالة الظمأ الشديد لها ولحبها..
(9)
ما مر منه إليك من سيارة
ما أوردوا حبلا يثير خطاك
بشرى لرق لم يزل، أسرارهم
تخفي لهيب الأرض حين طواك
كان الطريق إلى عزيزة قصرها
ما غلقت أبوابها للقاك
قاتلت دونك ثم سقت لأسرها
والأسر أنت وسدرة الأشواك
ونكمل وقائع أحداث حكاية الحب هذه والتي ألمح لنا مبدعها ببدء معاناته والتي تتشابه في بعض جوانبها من حيث طهر قلبه المحب بطهر نفس الطفل الصديق يوسف، وللصديق المثل الأسمى- لكنها الدواخل النقية الصافية تسلم ذات صاحبها دون هواجس الشكوك المريبة لمن تثق بصلتها بهم حتى يتحول السيد بأيدي هؤلاء إلى عبد رقيق. ورق شاعرنا هنا رق معنوي لا حقيقي وإن كان له ذات طعم المرار وربما أكثر قسوة، قسوة لم ينصفه منها أحد، ولا كان له بشير يمنحه بريق أمل كما حدث ليوسف. وتتواتر معاناة المحب الشغوف شدة وتزداد إذ يرى غيره يستأثر بها وعن طواعية منها حتى أحس وكأن لهيب الأرض كلها تختفي في جوفه يمتلأ بكل حرها حتى تطوى في ذاته وحده، يستشعر لهيب احتراقها في أعماقه. ولم تكن هذه المعاناة لتحصل لولا استمالتها له وإشعار منها بقبول دعوته. ليتساءل، لم إذا قبلت ولانت ولم تغلق أبواب قلبها ومشاعرها عنه وهي العزيزة المنيعة لو أرادت، ثم تقبل بمن أتاها وعن طواعية دون إكراه؟! يستغرب المحب مثل هذا السلوك ممن أحب وهي تدرك أنه أحبها بكل جوارحه واستبسل كي تكون سيدة قلبه ووجهة تبتله الوحيدة ورغم ذلك توافق أن تكون لغيره ببساطة توجع قلبه البريء من الدنس. توجع قلب عاشق اكتشف أنه وقع في مكيدة تكاد تتشابه مع مكيدة إخوان الصديق يوسف، إذ أوقعوه في الجب على حين غرة، وهي أوقعته في أسرها، أراد هو أن يأسرها بالحب وأرادت له أسرا لا علاقة له بالحب فكان لا كمن يقع في الجب، بل كمن يقع بين أغصان وعروق شجرة شوكية تزداد آلامه ومعاناته شدة حتى وهو يحاول الخلاص منها، وتزداد هي في أسره وتعذيبه، ولكن إلى متى.. ؟!
جمالية في التعبير، وخيال يمتزج بالواقع، وإحساس مرهف، وسبر غور النفوس حتى أعمق أعماقها. حكاية تتكرر كل حين لكنها هنا توضح لنا بعضا من مشاعرنا وتلقي عليها شيئا من إضاءة تزيل عتمتها.. وحكاية شاعرنا ومعاناته لم تنته بعد، فلها فصول أخرى..
(10)
أسريتِ بي رؤيا لكوكبك الذي
سُبر الجمال به وقال كفاك
ووهبتني خبز الجراح وصحبة
كانت أساي بموقد الأفلاك
يكاد مبدعنا أن يقول هنا أنه تعرض إلى خديعة ماكرة وإلا فلم كل هذا الإغراء من هذه الفاتنة الساحرة التي أوصلته إلى حالة من الهيام بها حتى وصل إلى درجة من التبتل جعلت روحه وذهنه أسيرا هواها، فكان إسراء النفس نتيجة حتمية، ليرى بروحه المحبة جمالا لا يمكن له وصف تفاصيله إلا بأن يشبهه بكوكب استولى على حقيقة الجمال حازه حصرا، استولى عليه حتى امتلكه، فهل كان الإغراء إغواء؟! ويمكن أن تكون الإجابة أجل إذ كان جزاء كل ذاك الحب منه أن كانت هبتها لعاشقها -خبز الجراح وصحبة- وهذه إشارة أخرى- للصديق يوسف- وتفسيره لرؤيا صاحبيه في السجن. وهذا نعي معنوي للذات. فمن قتل حب روحه هو بالضبط كمن سلبت منه هذه الروح، ألم انتزاع الحبيب من الوجدان كألم انتزاع الروح من الجسد إن لم يكن أكثر قسوة وأشد معاناة، فالموت يكون مرة واحدة وتنتهي المعاناة بعد حين، وانتزاع الحبيب من الوجدان لا تنتهي آلامه فالذاكرة حية ما لازمت الروح الجسد، وطعم الألم ونكته نادرا ما تزول فكيف في حالة كهذه، إذ أوصلته الحبيبة إلى مراقي النجوم ثم هوت به إلى القيعان الصلدة حيث لا شيء إلا الخديعة والمكر، فبدلا من أن يعيش حبه متمتعا بجمال محبوبته وجد نفسه يسقط في جحيم الغدر ونار الأسى والأحزان.. وللحكاية بقية.
(11)
فرعون حين رآك ضم جناحه
وهوى عليّ بسيفه الفتاك
أوصى رفاتي أن يصير غبارها
فقدا فصارت وردة لشذاك
لما دنا منها يعطر صبحه
ألقا جنا من لحظ كحل باكي
وجهي تدلى من أنين سلامها
ذكرى تثور ولم تثر لسواك
وتحل بي في فيك قبلة مغرم
بالبعث يسدل فوهة المسواك
بدأ “شاعرنا” من أعماق نفسه المحبة، من نبضات قلبه -محرابه الذي يتبتل فيه- بالذات لتكون هذه النبضات رسالته إلى الحبية لتشعر به. ثم حديثه إليها وقد بدا العتاب واللوم ممتزجا بلوعته وإحساسه العميق بالألم لما حدث منها إذ أغرته بالحب وأملته بالوصال ثم تحولت عنه إلى غيره، وبعد أن كانت هي الكوكب الذي أسرت به إليها متمتعا بجمالها والنور، صارت شجرة من الشوك تزيد من آلامه وتحيط به كما تحيط أغصان هذه الشجرة -ذات الشوك- بمن يقع وسطها، كلما أراد التخلص منها اشتدت وخزات أشواكها.
وفي هذا المقطع ينتقل بنا الشاعر إلى معاناة أخرى، لكنها معاناة تعيشها الحبيبة ويستشعرها الحبيب ولا تهون عليه. معاناة من فرعونها الذي ما أن شاهدها حتى انطلق ليستأثر بها وينتزعها ممن أحبها حقا. فرعون الذي لم يكن بحاجة إلى مزيد عدد من النساء لكن جمال الحبيبة والرغبة في الفوز بقلبها استبد بها وظن أنه فاز. ويبدو أن فرعون هذا قد استشعر ذاك الحب الدفين في قلب المرأة فحاول جاهدا أن ينتزع هذا الحب من قلبها بكل ما أوتي من قوة، وبطرق عديدة لم يذكرها الشاعر لكنه ألمح إلى قسوتها وفظاعتها إذ قال: “وهوى علي بسيفه الفتاك”..، أراد أن يقتلعه اقتلاعا من قلبها وذاكرتها في آن معا، وهو لا يدري أنه بمحاولة قتله لذكرى الحبيب كأنما هو يبعثه حيا فيها، بل حوله من مجرد ذكرى إلى واقع تعانيه ويتراءى لفرعون هذا كلما اقترب منها، يطل عليه من خلال نظرات عينيها ودموعهما، يحضر في تعابير وجهها المتألمة لفقد من أحبت عن طواعية منها.
كانت بروعتها وألقها ككوكب حاز الجمال كله إذ أحبت، وتحولت إلى حاضنة بقايا ذكرى الحبيب، حاضنة رفات حبها، بل بقايا بقاياه -غبار- كما أصر الفرعون أن يصيره. لكن المفاجأة أذهلته إذ انقلب فعله ذاك عليه هو وأصبح حاجزا بينه وبين المرأة، بل أقوى دليل على هزيمته أمام هذه البقايا من ذكرى الحبيب، ليدرك أن الحب مازال متمكنا في قلبها ولكنه امتزج بالحسرة والندم لفقده وتحولت ملامح الوجه المشرق المنير إلى الذبول، والمشاعر الجياشة إلى الهمود، والتألق إلى خفوت، وانطفأ البريق من العينين وتقاطرت الدموع ليسيل كحل عينيها فيزيدهما ظلمة. ويبدو أن الحبيب استشعر ما حصل لحبيبته أو علم به، أو ربما أرسلت إليه تشرح حالها فأدرك شدة معاناتها، أدرك ندمها وحسرتها وما صارت إليه فثار حنينه، وشب حبه لها من جديد حتى أن علامات الحزن والأسى واللوعة جعلت وجهه وكأنه يتدلى إليها هياما بها وشوقا إليها، فتعاوده ذكرى حبه لوحيدة قلبه ويتصور أنه يقبلها بشفتيه اللتان تقبضان على مسواكه متمنيا أن يبعث هذا الحب حيا كما كان.. ويبقى من الحكاية فصلها الأخير.
(12)
لما رأى ذاتي بعين حبيبتي
وهواي حاط بها كما الأسلاك
لفظ الذي قد ظل يضمر دهره
يحكيه لكن لم يكن بالحاكي
قد كان هارون وموسى لم يكن
إلا أنا وعصاي تقرع شاكي
فلقت له رشدا ركبت عبابه
لأعود نحوك يونسا بدعاكي!
سبق أن ذكرنا أن القصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات والكنايات، فقد بدأت منذ أول كلمة فيها وأخذت هذه الأدوات الجمالية ترسم لنا من خيال الشاعر ما يساعدنا على العبور إلى أعماق وجدانه، تجوب بنا عوالم من المشاعر والأحاسيس التي ما كانت لتتضح لنا لولا هذه الأدوات البلاغية، حتى وصلت إلى ذروتها في الجزء الأخير من القصيدة إذ يقول: “لما رأى ذاتي بعين حبيبتي”، وكأنما هو حاضر فيها بالفعل، لم يغادرها أصلا يطل على فرعونها هذا من خلال عينيها يحدق فيه، لم يغب لحظة، فالحب إن تمكن من الإنسان أسكن الحبيب حبيبه في أعماقه حتى ليكاد الناظر في عينيه أن يرى المحبوب. فرعون هذا بعدما تصور أنه امتلك هذه المرأة، تفاجأ بما لم يكن متوقعا إلى الدرجة التي لم يستطع مجرد الاقتراب منها، وكأنما بينه وبينها أسلاك شائكة تمنعه من مجرد العبور إليها. في هذه اللحظة التي أدرك فيها أنه لن ينالها كما أراد، أخرج ما كان يضمره في نفسه إذ لم تبق حاجة إلى كتمانه وقد حصل ما حصل. أراد عندها -ربما محاولة منه- أن يجعلها تشعر بالأسى واليأس ممن أحبت، وأن ليس لهذا الحبيب من عودة إليها، وأنها فقدته إلى الأبد، فهو بنظر فرعون قد دخل التيه وأنه ليس بخارج منه، قضى أو سيقضي نحبه حيث اللاعودة، حيث الضياع والموت الأكيد حتى وإن كان موتا معنويا. موت الحب في قلب الحبيب لحبيبته وقد تركته وقبلت بغيره.
ومن صور الإبداع في سرد هذه الأحداث أن الشاعر قد أوضح لنا أن فرعون هذا لم يصرح بتلك الأقوالل للمرأة وإنما عاملها بما يوحي لها به إذ يقول:
لفَظ الذي قد ظلّ يضمر دهره
يحكيه ولم يكن بالحاكي..
إذ ترك للقارئ حرية التحليق بخياله كيف يشاء، ويبتدع صورا من السلوك المتوقع في حالة كهذه.
وفي تلك اللحظة الحرجة التي وصلتها المرأة جاء جواب الحبيب ليطمئنها، فمهما حدث هي مازالت -الحبيبة- في نظره، وأنه هو المحب ومازال يقيم على الود، وليخبرها أنه ليس كما هارون بل هو في عودته إليها مثيل “موسى”، حتى أنه حذف أداة التمثيل -ك-، وقال: “
.. وموسى لم يكن
إلا أنا وعصاي تقرع شاكي..
ولمزيد من تأكيد عودته إليه وحبه لها، وإزالة أي شك في نفس شاك. وإن كانت عصا موسى قد فلقت له البحر كآية من آيات الله، كذلك عصا الحبيب ستفلق له طريق العودة إلى المحبوبة وتمكنه من إنقاذها من براثن فرعونها كما أنقذت العصا موسى وفلقت له البحر ليتمكن من النجاة من فرعون مصر بإذن الله. وكما عاد وآب يونس تائبا إلى رشده سيعود الحبيب إلى من أحبها، وإن عاد يونس من خلال دعائه -“لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، إذ أعلن توبته النصوحة لله، ها هي الحبيبة يبدو أنها تتوب من ذنبها وتدعو أن تعود إلى من أحبت وأحبها، لكن الأخطاء ليست من صنف واحد، وليست ذات جزاء متجانس، فمن يعود عن غيه ليس كمن يغرق فيه، ومن يخطئ دون أدنى إحساس بالندم ليس لمن يندم ويطلب المغفرة. ففرعون وأمثاله لا بد مغرقون ومن يعود عن غيه يعود له رشده ولو بعد حين.
هي إذن معاناة سامية راقية، من خلال جماليات لغتنا العربية وقصص معاناة الأنبياء والرسل مقابلل جبروت المتحكمين بمصائر عباد الله وكأنهم عبيد لهم ولمغرياتهم. وكأن ليس في النفوس قيم سامية توجهها وتحكمها، وقد نخطئ وتغوينا نفوسنا بقبول الإغراءات ونقبل بها، لكن هناك على الطرف المقابل -أحيانا وليس دائما- من يعمل على إنقاذنا مما نحن فيه، ولا يكون ذلك إلا من خلال حب عميق وعظيم وحقيقي. وهي بعد قصيدة ذات بعد إنساني، فمن منا لا يخطئ؟ ولكن العظيم منا من يسامح ويتقبل كوننا بشر إن أصبنا مرة نخطئ مرات، وهذا ما أدركه الشاعر بعد كل معاناتهما هي وهو.
وبهذا يتبن لنا مدى التوفيق الذي أحرزه الشاعر من خلال توظيفه للدلالات والرموز الدينية الواردة فيي القصيدة، فلكل دلالة دور ولكل رمز معنى، ومن هنا بدا ثقل القصيدة ودسامتها وجزالة معانيها وجمالياتها التي تميزت بها.