قراءة في “ناده بما يشتهي، نادِه كما يشتهي..” للشاعر محمد بودويك – سعيدة الرغيوي

0
869

يزهر الكلام ويورق حينما نشُدُّ الرحال لأرض أميرية مخضبة بالشعر والنقد مع الشاعر والناقد الدكتور “محمد بودويك”، وهو الشاعر والناقد الذي تسكنه غواية الشعر، فجعلته يُتحفنا بكتابه النقدي الموسوم بـ: “ناده بما يشتهي، نادِه كما يشتهي..”  والذي سعى من خلاله إلى مقاربة تجارب شعرية لشعراء مغاربة معاصرين، إذ نفذ وغاص إلى أعمالهم، ويشتمل هذا الكتاب النقدي على توطئة ثم فصل نظري اجترح له عنوان: “مفاتيح البوابة الشَّمسية”، ويتفرع إلى ثلاث دراسات نقدية وهي كالآتي:

  • الأتوبيوغرافيا في الشعر/ الشعر الأتوبيوغرافي.
  • درجة الموت في الكتابة أو في معنى إزاحة تشيروب.
  • مدخل حذر وجائع إلى حساسية شعرية مستفزة وشهية.

في حين خصَّص الفصل الثاني التحليلي والمعنون بسنام اللغة، للإنفتاح على تجارب شعرية لمجموعة من الشعراء المغاربة المعاصرين أمثال: (محمد السرغيني، محمد بنيس، محمد الأشعري، المهدي أخريف، أحمد بلبداوي، أحمد بلحاج آيت وارهام، عبدة السلام المساوي وثريا ماجدولين).

في توطئة الكتاب النقدي المعنون بناده كما يشتهي ناده كما تشتهي والذي خصَّه كما أسلفنا الذكر لدراسات نقدية في الشعر المغربي المعاصر، يُلمع الكاتب إلى الأرب الذي توخَّاه من وراء كتابه إنما يكمن في استدراج وترغيب المتلقي إلى قراءة الشعر المغربي المعاصر، وهذا لا محالة يقتضي الاغتراف والنَّهل من مُختلف المشارب والينابيع الشعرية والثقافية كما ألمع إلى ذلك.

ويؤكد محمد بودويك على التواشج الوطيد بين الشعر والفلسفة، إذ لا نجسر البتة الفَصْم بينهما، إذ وجب الحديث عن الانصهار الكلي بينهما.

كما انْبرى الناقد لتعريف الشاعر ليجعله إيكاروس واقفاً عند دَيْدَنِه مثبثاً علاقة هذا الأخير بالسيرة ذاتية إنْ صحَّ التعبير.

ويُعْزي مسألة غموض وعُمق الشعر المغربي إلى هذا التعالق بين الشعري والفلسفي.

يقينا، إنَّ فلك هذا الكتاب يتمحور حول دراسات نقدية في الشعر المغربي المُعاصر من خلال أسماء شعرية وقف عنده الدكتور محمد بودويك، وهو يسحبنا بقوة إلى ضرورة الانخراط الواعي في مُنْجزها الشعري لتَبيُّن تجربتها.

فبانتقالنا إلى العتبة الموسومة بعنوان “الأتوبيوغرافيا في الشعر أو الشعر الأتوبيوغرافي”، نجد الناقد يطرح العديد من الأسئلة التي تصب جلها في مفهوم الأتوبيوغرافيا والبيوغرافيا، وعلاقة الشاعر بإيكاروس، إذ يحيل على إرتباط الأنا الغنائي بالأنا الشعري إلى درجة التماهي بينهما.

ويجزم أن مسألة الأتوبيوغرافيا في الشعر ما يزال يكتنفها بغض الغموض، في الوقت الذي حُسِمت هذه المسألة في السردانيات، بإعتبار أن “السيرة لون أدبي قائم الذات” (ص 16 من الكتاب).

بيد أنه ينتهي إلى إمكانية حضور المسار الحياتي في الشعر والقول بتجذر السيرة الذاتية للشعر، وهكذا يعلن أن النص الشعري ينكتب انطلاقاً من الذات.

وقد ساق لنا الناقد بعض الشعراء الذين كانت كتاباتهم تعكس البعد السيري أمثال: محمد بنطلحة في كتيب: “الجسر والهوية”، وما كتبه “نزار قباني” في كتابيه “الشعر قنديل أخضر” و”قصتي مع الشعر” وآخرون.. إلخ.

وهي كتابات تشي بالشعرية/ هي السيرة المشعْرنة والمنسردة كما وسمها وأومأ إليها الناقد “محمد بودويك”. وبناء على ذلك فالمدونة الشعرية المغربية المتمثلة في الشعر المغربي المعاصر مَيْسمُها أنها تصْطبغ بالسيرة الذاتية، فتنبثق أشعاراً مُعبِّرةً عن حيوات أصحابها، عن هَوسِهم بأفضية معينة. فيحضر ماهو طبيعي، اجتماعي.. هي الأقانيم تتعالق فتعزف أشْعاراً مهدها الذات متوسلة اللغة، هو الشعر ينكتب سيرة تتلون بلون كيمياءات هؤلاء الشعراء الذين أشار إليهم الناقد محمد السرغيني، المهدي أخريف، محمد الميموني.. ويؤكد أن للشاعرات المغربيات حظهن من هذا الحضور، إذْ أضفين على شعرهِنَّ/ أشعارهن البعد السِّيَري، هن بدورهن يرتشفن من نفس النبع.

إنَّ مدماك الشعر عكس الحياتي الواقعي واستعان بالغة، فأزهر أشعاراً قِوامُها الأتوبيوغرافيا حسب بودويك إذ يقول في الصفحة 27 من الكتاب: “إن التفكير في نقل التجربة الحياتية إلى اللغة يحدث -منذ المنطلق- مسافة زمنية وجمالية بينهما..).

أما العتبة الثانية المعنونة بـ: “درجة الموت في الكتابة أو في معنى إزاحة تشيروب” (ص. 29)، فيثير الكاتب علاقة الشعر بالذاكرة وينبش في أرضية ومنبع الخلق والإبداع وجذور الكتابة وقلقلها وتوترها، هي أسئلة كثيرة تحضر، ترتسم، تلوح في أفق الناقد ويأبى إلا أن يُشاركنا معه فيها.

إن الشعر هدم وتشييد ونسيان واسترجاع، الشعر حسب قوله في ص 31: “الشعر الذي لا يُوهم بالبدء الدَّائم، والانكتاب المتواصل في الصمت، والعزلة والذاكرة المتوهجة المنقلبة على الذاكرة المسطحة والاعتيادية، شعر لا يُعَوّلُ عليه”.

كما يعتبر المحو هو محور وأسّ الإبداع، إذ يُفْضي المحو إلى ولادة جديدة وانبثاق راق.

وتبعاً لذلك فطقوس الكتابة تنفتح على شروط كثيرة منها حسب محمد بودويك: العزلة والنسيان، هي فسيفساء خاصة يَرْتهن إليها الكاتب لِيُبْدع ويُثْمر أزاهير بهية.

فالشاعر، الكاتب يدخل محراب الصَّمت والنسيان ليتضوع البياض بالجميل والجمال وبالقطوف الراقية.

يقول محمد بودويك في الصفحة 32:

“اقتراف النسيان في الكتابة، تحقيقه في المنجز النصي لا يتأتَّى إلاَّ بدُخُول مشيمة العزلة منشرحا..”.

ويقول في الصفحة ذاتها: (للنسيان فاعلية في وجود ثقافة حديثة، أساسها التحرر من استبداد الذاكرة..).

وبهذا يتأكد لنا بأن النسيان والمحو هو بوصلة مفضية إلى روح الإبداع والخلق، وعصب لا محيد عنه للكتابة الإبداعية عموماً.

والكتابة الشعرية بهذا هي انفلات، تمرد، احتفاء بالنسيان. ويكون النسيان ملازما للإبداع كما قال نيتشه. إذ هو خاصية كل فعل، فإنسان الفعل..

يؤكد “محمد بودويك” أن المدونة الشعرية المغربية تتغدى من النسيان فتكتمل وتتجمل فينبثق الوجود الشعري.

ونحن نتجول في الحدائق الغنَّاء لهذا الكتاب تستوقفنا وتُنادينا اشتهاء العتبة الثالثة التي اجترح لها بودويك عنوان: “مدخل حذر وجائع إلى حساسية شعرية مستفزة وشهية”، وفيها يقر بأن النص الشعري، هو نص مشاغب يحتاج إلى مُناوشته، وتفتيته، إلى البحث والتنقيب عن الخبايا الثاوية فيه، عن مجاهله ومغالقه.. فالمتن الشعري الحداثي يتغلغل في أوجاع الذات ويعيش في كنف خلق الدَّهشة، كما يرتكز ويتمأسس على المخيال الشاسع اللامحدود، ويغترف من استبدالات اللغة، هي الغرابة والسفر في الدهشة البصمة المائزة لهذا الشعر، خلخلة شعرية وتقويض للغة من أجل نصوص شعرية ماتعة وهذه هي الحساسية الشعرية، وهكذا تنكتب قصيدة النثر المنفلثة الزئبقية التي تشتغل وتقوم حسب بودويك على التناص (المناصصة).

وفي ظل هذه الحساسية الشعرية الجديدة ينقلنا الناقد إلى تجربة شعرية مغربية والتي قال عنها: “أنها كشطت الصَّدأ وشفطت الذهون وأسماها بالغارة الشعرية، وهم فئة من الشعراء أسسوا متنهم الشعري على الهدم والفوضى الطفولية، وارتكزوا في أنساقهم الشعرية على الرسوم والأيقونات والخطوط وهذا ما ورد في الصفحة 46 من الكتاب. أمثال: ياسين عدنان وطه عدنان وسعيد سرحان في مطولته العذبة: “شكرا لأربعاء قديم، يقول هذا الأخير:

شكراً لحذائي

(ذاك الذي من كتان

أزرق)

يا للرعونة..

كلما انتعلته

جرى بي مُسرعاً

عشرين عاماً إلى الوراء.

شعراء الغارة كما أسماهم اشتغلوا على نُطف لغوية جديدة.

وقد حصر هؤلاء في مجاميع شعرية أومأ إليها في ص 50 إلى 57.

وبتأمل هذه الأشعار يتضح أن تيمتها الأساس مبللة بطعم الألم والخسارات، إذ تلتقي في هذه التيمة وتتوحد، الشعر يولد من الألم، من القلق، هو مخاض عسير، يتبلور كما فكرة عنيدة مُكابرة.

شعرية تتناسل من قلب التداعي والنِّسيان.

لاغرو إذن، من كون الناقد يتجول بنا في عرصات تجارب شعرية جديدة عصبها الاستفزاز، هي شعرية المعنى المنفلت الهارب، وهذا ما نستشفه من ص 58-59.

استنتاج:

وإذا كان الفصل النظري قد تطرق فيه الناقد “محمد بودويك” إلى مفهوم الشعر وتعالق الشعري بالفلسفي والوقوف عند الحساسية الشعرية انطلاقاً من بعض المجاميع الشعرية لشعراء مغاربة معاصرين، فإن الفصل الثاني التحليلي والموسوم بـــ: سنام اللغة (في ضيافة الشعر والشعراء المغاربة).

يُستهل بعتبة موسومة بـ: “شعر يؤبد زمن قيامته، هاته العتبة التي يستضيفنا من خلالها الشاعر “محمد السرغيني”، هذا الأخير الذي يتداخل عنده الشعر بالفكر فيتأتى معتقا رفيع السَّبْك، إذ هو الشاعر الذي لا يني عن الارتواء والإرواء، فهو يرتوي من المنابيع الفكرية ومن الموروث والعجيب الإنساني، فنرتوي معه ونتغلغل في أشعاره الموغِلة في العُمق الفلسفي وفي المعرفة البشرية (ص64) .

محمد السرغيني حسب “محمد بودويك” عمران وبناء لغوي متفرد ومائز، من العُسْر أن تتشنف وتتذوق أشعاره وأنت في عُجالة من أمرك أو على مضض، فلكي تستقرأ أشعاره وتنفتح عليها ينبغي أن تكون مدججا بأسلحة عدة -القصد- أن تكون موسوعيا، ملمّا بمختَلف المشارف والروافد (العلم ، المعرفة، الشعر، التشكيل..).

استنتاج: هو فتح شعري وصرح يصعب اختراق قلاعه الشعرية، جاء على لسان محمد بودويك في ص 68 -بعد الحذف طبعا-.. في تجربة السرغيني الجميلة والجليلة، يحضر التعبير مفكرا، والفكر مفكرا ومشَعْرناً، ومحافل السرود المختلفة، وتحضر بشكل لافت ومقصود – السخرية ..(ص 69).

يخلص الناقد “محمد بودويك” إلى أن الشاعر “محمد السرغيني” صرح شعري باذخ، قائم الذات إذ يقول في ص 72: “أقام صرحه الشعري على نقطتين أساسيتين، فيما يقول، وفيها تؤكد القراءة والمقاربة لمتنه الشعري الباذخ، وهما: “عقلنة الشعر وَوَجْدنة الفلسفة..”.

ومن الشاعر المتمكن من إواليات الإشتغال، العارف بدروب الشعر ومتاهاته، إلى رحلة الشعر سائلاً أو مسؤولاً أو ما اصطلح عليه الناقد “رحلة الجدارة الشعرية في ضيافة محمد بنيس”.

هذا الشاعر المجدد الذي ركَّز على الصَّدوية والانعكاسية الشعرية، وهذا ما يتبدى من خلال ص 75 من الكتاب، هو الشاعر صاحب الفتوحات التحديثية في الشعر المغربي، إلى جانب ثلة من الشعراء: “السرغيني، ..فكر البنيسي أعاد الاعتبار للأنا الغنائي.. هو كما عنه محمد بودويك في ص 77: ((ومن ثم لا مجال للتردد في القول بأن محمد بنيس صوت شعري وثقافي أساس في المشهد الثقافي المغربي والعربي.. إلخ، إذ يُلمع إلى أن هذا الأخير عمل على إرساء بناء القصيدة، فارتقى بها إلى أوج الشعرية.

وإن كانت تجربته الشعرية قد وسمت بالإنغلاق فيعزي ذلك الناقد إلى وجود عطب إبستمولوجي، تاريخي وشعري في تلقي وقراءة شعره، وأيضا في تكريس المناهج التعليمية والتربوية للشعر التقليدي وتغييبها لكل جديد.

كما يعتبر انفتاح محمد بنيس على العديد من الشعريات: أوربية، عربية.

 

 

 

 

 

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here