-١-
كان جبلا على شكل خيمة متساوية الأضلاع، لم تدرك سر تجليه لها طوال شهور الحمل غير أن الصوت الخافت القادم من خلف صداه ما زال يأمرها أن تضع حملها عند الشجرة العالية هناك المرتفعة قليلا عن سفحه.
تسللت تنتسيبة منتصف الليل، متخفية حتى عن خادمتها التي شغلتها بتجهيز مستلقى الوافد الجديد، وانطلقت بأنينها الذي تعودت عليه كما رأت في رؤيتها، الشجرة الجذع والغلام. كان شيء ما بأعماقها ينبئها أنها ستضع غلاما لكن ليس أي غلام، غلاما ذا شأن عظيم!
أقبلت مسرعة إلى خيمة ابن أخيها نملوت، هذه الليلة كانت رؤياها هي الأخرى ثابتة وصريحة. لم تعثر على زوجته الحامل وقد وجدت خدمها وحشمها في حالة تأهب قصوى وهم في نفير بحث مضن عنها، قالت لخادمتها التي فطنت أخيرا للأمر: بشريها حين تعثرين عليها أن المولود سيكون ذكرا، وأبلغيها أن تطلق عليه اسم “شيشنق”، تذكري هذا الاسم جيدا فلا يمكن أن يحمل حفيد أخي إلا هذا الاسم: شيشنق العظيم!
ثلاثة أيام والجبل يصغي لصوت وليدها، كأنه لم يستسغ شكله الذي يحاول أن يطبع منظره كأول إطلالة بريئة له على هذا الوجود في مخيلته الصغيرة، حولت وجهه نحو الهضبة البعيدة التي تختفي خلفها خيمتها التي نصبت لها خارج أسوار هِنينْسُو كما أمرت، هدّأ من روعه، واستعد لرحلة الأرض.
أية قوة انبثقت منها وهي تشق تلك الطريق الوعرة، لا الأحجار ترهق قدميها المثقلتين بعد فترتي الحمل والوضع وآلام النفاس، ولا الرمل الساخن يبلع ما تبقى فيها من صبر. أخيرا تلمحها خادمتها كطيف يتهادى في جنبات الأفق فتهرول نحوها، تحييها بإجلال وتحاول أن تسندها وقد ظهرت عليها كل علامات الإعياء، غير أن كل ما أمكنتها من القيام به هو أن تصحبها حتى مدخل خيمتها، وأن ترفع لها رواقه الحريري الأصفر المزكش برسوم حيوانات وحرات برية، وأن تعد لها سريرها لتستلقي عليه أخيرا بعد يومها الجميل المتعب، وتنصرف بعدما أشارت إليها بذلك براسها فقط، فلسانها قد ألجم من مغبة الصمت.
قبل أن تستكين للراحة، همت بأن تضع وليدها فوق سريرها وتستلقي بجانبه غير أن قدمها اليمنى تعثرت بآنية لم تلحظها الخادمة، لم تستطع أن تطلق حتى صرخة وهي ترى يديها تخونانها لتتركا شيشنق يهوي إلى الأرض، ظلت مشدوهة وقد ظنته قد هلك من وقع الصدمة فهو لم يبد لا صراخا ولا أدنى أنين، انطلق الصوت نفسه الذي خامرها عند سفح الجبل:
– التقطي ثمرة أحشائك من الأرض فإنها لم تصب بأذى، هذا خير رجال القبيلة وسيدها، وسترين آياته عن قريب.
امتثلت تنتسيبة للهاتف وضمته بدمعتها المنسكبة على خدها، تأملت وجهه فتقاطعت نظرتها القلقة مع نظرته المطمئنة، وضعته في مهده الخشبي الذي تتبعت كل تفاصيل صنعه بأعينها، ومضت تهدهده وهو يغط في نومه الأول ببيته حتى نامت لنومه.
استفاقت على همس العمة لشيشنق وقد أخذته بين ذراعيها، كان لأول ضمها له وقبلة على جبهة رأسه طعم عذب، أخذت تدندن له وتبتهج بصوتها العجوز مثل سنينها الثمانين.
– لا أظنه سيدرك معنى ما تحاولين قصه عليه يا عمة -قالت تنتسيبة-.
– بلى ستمر كلماتي إلى ذهنه المرهف كالحلم الذي سيطل عليه حين يشتد عوده -أجابت العمة-.
– لكنه زمن غاب وغبر، وقصة سيتناساها الناس إن لم يكونوا قد نسوها بعد، لعلهم يتذكرونها إن تذكروها أصلا كأساطير الأولين ليس إلا -عقبت تنتسيبة-.
– لا يمكن أن ينكر ابني شيشنق أصله وعرقه وسجل أجداده، لا بد أن يدرك أنه سليل بُويُوَاوَا زعيم المشواش الذي قدم إلى هنا، لكنه استقر ومكّن لابنه موسن من تولي كهانة هارشافي في زمن ليس بالطويل، لقد كان مباركا في كل خطواته -ردت العمة بكبرياء-.
– هارشافي نعم، ما زلت أذكر أيضا كيف استولى على قيادة الحامية العسكرية حتى أعجبت به أميرة القصر الفرعوني نفسها -قالت تنتسيبة-.
– تنتسيبة، كانت سيدة عظيمة أنجبت له بمجرد ما تزوجا شيشنق، الذي ما راودتني الرؤى إلا لتأمرني أن أطلق اسمه على مولودك، عسى أن يكون عظيما مثله -ردت العمة-.
– ما رأيته عند سفح الجبل يشعرني أن ابني سيكون له شأن مختلف تمامــا وأعظم بكثير -أردفت تنتسيبة-.
– نعم ولعله سيتزوج سيدة جميلة جدا، بل وأجمل من مَهِيتُنُوشِخِيت ذاتها -تساءلت العمة-.
– هل تعتقدين أن حسن امرأة ما على هذه البسيطة قد يتجاوز حسن مهيتنوشخيت يا عمة؟ -سألت مستغربة تنتسيبة-.
– لا أظن أن شيشنق سيتزوج إلا أجمل النساء على الإطلاق -ردت العمة متنهدة بعمق-.
– سيكون يوما رائعا -قالت تنتسيبة-.
– لكني لا أظنني سأحضر يوم زفافه، العمر لا يمهلني -أضافت العمة مطرقة برأسها-.
– عمتي، أرجوك -ردت تنتسيبة مواسية-.
يتعالى خارج الخيمة صوت وقع حوافر الخيل وتطاول السماء أصوات صهيلها، وتنطلق جلبة الخدم للإمساك بأزمتها، يرتفع رواق المدخل ويقبل نملوت بابتسامة فرحا بمولوده الجديد.
– ما زال عاجزا عن تقلد السيف ولباس الدرع يا نملوت، لا تحاول معه، دعه ينم أرجوك -ترجت تنتسيبة-.
– أدعه ينام، كلا طبعا، لا بد أن أوقظه وأطوف به الوادي على حصاني الشارد كما قطعت على نفسي -أجاب بحماس نملوت-.
– أما زلت تؤمن بهذه الأسطورة يا نملوت؟ -تساءلت تنتسيبة-.
– سيان عندي أن تكون حقيقة أو مجرد أسطورة، لكني لابد وأن أطوف به حول الوادي سبع مرات، من يدري فقد تتحقق النبوءة على يدي هذا الصبي -قال مستبشرا نملوت-.
– نملوت، لقد مر على المشواش ومثلهم من الليبو والتحنو هنا بهنينسو زمن أصبحوا فيه أسيادا وقادة وزعماء، بل وكهنة لهارشافي، إلى أي مكانة يمكن أن يطمحوا بعدُ بعدَ كل الذي حققوه من مكاسب وبلغوه من سلطة، أتظنهم ما زالوا يحتاجون إلى ذلك المخلص الذي لا تفتأ عجائز القبائل تلوك اسمه للصبيان كل مساء، أو تراودهم فكرة وجوده أصلا -عقبت تنتسيبة-؟
– عزيزتي، هارشافي ليس بإله، هو مجرد صورة تعبث بها مخيلة العبيد، ماذا يمكن أن يكون أمام فرعون، وماذا يمكن أن نكون نحن رغم ظاهر المناصب التي حصلناها والألقاب التي أُسديت لنا وهذا المصري يمسك برقابنا ورقاب بني جلدتنا، نحن لسنا إلا عبيدا مهما تغيرت ألقابنا؟! -رد نملوت-.
– عزيزي، حذاري أن يسمعك الخدم، فأعين فرعون وهامانه اللعين في كل مكان -بادرت تنتسيبة-.
– ولو يا عزيزتي، ما زلنا ظماء نحمل جرارنا إلى الوادي المقدس فنمنع على ضفته من ارتشاف الحياة منه، يوما ما سنحطمها جميعا فلن تصبح ذات جدوى -بين نملوت-.
تأملت تنتسيبه زوجها وهو يردد كلمة جرار بكثير من الثقة لكن بحزن شديد وحسرة، رأت فيه كل إصرار أجيال من قومها الذين ماتوا في سبيل إرواء عطشهم من النهر، لكنها سرعان ما استحضرت صورة سيوف الفراعنة التي ردتهم عنه بكل أنانية وغطرسة. ظلت تتساءل كيف يمنعون عنه التحنو والليبو والمشواش وغيرهم من القبائل الأمازيغية الأصيلة، ليتركوه نهبا للماء المالح الذي يلتهم زلاله هناك في الشمال. كانت تعلم أن هؤلاء الرجال الأحرار ما قبلوا أن يتسللوا إلى مصر ويصبحوا من أهلها أو هكذا حاولوا أن يوهموا أنفسهم وربما غيرهم من المصريين، إلا لعدم استطاعتهم تحقيق مرادهم بالقوة حتى الآن. غير أن تمسكهم بنظامهم وتركيبتهم القبلية الصامدة وسط طوفان الأجناس والأعراق الأخرى هو ما جعلهم يحافظون على انضباطهم واستعدادهم، وجعلهم يصمدون لأجيال أمام محاولات اختراقهم من طرف جنود فرعون وحاشيته، وأيضا هو ما مكنهم من احترامهم لبسالتهم وقوتهم ووفائهم حتى أصبحوا عماد ركن هذا الجيش المتلاطم كالموج المنحدر في كل حدب وصوب. وفاؤهم نعم، لكن لمن وإلى متى؟
-يتبع-