البوصلة…
كنت قد مضيت على متن قاربي الخشبي، أقذف الموج بمجذافي العتيق.. كان قاربي رغم كبر سنه مجهزا؛ فتمة قنينة غاز، إبريق شاي.. كأس تشرذمت من شدة القرع.. مرمدة، فأنا رغم تدخيني المفرط حريص على سلامة البيئة، وتؤرقني ورطة التلوث.. والأهم أن قاربي مجهز ببوصلة…
طبعا، لا يمكنني أن أحدد اتجاهي بدونها، فأنا لا أهتم بالإشارات الضوئية ولا بما شابه ذلك.. ذاك طبعي، فأنا لم أقبل أبدا أن أوجه عن بعد.. كنت دوما أفضل توجيه نفسي، وتحمل المسؤولية بعد ذلك..
وبما أن إقلاعي من الميناء قد مر عليه شهور عديدة، فقد كنت قد استنفذت كل المؤونة، ليس ذلك فقط بل واستنفذت حتى السجائر وهذا أخطر عندي.. على أي بقيتُ وحيدا وسط فضاء أزرق شاسع، لا صوت هناك، لا مجال للحركة الحية، سوى قاربي الذي يرتفع ليهبط من تلقاء نفسه، رفقة الأمواج المتلاطمة بالخشب… هذا بالإضافة إلى صوت صفحة الماء وهي تتمزق من جراء جر المجداف لنصفها الخلفي.
أدركت أن الأمر أصبح ينذر بالخطورة، فقررت أن أرجع أدراجي.. ولأفعل ذلك لا بد من البوصلة.. فماذا لو لم أجدها وهو ما حصل بالضبط.. لقد اختفت البوصلة اختفاءً لم أستطع تفسيره.. لا أخفي أني لحظتها آمنت بوجود الجن.. لقد تخيلت أن جنيا أزرقا قد تسلل وسرق البوصلة، ما العمل يا إلهي؟… وليس تمَّة ما يدلني على اليابسة.. نزل علي الأمر كالصاعقة من هول المفاجأة… أظلمت الدنيا في عيني، وأسلمت أمري للإله الذي أبدع هذا الكون، تلوْتُ الشهادة، وقفت على ظهر القارب، شرعت أروح وأجيء كعسكري الدورية.. أظلمَ الكون وراحت النجوم تملأ الفضاء.. حاولت النوم فلم أستطع، لتكالب الخوف والبرد والجوع والعطش معا… فحاولت إيجاد حل، لكن دون جدوى..
فكرت في مراسلة مجلس الأمن، لكني لم أكن أملك جهاز لاسلكي، كأني أملكه اللحظة… كنت أهرب من واقعي المر، كنت أسافر بعيدا، لكن همومي كانت تسافر معي… بدأ الغموض يكتنف كل المنعطفات، لكني كنت أؤمن بأنه مفيد للغاية، فهو يولد الحماس الذي يدفع إلى استشراف المستقبل.
ثم ماذا لو أحاول إشعال النار لعلي أخفف من قساوة البرد.. وضعت وعاء حديديا، ثم فككت إطار خشب وأشعلت النار.. مددت يدي فوق لهيبها ورحت أتأمل الورطة، كانت التكشيرة تعلو وجهي، فكرت في التخلص منها، لكن ذلك تطلَّب مني تأشيرة الدخول إلى عالم الفرح، وسفارة هذا العالم كانت يومها غير ممثلة في بلدنا… تخيلت البوصلة المفقودة وأكبرت دورها، فرغم صغر حجمها فدورها خطير للغاية..
قارنت حالي والبوصلة إذن بمثل نملة دخلت خرطوم فيل فاهتزت لذلك الغابة بأسرها.. لست أقدر على وصف حالي، فقد كنت ليلتها كحارس سرق يقظة كل العسس، ليلتها فقط، أدركت أن من بيته رملي لا يصلح لمهاجمة البحر.. وأن من يشرب النار يبصق النار.. ثم في لحظة ما شرعت أضحك من تلقاء نفسي، كانت قهقهاتي تمزق وحشة الليل، فقد تخيلت نفسي معكوس المشاعر.. لم أكن لأكف عن القهقهة إلا عند سماع صوت شبح يرهبني بقوله :
“سأقرع جرس موتك الآن”.