الواقعية والعاطفة :
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على جانب كبير من الحماس، والعاطفة الجياشة، والحب العميق للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ بهم الحب مبلغا عجز التاريخ عن وصفه، وكانوا لا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الدليل، ولا يحكمون العقل في كل ما يقوله صلى الله عليه وسلم، بل يستسلمون ويقبلون بلا أي مناقشة وبحث، والأدلة على هذه العاطفة القوية والحب العميق أكثر من أن تحصى، وكتب السيرة النبوية مشحونة بها. وقد دفعتهم هذه العاطفة والحب أن يصنعوا العجائب، ويمثلوا روائع التضحية والفداء.
وكانوا علاوة على ذلك واقعيين لا يمشون على الهواء، ولا يتلمسون الخوارق، ولا يعيشون في عالم الخيال، ولا يركنون إلى الحدس والتخمين، بل يعيشون مع الواقع ويتفاعلون مع قضاياهم شأن الرجال العاديين، الذين يعالجون قضاياهم دون أن ينتظروا الخوارق.
ويمكن القول بأن الصحابة رضي الله عنهم قد جمعوا بين العاطفة والواقعية، لأنه لولا العاطفة لما جاؤوا بالأعاجيب في التضحية والفداء، ولما سطروا أروع أنواع البطولات في التاريخ البشري.
ولكن نرى في العصر الحديث من يهمل جانب العاطفة متعللا أن الإنسان ينبغي أن يكون واقعيا لا عاطفياً! ترى! لولا العاطفة لما تسنى للزوج أن يعاشر زوجته، وللأب أن يعايش أبناءه وأسرته، إن العاطفة من الدين، إن الذي يخلو عن العاطفة بحجة أنه واقعي، وأنه يتلمس الدليل، وأن له إطارا محدودا لا يحيد عنه، إنه إنسان جامد رتيب لا يستحق أن يعيش مع بني الإنس، لأن الإنسان ركب بالعاطفة والعاطفة جزء منه.
إن جامعاتنا العصرية قد أنجبت واقعيين قانونيين، ولكنها لم تنجب أصحاب العاطفة والحب، لذلك قل إنتاجها وجمدت قرائح متخرجيها، وأصيبت بالركود والجمود، بل أصبحت لا حياة فيها ولا حركة ولا نمو.
إنه ينبغي تربية أبناء الأمة على أساس العاطفة والحب والحماس والحمية الدينية مع تمشيهم بالواقع الذي يعيشون فيه، والقضايا التي يعالجونها.
إن العاطفة تورث في أبناء الأمة الحزم والفاعلية والحيوية والإقدام والنشاط، وتدفعهم على الإبداع والابتكار والتجديد، ولولا العاطفة لأصبحنا مجرد كائن متحرك لا يمشي وراء غاية، ولا يعرف هدفه في هذا الكون شأن الغربيين الذين حرموا العاطفة فانفكت أواصر المحبة في الأسر، ولم يعودوا يفرقون بين المرء وزوجه وبنيه إلا ما شاء الله.