الهشاشة النفسية وأثرها في المجتمع – د. نورالدين الوكيل

0
214

ينفرد الإنسان دون سائر الكائنات بكثافة تفاعلاته مع بعضه البعض في شتى مناحي الحياة، في رحلة عمرية تتجدد فيها العلاقات وتنفصم فيها روابط وتتشكل أخرى. يحدث كل هذا في مناخ يتميز به بنو البشر، يضم المنزل والمدرسة والجامعة ثم العمل. ويترتب على هذه التفاعلات مواقف يؤثر فيها المرء بشدة في الآخرين (سلبا وإيجابا)، ويتأثر هو بالآخرين على نفس المنوال، في محطات نفسية تتراوح فيها معنويات الفرد بين هبوط وصعود وآلام ودموع وأفراح وأتراح. ونظرا لكثافة تفاعلات البشر فيما بينهم، فإن جهاز الاستقبال لدى الإنسان وترجمته لتصرفات الآخرين يشكل عصبا حيويا يحدد ملامح الشخصية ويغزوها بتحديات (أو يمددها بآليات)، تموج فيها الشخصية بين السلب الهدام والإيجاب البناء.
وفي معرض الحديث عن جهاز الاستقبال هذا لدى البشر، يفرض موضوع الهشاشة النفسية (وهو لب المقال) ذاته للحديث عن مشكلة كبيرة يغفل الكثير منا عن وجودها في شخصيته وتأثيرها الشديد على علاقته مع الآخرين، وما يترتب على ذلك من آثار نفسية وعضوية قد يعاني الإنسان منها لسنوات طوال وهو لا يدري شيئا عن عمق الرابط بينهما. وما أقصده بالهشاشة النفسية هنا هو دوام ترجمة أفعال وأقوال وسلوكيات الآخرين على محمل سلبي يتصور فيها المرء قصد الضرر به والتآمر عليه والنيل منه، سواء وجد أو لم يوجد في أفعال الآخرين ما يبرر هذا التأويل.
وبتكرار هذا المنوال السلبي لدى أصحاب الهشاشة النفسية، تتهدم روابط وأواصر ويدخل صاحبها في دائرة مغلقة من فقدان الثقة بالنفس وفي الآخرين، يترتب عليها آثار شديدة السلبية وجسيمة التبعات. وأزعم أن أصحاب الهشاشة النفسية -طبقا للتعريف السابق- قد ساعدتهم بيئة النشأة على اكتساب استعداد خاص لاستقبال الطاقة السلبية بما يشبه الزوائد المغناطيسية التي تلتقط تصرفات الآخرين وتلقي بها داخل النفس تعمل فيها بالهدر والإحباط. ونظرا لأن التفاعل مع الآخرين بدٌّ لازم لاستمرار الحياة والتمتع بها، فلا بد للمرء أن يتحلى بالإيجابيات المطلوبة لدرء الأفكار السيئة وسد القنوات التي تولدها الهشاشة النفسية، حتى تتناهى الأخيرة إلى مجرد نقطة في قاع النفس، يسهل التحكم فيها وطرد ما تأتي به من سلبيات.
وفي الحقيقة فإن الآثار مليئة بالحكم الزاخرة التي إن تمسك بها الفرد زودته بطاقة إيجابية هائلة يستطيع معها التغلب على تلك الهشاشة. إقرأ معي قوله تعالى:” إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا” – الحجرات 6، “إن بعض الظن إثم” – الحجرات 12، و”إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” – فصلت 34. الروعة في تلك الآية الأخيرة تتمثل في إقرار وجود العداوة بين فردين، أحدهما عداوته صريحة تملكته، بينما الآخر يدفعها بالحسنى، وهي درجة تجعل من المشكلة التي حلها هذا الدافع بالحسنى أعظم وأصعب وأوضح من حال الآخر الذي قد يخطئ قراءة الموقف لهشاشة نفسيته هو.
وقديما قالوا إن تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل، وهذه المهارة تنم عن الحكمة والقوة والسعة في شخصية من يملكها. ولخطورة موضوع الهشاشة النفسية هذا، حريٌ بكل فرد أن يطرح على نفسه هذه الأسئلة وأن يجيب عنها بصدق مجرد، وقد يساعده أن يستشير من يستأنس بحكمته في هذا: هل أنا ممن يتصيدون أخطاء الآخرين؟ ما مدى استيعابي لأخطاء الآخرين، وإن ثبتت؟ هل لدي القدرة على قبول الآخر بما فيه من عيوب؟ هل أنا واثقٌ من نفسي فيما يتعلق بحكم الآخرين عليّ؟ هل أقوم بتحليل أفعال الآخرين حتى بعد انتهاء المواقف؟ هذه الأسئلة ومثيلاتها يمكن أن تجيب بوضوح عن وجود الهشاشة النفسية لدى الإنسان.
أما علاج الهشاشة النفسية والتغلب عليها فهو سهل يسير، ولكنه يحتاج إلى إرادة ورغبة. ويتمثل العلاج في استحضار جانبين رئيسين في معادلات التفاعل مع الآخرين: أولهما الآثار النفسية والجسدية التي يعانيها صاحب المشكلة، والأخرى مدى السعادة التي تعود على الفرد حين يسمو (بتصدقه) على أخطاء الآخرين ورأب صدع العلاقات. وهناك أَمر آخر قد يساعد في التغلب على الهشاشة النفسية وما يعقبها من آثار، ألا وهو مبدأ المواجهة الإيجابية بالحديث عما يؤلم الشخص مع صاحب الأمر. هذه المواجهة (حين تخلص النوايا) يمكنها تصحيح الكثير من الأمور التي فسرتها الهشاشة النفسية أو تَلقِّي اعتذار من صاحب الخطأ. فهلا ساعدنا أنفسنا بعدم استهلاكها بتلك الهشاشة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here