جدي _ قصة قصيرة _
بجسده النحيف الذي يغطيه جلباب أبيض يجلس بباب الدار، يلمح الرائح والغادي بعينيه الغائرتين في وجهه البشوش دون أن يكل من رد السلام على كل من يجود به عليه، ولا يكسر هذا الروتين إلا قدومنا عليه متنافسين على من يجلس بحجره، فيهتز الكرسي كأنه رافض تطفلنا على من هو عليه؛ إنه جدنا.
كان رجلا كريما، لا يضجر من كثرة تقبيلنا إياه،
يجلس في وقار و حترام يتابع المارة، وحدقتاه تميل يمنة ويسرة، وهو قاعد فوق كرسي ألف وزنه الرشيق الخفيف، مرتديا جلبابا أبيض يخفي معالم جسده النحيف، فكنا كلما صعدنا على ركبتيه لمعانقته وتبليل لحيته البيضاء الخفيفة بقبلاتنا الجنونية يبدأ الكرسي الخشبي بالاهتزاز، وكانه لا يريد أن نفعل ذلك.
كنا كلما حدقنا بوجهه الذي تعلوه تجاعيد كأنها سطور سوداء على صفحة بيضاء، نقرأ قصص كفاح رجل بسيط قضى حياته محبا لأرضه يحرثها بكل حب وتضحية، فأحب كل ما يتعلق بالأرض وما يخرج منها، فلم يقتصر حبه للفلاحة وعشقها على الأرض بل حول حتى سطح بيته إلى منبت جميل يحوي مختلف النباتات ذات الروائح الفواحة والمنافع الجمة.
كلما عاد من عمله مساء وهو متعب، نتصارع صغارا وكبارا على من يدلك رجليه المتورمتين كي يعطيه دراهم معدودة، فكان الفائز يحظى بها ويهرول إلى دكان “سي محمود” رأسمال العائلة بأكملها.
كان الكل يحترمه ويقدره، ليس خوفا منه بل لأنهم اعتادوا على مساعدته لهم في ما يطمح إليه من أن يحظى الناس بما يحظى به من راحة وأمان، حيث لا ينام إلا مع نوم سكان الحي جميعهم، ولا يأكل حتى تشبع العائلة بأكملها، ولا يستشفى حتى يشفى كل مريض، لقد كان يفكر في الجميع قبل نفسه.
وما أن فارق الحياة حتى تهدمت ركائز عائلتنا، فالكل يتصارع على الميراث، فحملت ابنته البكر أولادها إلى مكان آمن بعيدا عن المنزل الذي جمع المحبة والتعاون، والذي تحول إلى حلبة قتال بسبب مائة وعشرين مترا من أرض الله الواسعة.