وضعت في عنوان هذه الورقة كلمة التضريس، وهي من الجذر اللغوي ض.ر.س. وفعل ضرس بالتشديد فيه ثلاثة معان: المعنى الأول ضرس أي جعل فيه تضاريس، أي أحدث فيه منعرجات وانحرافات وحفريات، والمعنى الثاني ضرسه أي حززه وجعل له أضراسا حادة، بمعنى شحذه لكي يصبح حادا وصالحا للقطع، والمعنى الثالث ضرسه أي بالغ في عضه. هناك معان أخرى لنفس الجذر اللغوي في لسان العرب، لكن هذه المعاني الثلاثة هي ما تهمنا.
والواقع أن قضية لغة التدريس فيها جميع هذه المعاني، فهي قضية تضريس للتعليم بمعنى خلق منعرجات وانحرافات فيه، وتحويله إلى أزمة حادة للفرد والمجتمع، وهي أيضا أداة تعض بها الفرنسية على العربية فتخنقها.
قضية التعريب في التعليم تعود إلى بداية الاستقلال في الخمسينات من القرن الماضي، بمعنى أنها كانت جزء من مبدأ الاستقلال السياسي عن الاستعمار الفرنسي. هذا يعني أن الجيل الأول من المغاربة جعل التعريب مسألة سياسية وسيادية، لذلك كان هناك الشعار الثلاثي الذي رفعه المغرب في السنوات الأولى للاستقلال في ما يتعلق بالتعليم: التعريب والتعميم والمغربة. في الواقع كان هناك تركيز كبير على التعريب، لأن المغربة لا تعني فقط استبدال طاقم التدريس الفرنسي بطاقم مغربي، لكن تعني أيضا تعليم المغاربة بلغة المغاربة.
الأمر الذي يستحق أن نثير إليه الانتباه أن تعريب التعليم وتجفيف الفرنسية منه كان محط إجماع، لأنه كان مشروعا وطنيا تبنته الحركة الوطنية باعتباره رمزا للاستقلال السياسي وفك الارتباط مع فرنسا. في تلك الفترة لم يكن من الممكن لأي أحد أن ينسب نفسه إلى الفرنكوفونية، حتى كلمة فرنكوفونية لم تكن موجودة آنذاك، فما ظهرت إلا في نهاية الستينات بعد أن تبناها بعض الرؤساء الأفارقة الذين كانوا يريدون الاستمرار في الارتباط بفرنسا، على رأسهم الرئيس السينغالي ليوبولد سيدار سنغور، فكان من العيب بل من الخيانة الوطنية والقومية أن يظهر شخص يدافع عن الفرنسية في التعليم. كانت ثلاثة أرباع النخبة الوطنية أو أكثر مفرنسة، وبعضها كان يتقن الفرنسية أكثر مما يتقن العربية، لكن مشروع التعريب كان مشروعا وطنيا ولا علاقة له بتعلم اللغات الأجنبية، بل كان إتقان اللغة الفرنسية وسيلة لخدمة العربية لا لخدمة الفرنسية، كما يحصل اليوم.
ومنذ الاستقلال إلى اليوم عقدت مؤتمرات ووضعت مخططات وبرامج لإصلاح التعليم، وفي قلبه التعريب، وبعد مضي ستين عاما تقريبا على الاستقلال السياسي، لا زلنا نناقش مسألة اللغة: هل ندرس المواد العلمية بالعربية أم بالفرنسية، أم ندرس جزء بالعربية وجزءا آخر بالفرنسية؟. وهو سؤال يعيدنا إلى عام 1956، كأننا خرجنا أمس فقط من الاستعمار الفرنسي، وكأننا بحاجة فعلا إلى حركة وطنية جديدة، حركة ذات بعد فكري وطني تعيد ربط اليوم بالأمس.
عندما نرجع إلى الوراء نرى أن المغرب كان في طليعة الدول العربية التي تبنت التعريب في التعليم، في جميع المواد. في بداية السبعينات عندما صادقت جامعة الدول العربية على مشروع إنشاء مكتب لتنسيق التعريب بين الدول العربية كان المغرب هو من احتضن مقره. طوال العقود الماضية وضع هذا المكتب العديد من المعاجم اللغوية التي كان هدفها ترجمة المصطلحات العلمية وتعريبها، في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم النبات وفي الجغرافيا وعلم النفس والاجتماع وغيرها، لكن كل هذه الجهود ضاعت سدى اليوم. والسؤال هو: لماذا كل هذه الجهود والتمويلات والأحلام الوطنية والقومية لكي نأتي اليوم ونبدأ من جديد وكأننا وُلدنا للمرة الأولى؟.
صحيح أن المشكلة معقدة وليست بالبساطة التي نتحدث بها الآن. مشروع التعريب كان مشروعا في إطار عربي أوسع. هذه مسألة سياسية، والتعريب كان حلقة واحدة بين حلقات كثيرة، بينها الجامعة العربية، والسوق العربية المشتركة، والعملة العربية المشتركة، والدفاع العربي المشترك، والوحدة العربية. اليوم نحن نرى أن جميع هذه الطموحات فشلت، فكان لا بد للتعريب أن يفشل، لأنه كان عربة واحدة بين عربات كثيرة يجرها قطار، والقطار سقط في الطريق.
لكن فشل التعريب لا يعني بالضرورة فشل التعليم. كان يمكن أن يفشل التعريب وينجح التعليم، لكن التعليم عندنا فشل. ونحن عندما نركز على المسألة اللغوية نكون كمن يرى الشجرة ولا يرى الغابة. لأن التعليم ليس اللغة وحدها، التعليم مناهج ومقررات وبيداغوجيا وأهداف وطنية وبنيات استيعاب وإدماج للأجيال في الثقافة الوطنية. نحن أفرغنا التعليم من محتواه الوطني، والإدماج الوحيد الذي نتحدث عنه هو الإدماج في سوق الشغل، قضينا على التعليم كرافد حضاري ووطني وجعلناه مرادفا فقط للتكوين المهني. جعلناه وسيلة لتخريج الأيدي العاملة وليس العقول الفاعلة. اليوم نحن أمام مأساة وطنية حقيقية، وإحدى النتائج هي أننا لا يوجد عندنا بحث علمي، كيف لا يكون لديك بحث علمي وتتحدث عن التعليم؟.
المدرسة الحديثة ولدت مع الدولة الحديثة. وعندما أخرجت الدولة الحديثة في أوروبا التعليم من الكنيسة ووضعته تحت تصرفها كانت تدرك أن وظيفة المدرسة هي ربط الأجيال بشبكة من القيم الوطنية، ومهمة التعليم هي هذه المهمة بالتحديد، ويعتبر بيير بورديو أن وظيفتها الأساسية هي إعادة إنتاج الرأسمال الرمزي للجماعة. لكن ما هي شبكة القيم التي يعيد إنتاجها التعليم في المغرب؟.
عندما ننظر إلى الشعار الثلاثي القديم سوف نصاب بالصدمة. التعريب فشل، لأن الفرنسية كانت دائما تزاحم العربية، والمغربة فشلت، لأن زحف التعليم الخاص وسيطرة المقررات الدراسية الأجنبية خارج المراقبة معناه لا توجد مغربة. والتعميم أيضا فشل، لأن تعميم التعليم معناه ديمقراطية التعليم، مثلا عندما توضع الشروط التعجيزية أمام شرائح معينة مثل الموظفين أو أصحاب الباكالوريا القديمة أو غير ذلك، وعندما نرى أن العديد من المناطق لا توجد بها مؤسسات تعليمية بعد ستين سنة من الاستقلال، ماذا يعني التعميم؟.
لكننا لا نطرح هذه الإشكاليات اليوم، ونقفز على المشكلات الخطيرة التي يعيشها التعليم في بلادنا ونخلق أزمة مفتعلة إسمها لغة التدريس. لماذا هي أزمة مفتعلة؟ لأنها تسعى إلى إحلال الفرنسية بشكل نهائي مكان العربية واللغات الأخرى والحكم على الأجيال الجديدة بأن تعيد إنتاج شبكة قيم مغايرة لشبكة القيم المغربية المشتركة. التدريس بالفرنسية معناه أنك تُدرس بلغة يتكلمها 10 في المائة فقط من المغاربة وتهمل لغة يتكلمها 90 في المائة.
هناك من يزعم بأن الدفاع على الفرنسية راجع إلى أنها لغة علوم، وأن العربية ليست لغة علوم. هذا كلام غير علمي على الإطلاق ويعكس الجهل بالإمكانيات الذاتية للغات. وهو أيضا كلام انهزامي لأنه يعني أنك غير قادر على تطوير لغتك، وعندما لا تستطيع تطوير لغتك كيف تستطيع تطويع علوم الآخرين؟ كيف تستطيع استيعاب العلوم بينما أنت عاجز عن مجرد تطوير لغة أنت تملكها وتشكل هويتك؟.
لا توجد لغة ليست لغة علوم ولغة هي لغة علوم. توجد شعوب ميتة، لكن لا توجد لغات ميتة. المثال الأبرز هو العبرية والتركية. طوال قرون ظلت العبرية لغة الكتاب المقدس والصلوات لدى اليهود، لكن “دولة إسرائيل” طورتها وجعلتها لغة علوم وهي اليوم دولة صناعية ومتقدمة كما يعرف الجميع. عندما قامت “إسرائيل” عام 1948 كان عدد اليهود في العالم عشرة ملايين فقط، حتى لو افترضنا أنهم استعانوا بملايين آخرين من علماء اللغة وافترضنا أن عددهم عشرين مليونا سوف يكونون أقل بكثير منا. مع ذلك نجحوا في تطوير العبرية التي كانت ميتة. اللغة التركية كانت شبه مهجورة في الإمبراطورية العثمانية، لأن اللغتين اللتين كانت منتشرة أكثر وسط النخبة العثمانية هي العربية والفارسية، لكن تركيا طورت لغتها فأصبحت لغة علوم وآداب، وكان أول شيء فعله كمال أتاتورك هو إطلاق ما سماه “الثورة اللغوية” DIL DEVRIMI.
لكن الفرنسية ليست لغة علوم إلا بالنسبة للمستعمرات الفرنسية السابقة، كما أن الإنجليزية هي لغة علوم بالنسبة للمستعمرات البريطانية السابقة. لا يمكن أن تجد هنديا يقول لك إن الفرنسية لغة علوم، أي يتبناها كلغة علوم، كما لا تجد شخصا من البلدان الإفريقية المستعمرة من فرنسا سابقا يقول لك إن الإنجليزية هي لغة علوم. معنى ذلك أن الخلفية الاستعمارية هي التي تحدد موقفي من اللغة كلغة علوم. فإذن أطروحة لغة العلوم هي أطروحة مطابقة للأطروحة الاستعمارية.
هل ننطلق مما وصلت إليه اللغة أم ننطلق مما وصلت إليه العلوم؟ إذا انطلقنا مما وصلت إليه العلوم فإن لغة العلوم هي الإنجليزية. عندما أقلب المعادلة فأنا لا أتبنى العلوم، بل أتبنى اللغة الفرنسية.
لكن ما معنى لغة العلوم؟ في جميع المجتمعات التي حققت طفرة علمية وتعليمية وصناعية، لغة العلوم هي اللغة التي بإمكانها أن تجعل العلوم ثقافة شعبية. لنأخذ فرنسا مثلا: في فرنسا تصدر مجلات علمية بالمئات، مثل science et vie, la recherche, la science وغيرها كثير. هذه المجلات هي مجلات شعبية لا تتوجه فقط إلى المتخصصين، لأن المتخصصين لديهم مجلات محكمة ومتخصصة، بل هي مجلات تقدم العلوم كثقافة عامة للقراء من مختلف الشرائح والمستويات التعليمية، تجمع بين التخصص وبين التبسيط. لكن هذه المجلات تقرأ لأن هناك لغة مشتركة بين الكاتب والمتلقي، هي اللغة الفرنسية، باعتبارها لغة قومية للكاتب والمتلقي. لكن هل اللغة الفرنسية لغة مشتركة في المغرب؟.
المسألة الأخرى هي أن التدريس بالفرنسية يحكم على العربية بالموت. عندما تدرس بالفرنسية فأنت تخدم اللغة الفرنسية على حساب العربية، وتمنع العربية من إمكانية التطور لأنك تحكم عليها بأنها ليست لغة علوم، بحيث كلما تقدم الزمن كلما صارت العربية أكثر غربة عن العلوم وصار من الصعب تطويرها بحيث تستدرك ما فات. بهذا التصور يمكنني أن أعتبر الدفاع على الفرنسية مؤامرة على العربية.
إذا أخذنا التنصيص الدستوري على أن اللغة الرسمية للدولة هي العربية بعين الاعتبار سوف تصبح القضية أكثر تعقيدا. ماذا يعني أنها لغة رسمية؟ هل معناه أنها لغة المؤسسات، لغة المراسلات الرسمية، لغة النخبة أم لغة العامة؟ إنها تعني كل هذا وتعني لغة التعليم، إذا كان التعليم يعني تدوير شبكة القيم الخاصة بالجماعة، فإن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بلغة هذه الجماعة.
القضية في النهاية ليست قضية لغة، بل هي قضية تعليم يوجد مرة أخرى أمام حالة تخبط منذ عقود، وقضية استقلالية القرار السياسي في الاختيارات الكبرى. وفي غياب الشروط الفعلية التي تحقق الإقلاع والنهوض لن تنفعنا أي لغة مهما كانت، سواء كانت الفرنسية أم الإنجليزية أم اليابانية أم حتى العربية نفسها. قد ينجح التعريب، لكن في غياب هذه الشروط وفي غياب إصلاح حقيقي للتعليم يعيد النظر في الرؤى والتصورات، لكن يكون التعريب سوى كتابة للعلوم من اليمين إلى اليسار عوض كتابتها من اليسار إلى اليمين.
أخيرا، نحن بحاجة إلى حركة وطنية جديدة مستأنفة، نخبة تفكر في مشاكل الداخل من الداخل.