مات بالكورونا – قصة قصيرة –
– “لن أداوم ما دامت هذه الكورونا اللعينة”!
قال عبدالباقي كلماته هذه وهو يغلق غرفته في المستشفى، ويغادره، وليحجر نفسه في بيته خوفًا من هذا الفايروس الوباء.
لكن مدير المستشفى طلبه، ولما لم يستجب لمطالب زملائه ومديره المباشر، اتّصل به مدير المستشفى شخصيًّا، وطلب منه الالتحاق بالعمل، وهدده بالفصل إن لم يلتحق.
جاء عبدالباقي يحمل في يده كيسًا مملوءًا بالمعقّمات والمنظفات، والكمامات، والقفازات، وأغلق عليه بابه بالمفتاح، وبدأ بتعقيم كل شيء.
بعد قليل جاءت أمل، الممرضة في قسم الأمراض المعدية والأوبئة، فلما رآها من خلف زجاج النافذة ارتعد وخاف، طلبت منه استخراج شهادة وفاة لرجل سبعيني. ألصقت الورقة على الزجاج وبدأ يدخل البيانات في جهاز الحاسوب. وفجأة توقّف مبحلقًا في الورقة.
كان عمله روتينيًّا كلما أحضِرت إليه ورقة لاستخراج شهادة وفاة لميت، فيكتب في خانة سبب الوفاة ما يرد إليه في الورقة دون تدقيق؛ فمرة: سكتة دماغية حادة، وأخرى: حادث سير، وثالثة: جلطة، … وهكذا. لكن هذه الورقة التي ألصقتها أمل أخافته، ففي سبب الوفاة كُتِب: “مات بالكورونا”! ففرك بعدها جبهته، التي أخذ العرق يتصبب منها، ثم أخذ يتحسّس رقبته، كما لو أن حبلًا يحيط بها.
أشار لأمل بأن تأخذ شهادة الوفاة بعد أن طبعها من صندوق الأوراق الذي يتوسط الجدار الفاصل بين الغرفة وخارجها. فأخذتها وقالت:
– لـمَ هذا الخوف الشديد؟! ها أنا أعمل مع لجان الفحص الوبائي، وأخالط المصابين، ولكني أحافظ على وقاية نفسي وأحميها.
* أنا أخاف من العدوى. هذا الفيروس يسبب لي قلقًا دائمًا.
– أنت من أكثر الناس اطّلاعًا على أسباب الوفاة. لا تخف، كل منا سيقف على ساعته وحينه.
* لا أستطيع أن أطرد هذا الخوف عني؛ إنه يقتلني، ويؤثر في علاقتي بزوجتي وابني الوحيد.
– أتعلم يا عبدالباقي؟! منذ بداية هذه الجائحة تعاملت معها بمنتهى الحذر والحرص، لكني لم أخف منها.
* كيف عملتِ؟
– فرّغت بيتي من الأولاد، فقد أرسلتهم ليعيشوا مع والديّ في القرية، وها أنا أعيش منذ عشرة أيام وحيدة في البيت، ولذا لم أعد أطيق البيت الخاوي، فأنام هنا في المستشفى. وأحيانًا أتوق إلى رؤية أختي التي تسكن قريبة مني، فأمرّ في الشارع الذي تسكنه، ثم أتصل بها لتخرج إلى شرفة بيتها العالية، فأراها وأحدثها وأطمئن عليه، ثم أكمل طريقي. أما والداي وأولادي فأتصل بهم يوميًّا، وإذا أتيح لي فإني أراهم عبر الاتصال بالكاميرا.
* لقد طلبت من زوجتي أن تأخذ الولد، وتذهب إلى بيت أهلها، لكنها رفضت أن تتركني وحيدًا.
– بارك الله فيها، هذا من حسن ظنها بالله، وحبها لك!
* هل تخالطون المرضى يا أمل؟
– في البداية لم أكن وزملائي نعرف كيف نتعامل مع الحالات المصابة، لكن بعد أن أخذنا دورة مكثفة في هذا المجال صارت مخالطتنا لهم كثيرة، فعلمونا أولًا كيف نحمي أنفسنا من العدوى، وصرنا نعرف كيف نشغل الآلات التي تشبه الخوذات، لمساعدة المرضى على التنفس.
* أنتم في خطر حقيقي!
– نعم، ألم تسمع بزميلتنا سميرة التي أصيبت، واضطرت الوزارة إلى عزل بيتها وأسرتها، بل والعمارة التي يسكنونها، مع أن كل منا يمارس عزلًا فرديًّا شديدًا.
* إذن أرجو أن تعذريني، فلن أفتح الباب لأحد هنا.
بعد الظهر جاءت أم صابر عاملة النظافة، وطرقت باب غرفة عبدالباقي، كانت ترتدي بدلة برتقالية اللون، وتغطي كل جزء من جسمها ووجهها وكفيها، لكنه رفض أن يفتح لها الباب، لتفرّغ سلة القمامة.
– قال: ليس لديّ شيء من القمامة، وسوف أخرج كيس القمامة بعد خروجي آخر اليوم.
* الحذر لا يمنع القدر يا عبدالباقي!
– “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، و”من خاف سلم”! ها أنت ترتدين بدلة وقاية، وتحمين نفسك، أما أنا فلا.
* أنا أرتدي هذه البدلة الواقية لمدة ثماني ساعات متواصلة، وأعمل في التنظيف باستمرار، وأتعرق بكثرة كلما تحرّكت، حتى عملية التنفس صارت صعبة، وتؤثر في ضبابية الرؤية، وأخشى أن يصيبني أي مرض غير الكورونا، ومع ذلك فأنا لا أخاف مثلك!
استمرّ عبدالباقي في سلوكه الحذر كل يوم، تطوّر عمله، فلم تعد الأوراق تأتيه باليد، بل ترسل إليه عبر البريد الإلكتروني، فيكتبها ويعيدها إلكترونيًّا أيضًا، فلم يعد يرى الممرضة أمل، ولا العاملة أم صابر. لكنه أدمن عبارة “مات بالكورونا” كل يوم، وصار يكتبها مثل أي عبارة أخرى، بلا إحساس.
غير أنه توقّف يومًا ووجم وقد جمدت الدماء في عروقه، وهو ينظر في صفحة الحاسوب أمامه:
▪الاسم: أمل…
▪سبب الوفاة: ماتت بالكورونا!