الصورة الثانية :
“حين تتساقط وريقات شجرة الخوخ”
لم يكن بإمكان دائرة ضوئك لحنينة أمي، أن يسطع نورها، فجرح الهجر، وألم الفراق، وصخب القلق، يملأ داخلك، يتوشج نجما جديدا، سيكون أقوى….
وريقات شجرة الخوخ، تذبل، تساقط تباعا بتوالي سنوات عجاف، ما كنت تتوقعين حلم يوسف يأبى تفسير حلمك في سجنه.
ربيع عام 1972 لم يكن مزهرا كما تعودت، وعهدت به ، حتى شقائق النعمان، التي تغازل حنوك ورقة ابتسامتك ، وأنت تمخضين حليب البقرة الصفراء الناصع لونها ، يتحول لبنا تعلوه زبدة حلوة المذاق( بنينة )، يدهن بها الرغيف لزوار سيد الرياض من شركائه في الفلاحة، وخلانه الفقهاء حفظة القرآن الكريم….
صباح اليوم الربيعي الدائري ، الكئيب بصمته يسلم الفقيه السي البشير السباعي الروح لبارئها… يتعالى نحيب أخواتي البنات، الجارات يهرعن متوجسات الرياض، يشيع الخبر بين الأهل والأحباب والأقارب.. سكان الحي يتوافدون على الرياض لتقديم العزاء .. لم يكن بوسعي أن أحضر حصص الدراسة لمدة ثلاثة أيام، نكست أوراق دفاتري، اكتفيت بركنها في مكان أمين يحفظها من التلف والضياع لكثرة المقدمين للعزاء ( الغاشي حسب تعبيرك لحنينة أمي ) . طابور موكب جنازة الفقيه السي البشير السباعي رحمة الله عليه ملأ الشارع الفاصل بين الحي ومقبرة باب أغمات، موكب جنائزي مهيب..
لم يكن بوسعك صباح ذات يوم بعد انتهاء فترة العدة ، إلا أن تباغتيني أنا وبقية إخواني وأخواتي ذكورا وإناثا بفتح الصندوق الخشبي المحاط بكل دقة وعناية ، نطلع على مستنداته ومحتوياته، وأوراقه، ورسوم الأراضي الفلاحية، والدكاكين التجارية التي كانت مخبأة بإحكام وبحكمة العقلاء وسط قصب مقعر، يحميها من هجوم الأرضة.. كناش ملكية الرياض المدون باللغة الفرنسية لم أفك حروفه إلا بمشقة التلميذ الكسول في اللغة الإفرنجية، لحداثة عهدي بدراستها والتمرس على فهم مضامينها وأنا في مرحلة الدراسة بالسلك الإعدادي…
أخي الأكبر سنا السي محمد، رحمة الله عليه، وأجدد دعواتي له بالرحمة والمغفرة، والذي اعتدنا جميعا على المناداة عليه ب ” خويا ” احتراما ووقارا منا له؛ كان مستقرا بمنطقة صحراوية نائية بحكم امتهانه التدريس، حيث يشغل مدرسا بالتعليم الابتدائي بمنطقة زاكورة، والضبط ببلدة تاكنيت، مستقرا هناك .. كان خفيف الظل، صاحب نكتة وبهجة دائمة، لا تفارقه الابتسامة كما أنت أمي ، إلا أن التزاماته الأسرية والمهنية، أجبرتني وباتفاق جميع أفراد العائلة على تحمل مسؤولية تتبع شراكات ومعاملات سيد الرياض الفلاحية والتجارية “دكان البقالة”.
أخي السي حسن الأخ الأكبر مني سنا ومن ثلاث أخوات تكبرنني سنا، لم تسعفه صحته العقلية تحمل مسؤولية تدبير شؤون الأسرة.
لم يكن لدي خيار سوى أن أتجند للوقوف بجانبك لحنينة أمي، وأنت تواجهين المعترك اليومي للحياة بعلاقاته وسلوكاته الغريبة عنك، بسبب الاحتجاب الذي تعايشت معه مذ كنت حريم السي البشير السباعي …
لم تكن الأمور سهلة بالنسبة لك أمي ولي، لولوج عالم الفلاحة والشراكات والمعاملات مع أهل البدو وعفويتهم وببساطة عيشهم من جهة، ونباهة حيلهم ومكرهم في تدبير شراكاتهم مع أهل الحضر، ومعاملاتهم في مجال الزرع والحرث وتربية المواشي وتعليفها وتسويقها في الأسواق القروية …
وذاك عالم عجائبي غرائبي لا يمكن ولوجه دون التسلح بتقنيات الحيل والمكر والخديعة.. حصل ذات يوم أن أخبرنا شريك لأبي في بعض العجول أنه قد حان بيع واحد منها، وعلينا أن نلتقي أنا وأنت لحنينة أمي وإياه بسوق إثنين الأوداية الأسبوعي بضواحي الحمراء صباح يوم الإثنين، ولحسن الحظ كانت عطلة فصل الربيع.. كبرت فرحتك أمي كوني سأرافقك في أولى مغامراتك خارج أسوار الرياض، ووسط عالم الحيل والمكر والخديعة.. لم نكن ندرك أن سوق البهائم يفتح أبوابه “على النبوري” أو كما يطلق عليه بين البياعة والشراية والشناقة والبرغازة بالغبوشية أي قبل انبلاج فجر الصباح.. صاحبنا الشريك عمر الحوزي، يعلم جيد العلم أننا لن نتمكن من حضور السوق وعملية بيع العجل في “الغبوشية”، مما ساعده على بيع العجل دون حضورنا، وعدم التأكد من الثمن الحقيقي للعجل.. وصلنا نحن الاثنين متأخرين، بحثت عنه وسط زحام سوق البهائم، وسألت عنه، فأخبرت بتواجد صاحبنا داخل خيمة مقهى شاي.. ناولنا كأسا من الشاي وبعض كسرات من الخبز الحافي (الحرفي).. بعد الانتهاء من فطور اليوم الأول من تجربتك الأولى أمي لحنينة سلمك نصيبك من ثمن بيع العجل، والذي لم يستقر في جيبك ولو بضع دقائق حتى أصابتك دهشة ضياعه منك، أو سرقته، أو أن شيئا في الأمر لم أفك لغزه لحد الساعة وكأنه لعب لعبة “السماوي”. ما كان بودنا إلا أن سلمنا أمرنا لله، ورجعنا الهوينى إلى الرياض بخفي حنين …