يدعونا الكاتب الحسين قيسامي إلى ولوج عالم مجموعته القصصية هذه، عبر عنوان عريض وغني بالدلالات، يتضمن مرجعية معرفية تراثية، تتشكل من قائل: “قالت جدتي”، ومن مقولة: “غادي نهز كمامتي وما تعرفوني فين مشيت”. وإذا كان القائل يحظى بالثقة في الأوساط الاجتماعية المغربية ويتمتع بسلطة رمزية فيها، فإن قوله وفعله يكتسيان صبغة الحقيقة التي لا تناقش ولا تجادل. وهذا القول كما يظهر من خلال العنوان مسكوكة لغوية عامية، تتردد في الأوساط الشعبية على ألسنة الصغار والكبار، تعبيرا عن الغضب والنفور من الشيء وهجره إلى حيث لا يظهر للهاجر أثر ولا يعرف إليه سبيل.
وقد ارتأى الكاتب أن ينسب هذا القول إلى الجدة بغية إثباته وتأكيده، كما أنه لجأ إلى تحويره بما يخدم الجانب الدلالي، فأقحم الدال “كمامتي” بدل ما هو متداول في هذه المسكوكة “حوايجي” أي ملابسي ومستلزماتي، أو”فاليزتي” أي حقيبتي. وغير خاف أن تغيير الكاتب لهذه الدوال بلفظ الكمامة يحيل على زمنية الحدث في المجموعة ككل المرتبط بجائحة كورونا التي عمت مشارق الأرض ومغاربها، وما استتبعها من أحداث وإجراءات احترازية للحد منها، استنفرت الأدباء والكتاب إلى امتشاق الأقلام وحفزت قرائحهم على الإبداع. وقد دل تجنيس المجموعة على هذا الزمن صراحة على الشكل التاليك “مجموعة قصصية ساخرة في زمن كورونا”. فكان بذلك وباء كورونا والسخرية هما الخيطان اللذان يربطان نصوص المجموعة.
لقد أصبحت الكمامة في زمن هذا الوباء أهم عند الانسان من ملبسه، فهي كل ما يشغل باله ويستدعي حرصه وهو يهم بالخروج إلى الشارع العام، أو بالابتعاد بضع خطوات عن منزله، لما لها من دور وقائي في انتقال العدوى وانتشاره بين المواطنين من جهة، ومن جهة ثانية، نظرا لسندها القانوني الإلزامي الذي يجبر المواطن على ارتدائها في الأماكن العامة وتغريم وتجريم كل مخالف لذلك، من قبل السلطات التي أصبحت تقود حملات تمشيطية لهذا الشأن، ومن جهة أخرى فإن الكمامات عرفت ندرة في الأسواق إلى حد فقدانها نهائيا في بعض المناطق مع بداية الوباء، مما جعل الحصول عليها أمرا عزيزا. لهذا، ولكي تؤمن الجدة هجرها وتبلغ هدفها من غضبتها كان عليها ألا تنسى كمامتها، وكل شيء ما عدا ذلك فهو أمر غير ذي بال في زمن الجائحة.
وهذا موقف ساخر اضطلع به العنوان، وانبنت عليه أحد النصوص من داخل المجموعة التى وسمت بالعنوان نفسه. وفي محاولة من الكاتب لإضفاء طابع السخرية على قصصه، لجأ إلى النحت من صخر التراث الشعبي المغربي، مقتبسا المتداول من ملفوظاته وأحداثه كما وصلت إلينا، أو بتحويرها وإعادة صياغتها حتى تلائم الزمان والحدث كما في قوله: “اللي عزيز على ميمتو عمرو ميتخص”، “لونجة بنت الغولة الكوفيدية”، “صياد كوفيد يلقاها يلقاها”. كما لجأ إلى الامتياح من قصص الأدب العربي والعالمي قديمه وحديثه، واستحضار أبطالهما متحديا بمخياله الزمان والمكان، تحديا جعله يربط الماضي بالحاضر كما في: “طارق بن زياد يخرق الحجر الصحي”، “في الحجر المنزلي شهرزاد تروي قصص ألف ليلة وليلة لشهريار”، “عنترة وعبلة في زمن كورونا”. مستحضرا تقنية التغريب البريختي التي تجمع بين مكونات متنافرة، إذ لا علاقة لطارق بن زياد ولا لشهريار وشهرزاد بالحجر الصحي، ولا علاقة لعنترة وعبلة بوباء كورونا إلا في مخيلة الكاتب. كما لجأ إلى إعادة صياغة إحداثيات المكان وترتيب أحداثه وخلق شخوصه بما يلائم رؤيته ومقصديته من الفن القصصي كما في “كوفديستان”، “امرؤ الفيس”، “الأحنف بن فيس” معتمدا على ما توفره اللغة من قدرة على الخلق والابداع.
إن ارتكاز القاص على العجائبي والغرائبي في مجموعته القصصية أمر بالغ الصعوبة، إذ من العسير أحيانا التقاط نفس ساخر منه، أو جعله موضوعا للسخرية، لكونه يثير دهشة القارئ ويستنفر عقله أكثر من رسم ضحكة ساخرة على محياه كما في حديثه عن زواج الأشباح في قصة “ألف هنية وهنية كورونا في العمارية”، وما يرافق ذلك من سرقة الجثث من المقابر. وقد حتمت هذه الصعوبة على القاص أحيانا إقفال النص القصصي بالأهازيج الشعبية والمسكوكات اللغوية، ليعود بذهن القارئ إلى درجة الصفر في القراءة، فيتغلف لديه العجيب بالساخر.
تبقى هذه بعض من التقنيات التي سخرها الكاتب قصد مواصلة المسير الذي بدأه خلال مجموعته القصصية الأولى: “مرآة تبحث عن هوية”، والمجموعة الثانية: “سفر إلى الجنة”، والإخلاص للنهج الذي اختاره في كتابة القصة القصيرة وهو الطابع الساخر، وليس هذا مجال استقرائها كاملة. لذلك أدعو القراء إلى اكتشاف المزيد منها، كما دعاني المبدع الحسين قيسامي مشكورا إلى ذلك، وأتاح لي فرصة الوقوف عند هذه المحطات.