قراءة في ديوان همسات في حنايا الروح للشاعر حسين دراز – مولاي الحسن بنسيدي علي

0
1405

اخترت من حديقة هذا الديوان؛ القصيدة الأولى وهي عبارة عن وردة جميلة، قطفتها برفق ونثرت وريقاتها على الحضور الكريم؛ ليفوح أريج عطرها أدبا وتحليلا، أرجو من الله أن ترقى إلى ذائقتكم، فصغت هذه الورقة النقدية وعنونتها بـــــ:

قراءة عاشقة في مضامين قصيدة همسات في حنايا الروح، للشاعر حسين دراز من ديوانه الذي يحمل العنوان نفسه.

لا أكتب تقديما، ولا أرسم حروفا نقدية، أو مطلعا لمداخلة أدبي ، إلا إذا تاقت نفسي لحنين الكلمات، التي تنساب كنسمة لطيفة تداعب شعوري وفكري فتحرك في شجون الكتابة، وهذا ما وجدته في ديوان همسات في حنايا الروح، تصفحته  فشدني إليه بما يزخر به من قوة اللفظ، وروعة المعنى ومتانة المبنى من أول قصيدة بالديوان إلى آخره، فجلت في بستانه، وخضبت قدمي من حياضه العذبة المغرية، ونهلت من ينابعها الفياضة المتدفقة.
كان سفري مع الشاعر حسين دراز في قصيدته همسات في حنايا الروح ممتعا وأحيانا متعبا، وقد سلكنا معه دروب الغربة بأنوائها وما يكتنفها من الشوق والألم؛ وما تحمله من عناء وأمل، فوقفت على بديع البيان في قوله :
لما دَنا بالباب قرع خطوكم
توهج النبض مني واكتوى نارا
هذا البيت الذي جسد أكثر من معنى، وأبان عن إحساس الشاعر المرهف وإن كان يحمل بين ثناياه سخطا وتذمرا؛ فيأتي البيت الآخر مفعما بالأنين الصاخب المجلجل، قائلا فيه:
وددت لو أنما الأحباب ما رحلوا
ما علقوني على الأحداق تذكارا

إن المتأمل في معنى هذا البيت والغائص في قراره، ليجده صيحة مفعمة بالألم، قد يكون للغربة عن الوطن والابتعاد عن الأهل والشوق إلى الأصحاب والأماكن أثره، وقد يشكل في داخله وقعا  صادما للشاعر ومزلزلا لنفسيته أي غربة الذات، وما أقسى وأشق أن يكون المرء غريبا في ذاته.
وقد يلتقي في تناصه مع قول ما نظمه الشاعر السيد نور الدين علي بن أبي الحسن الحسيني الشامي :
يا من مضوا بفؤادي عندما رحلوا

من بعد ما في سويد القلب قد نزلوا
جاروا على مهجتي ظلماً بلا سبب

فليت شعري إلى من في الهوى عذلوا
وأطلقوا عبرتي من بعد بعدهم

والعين أجفانها بالسهد قد كحلوا
يا ما تعذب من تسويفهم كبدي

ما آن يوماً لقطع الحبل أن تصلوا
جادوا على غيرنا بالوصل متصلاً

وفي الزمان علينا مرة بخلو

والشاعر أو الكاتب الفطن هو من يشرك القرّاء معه في أفراحه وأتراحه، ويحمله بعضا من معاناته و يجعله مجبرا على إعادة القراءة لنصه مرة ومرات وقد يجد فيها متعته وحنينا للشجن، فيقول مع الشاعر :
هدهدته حلما بين الضلوع هفا
وأسمعته ألمي نظما وأشعارا
وحين تشتد الخطوب وتستعصي الظروف وتستحكم حلقاتها عليه يرتدي عباءة المتصوف الزاهد فيطرق باب الله الذي لا يرد سائله مستمسكا بأهداب الأمل وبحسن الظن بالله، فيبوح بذنبه ملتمسا عفوه راجيا أن يؤمنه مستقره، ويتجلى ذلك في قوله:
تدنو يداي من الأوهام تنسجها
بيت العناكب ما يلبث لينهارا

تؤوي ضفاف القلوب ثم تهجرها
عطشى المراكب صاغت وجهتي عارا

ولا يكتفي بالبوح عما يعتريه من ضيق وما يحمله من ألم ووجع، فقد تكون همساته مدوية نابعة من حنايا الروح، فيقول :
ترنو إليك عيون العبد في ثقة
رجاء عفوك ربي هدت أوزارا

ويوحي هذا البيت للقارئ أن الشاعر نهل من معين الأدب العربي ومن اللغة العربية؛ إذ في هذا البيت الشعري يجسد بالتقارب التناصي قول الشاعر العربي :
طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا
وَبِتُّ أشكوا إلى مولاي مـا أجـدُ
وقُلتُ يا أمَلـي فـي كـلِّ نائبـة
ومَن عليه لكشف الضُّـرِّ أعتمـد
أشكو إليك أمـوراً أنـت تعلمهـا
ما لي على حملها صبرٌ ولا جلـدُ
وقد مدَدْتُ يـدِي بالـذُّلِّ مبتهـلاً
إليك يا خير من مُـدَّتْ أليـه يـدُ
فـلا ترُدَّنهـا يـا ربِّ خائـبـةً
فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَـرِد
اختار الشاعر أسلوبا سهلا جميلا، مما جعل بناء القصيدة سلسا خاليا من الصناعة والتكلف؛ وإن كان هذا الأمر محمودا عند بعض الباحثين والنقاد، مما دفع به إلى ركوب أكثر من بحر شعري، فمن بحر البسيط نقرأ ما يلي:

في السطر الأول: لما دَنا بالباب قرع خطوكم  مستفعلن فعلن متفعلن فعلن
الشطر الثاني : توهج النبض مني واكتوى نارا ؛ وهي من البحر البسيط متفعلن فاعلن مستفعلن فعلن، مع توظيف زحاف  الخبن الذي يعرفه العروضيون بحذف الثاني الساكن في كل من التفعيلتين مستفعلن وفاعلن، وأن الزحاف قد يجمل الشعر أحيانا باعتباره من الظواهر العروضية التي لا يستغني عنها الشعراء سواء في الشعر القديم أو في الشعر الحديث.

السطر الثالث: وددت لو أنما الأحباب ما رحلوا: البسيط.
السطر الرابع: ما علقوني على الأحداق تذكارا مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن وهي من البحر البسيط.

وبخصوص البناء الفني في القصيدة وأنا أبحث فيه عنت لي مجموعة من الملاحظات، اعتمدها الشاعر بناء فنيا نذكر منها:
“التوازي التركيبي”: والذي يعني تكرار نفس العناصر التركيبية النحوية كما نجد ما بين السطرين الثالث والخامس من هذه القصيدة، أو بين السطرين الرابع والسابع منها: (وددت لو أنما الأحباب ما رحلوا ) (وددت لو أن الهموم ما هجمت).
“الترادف”: ويعني تكرار المعنى بلفظ مختلف مثل النوى، والبعد، والرحيل، والهجر.. وهذا الاستعمال يضفي جمالية دلالية على القصيدة.

وفي مجال البناء اللغوي استعمل الشاعر المحسنات اللفظية اللغوية والبلاغية: الجناس، والطباق، والاستعارة، والكناية، ونسوق بعضها على سبيل المثال لا الحصر؛ فنجد في المجاز قوله :
دَنا بالباب قرع خطوكم، وكذلك أهدي إليك يد الصريخ، وأيضاً عقود الردى .
وفي الاستعارة نجد :
توهج النبض، ثم اكتوى نارا، وعلقوني تذكارا، فُض دمع النوى، وعشقته قمرا، تؤوي ضفاف القلوب، فيعزف لي قدري تذكارا، عطشى المراكب.. – والمقام لا يسع لتناول هذا البناء برمته لتفصيله كلمة كلمة، وأترك للقارئ مجالا لاكتشافه والوقوف عليه -، مما جعل قصيدة همسات في حنايا الروح تتربع على عرش الديوان، وتتوجه بذاك العنوان الذي جمع بين النسق الشعري والجرس الموسيقي.
وأنهي كلمتي العاشقة بدعوة محبي القراءة والمهتمين بالشعر أن يتذوقوا شهد  هذا الديوان؛ وأن يبحروا مع الشاعر على مركب الإبداع الممتع والماتع، ولله در الشاعر أحمد مطر حين قال :
زَمانُ الشِّعرِ لا يَجتازُهُ زَمَنُ
وَسِرُّ الشِّعرِ ليسَ يُحيطُهُ سِرُّ
فَرُبَّ عِبارَة عَبَرَتْ
وضاق بِحَمْلِها سفْر
وَرُبَّ هُنيْهَةٍ هانَتْ
وفي أحشائها دَهْر
لَدَى خَلْقِ القَصيدَة تُخلَقُ الدُنيا
وفي نَشْر القَصيدَة يَبدأُ النَّشْرُ!
نكتفي بما أسلفنا على أننا سنضمن بالكتاب النقدي الذي نعده تحت عنوان قراءة عاشقة في قصائد مختارة دراسة تحليلية أعمق وأدق لديوان همسات في حنايا الروح للشاعر الحسين دراز، مع نبذة عن سيرته الذاتية.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here