مع ابن خلدون في رؤيتِه وتقييمِه لأركان الأدب! :
منذ زمانٍ و قد وقفتُ من تقييم ابن خلدون لأركان الأدب موقفَ الطالب الحائر من أستاذِه، يؤمن بصدق ما يقوله، و لكن لا يرتقي فهمه إلى إدراك مغزاه.
أما ابن خلدون فهو ذلك العالم الموسوعي، والمؤرخ العمراني الأديب، وصاحب المدرسة الخلدونيّة الأدبية.
وأما الأركان الأربعة فهي غنيةٌ عن التعريف، ومعروفة بين أهلها.
وهي – لمن لا يعرفها- : أدب الكاتب للدينوري، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، والنوادر لأبي علي قالي.
وقد اطلعتُ عليها في مكتبة دارالعلوم العلمية، راجعتُها أيام أتى القلب هوى اللغة العربية فشغفته حبّا.
وكنتُ غضًّا ناشئا – وما زلتُ- لم أعِ منها شيئا، ولكني أبيتُ أن أتخلّى عنها ما لم أجد عليها سبيلا.
كان كلّ ظنّي في هذه الأركان الأربعة أنها لا بدّ تكون بمثابة “الكتاب الأساسي في الأدب”، أو أشبه شيء ب”دليل الأدب” الذي يحتوى على وصف الأديب والأدب، والفصاحة والبلاغة وحدودها وتعاريفها، شروطها وأركانها ومقوماتها، وطريقة تحصيلها، تمامًا كما عهِدناها مع المناهج الأساسية لِفنون النحو والصرف والبلاغة.
نبدأ الدرس فيها بالحدّ التامّ غير الناقص للعلم، ونُثنّيه بقيوده الاحترازية وجودا وسلبًا، ونُثلّث بأركانِه، ثم نعرّج على شروطه، وأركانِه، إلى أن ينتهي الكتاب، والكل يخرج بقدر نصيبِه ووِعائِه.
هكذا كان ظنّي في هذه الأركان الأدبية العملاقة، زعمًا مني أن هذه الأمور هي التي تصنع الأديب، وتخرّج اللغوي، وتكوّن الكاتب.
وعندما تقدّمت في المشوار الدراسي، وأصبحت أعي غيضا من فيضها، وجدتُها لا تذكر بين دفّتيها شيئًا من هذه الأمور.
إنّما هي أخبار العرب وأيامهم، أمثالهم ومحاوراتهم، قصصهم وطرائفهم، عِبرهم وفوائدهم ، وأحاديثهم على موائدهم وأسمارهم و أباطيلهم في أنديتهم و مجالسهم. سواء في ذلك النثر و الشعر.
فلا هي تصِف الأدب والأديب، ولا هي ترسم حدود الفصاحة والبلاغة..!
طبعًا، إذا استثنينا ما ذكرَها ابن قتيبةَ في “أدب الكاتب” فصولًا من صناعة الكتابة والإملاء، وإلا ما جاءت مِن وصايا لِلكُتّاب والأدباء عند الجاحظ في غضون “البيان”، وعند المبرّد في تضاعيف “الكامل” نُتَفًا شذَرَ مذَرَ.
فكيف أصبحتْ إذن أركانا للأدب، وهي لا تعرّف بالأدب وشروطه ومواصفاته.؟ وكيف عُدّت من أمّهاته وهي لا ترسم لنا المعالمَ الأدبية الفنّية ؟.
وقفتُ -بکلّ علّاتي- موقفَ الحائر –بله الشاكّ- من تقییم ابن خلدون العظيم، بكل عظمته وعليائه، في محراب الأدب والتاريخ والعمران وما إليه..!.
ولکن دعوني أخبّركم أنّي علمتُ أخيرا سّر ذلك، وجزى الله تعالى أستاذا كان سببا في استلهامي هذا السرّ من بعض محاضراته.
ولم يكن مجرّد سرٍّ بالنسبة لي، بل كان بابا من العلم تعلّمته، ورسالة قوية للناشئة المتأدبين من أمثالي استفدتها.
والسرُّ -إذا صحّ اعتباره سرًّا- أنَّ كلَّ ركنٍ من أركان الأدب الأربعة يرمُز أساسا إلى “القراءة”.
لأنَّ الأديب لا يصنعه إلا القراءة، والكاتب لا يصنعه إلا القراءة !
ولأنّ “القراءة” هي الشرط قبل الشروط، وهي ركنُ الأركان.
ولكن ماذا يَقرأ ليُصبح أديبًا أو ليصير كاتبا..؟. هنا جاء ابن خلدون ليجيب عن هذا السؤال و لكأنّي به وهو يقول:
“اقرأ واقرأ واقرأ واقرأ، وابدأ قراءتك من هذه الأركان الأربعة التي تحوي دفاتر العرب.
اقرأ أخبارَ العرب وأحاديثَهم. اقرأ نثرَهم وشعرهم. فالقراءة الدائبة فيها هي التي تفتق القريحة الكتابية، والقراءة الدائمة هي التي تفجّر الملكة الأدبية”.
حينَها علِمتُ أن الأركان الأربعة للأدب العربي ليست إلا منهجًا مقرّرا من المقروءات النثرية والشعرية لتقرأها عن آخرها، وتكوّن بها أساسك اللغوي والأدبي.
وليست هي الغاية.
وحينَها أدركتُ أن كلّ ركنٍ من أركان الأدب الأربعة يرمُز أساسا إلى القراءة.
وحينَها فهمتُ جُمّاع كلام ابن خلدون، وهو أن أركان الأدب في الحقيقة هي:
” القراءة، والقراءة، والقراءة والقراءة”.
وليست هذه الأسماء الأربعة بالتحديد.
فإنها “فاتحة” قبل “القراءة” وليست القراءة كلها..!
https://t.me/abdirvi/54?single