وقد كانت وسيمة سمراء مثل أبيها، وعلى إثر ذلك كان حرصي عليها يشتد، سيما من “الذئاب الآدمية” المتسكعة والمتشردة، وحتى الصنف الآخر الذي يبدو ظاهريا مروضا وأنيقا، فقد كانت لينا محبة للسؤال بل وتقدسه وتعتبره أساس الوجود، ببساطة كانت تشبه أباها في كل شي ما عدا شعرها الناعم والكثيف، لذلك لم تكن تتركني كلما سنحت لها الفرصة بمشاغبتها الفكرية المثقلة بالأسئلة المحرجة والمبررة بحبها للمعرفة.
وفي يوم ما إن لم تخني الذاكرة كانت سنة 2040 في فصل الربيع أعتقد، كنا حينها في جولة خارج المجال الحضري تلفنا الورود، فجأة سرقت لينا النظر خلسة بعدما رأتني بمعية أمها أداعب خصلة شعرها بعدما اشتد حنيننا إلى الماضي البعيد، ولم تجد لينا فرصة لطرح أسئلتها إلا في تلك اللحظة الحميمية، وقد قاطعتنا بسؤال ويا ليتها لم تطرحه، قالت: أبي لماذا تحدق بطريقة غريبة في الورود في حين أنت تداعب وردة أفضل من كل ما في الحقول؟ لو لم أمسك بيدي أمها لسمعوا صراخ لينا تحتج لقمعها في حرية التعبير عبر طرح سؤالها، وحاولت أن أنسيها لكنها أصرت على سؤالها، وأُجبرت محرجا وفي نفس الوقت متألما على الرد على سؤالها، بالقول: أصغي أيتها المشاكسة، فالورود أينما كانت وكيفما كانت تبقى مجرد انعكاس لصورة أمك، هاته الأم يا ابنتي تعرفت عليها في زمن الأوبئة والجفاف، زمن ليس كغيره من الأزمنة وما واكبها من معاناة، لذلك أراها وردة قد نبتت في صحرائي القاحلة، لذلك فحدود بصري لا تمتد أكثر.
قالت لي وسمات وجهها تعتليها ابتسامة صفراء فاقع لونها: لا أشك في مقياس حبك لأمي لكن رؤيتك للورود بتلك الطريقة أثارت انتباهي، وكلامك هذا وإن كان حقيقة فيبقى ناقصا غير كافي، ماذا تخبئ ليجعلك تتلعثم وتجتنب الوقوع فيه؟ وقد أقنعتني بالسرد والذي لم يعرف فيه لساني تلعثما ولا حتى حروف الأبجدية التي ستغرقكم، وستمر أحيانا متسرعة دون احترام لشروط أدبيات اللغة. قلت لها بعد 20 سنة مضت وفي نفس هذا الشهر أي بتاريخ مارس أو أبريل من سنة 2020: كانت مدة زمنية مفصلية في حياتنا، فبقدر ما كانت قاسية ومؤلمة ومحزنة، بقدر ما كانت سببا في معرفة أم الورود وردتي التي لم تذبل بل أثمرت لي وردة صغيرة مثلك، فقد مر علينا زمن يا بنيتي اختلت فيه سلوكياتنا الاجتماعية واختلفت عاداتنا وتنكرنا لتقاليدنا الثقافية، زمن جعلنا ننفر من بعضنا البعض، وكان كافيا أن يكسر منطق كون أن الإنسان كائن اجتماعي، فالكل أصبح منطويا ومنعزلا عن الآخر، بل ويعتبر الغير عدوا مفترضا يمكن أن تكون نهاية حياته على يده، فقطعت فيه صلة الأرحام، وأفرغت فيه الشوارع وأصبحت المدن مهجورة منكوبة، وأغلقت أبواب المساجد وأوقفت أجراس الكنائس والمعابد، علقت فيه المدارس والجامعات، تم توقيف الملاعب والمسابقات الرياضية، وقطعت فيه المجالات الجوية والبحرية والبرية، وشلت فيه الحركة عالميا، وانهارت الاقتصادات، وارتفع منسوب الهلع والخوف والرعب في أنفس البشرية واستشرافها لحياة ما قبل جائحة كورنا التي حلت على البشرية جمعاء.
أقل ما يمكن قوله يا ابنتي أنه كان وقتا صعبا علينا، فقد كانت جائحة لا تميز بين دول الشمال ولا دول الجنوب، فالفقير والغني سواسية، ولعل هذا من أهم سماتها الإيجابية، فضلا أن قضية إدارة الأزمات وتدبير المخاطر بدت معالمها متخبطة ومتباينة، حيث نجد مثلا من أهم المنظمات الدولية التي تقع تحت لواء الأمم المتحدة، وهي منظمة الصحة العالمية والتي تتوفر على ميزانية ضخمة من التمويلات، بلغت 5.6 مليار دولار أمريكي حسب آخر تحديث في عام 2019 ، فضلا عن مواردها البشرية من علماء وخبراء وأطباء وأطر عالية، لكن كل ذلك لم يجعلها تقوم بدورها. أتعلمين أنها قد ترددت وتأخرت وهذا غير مفهوم في إعلان أن الوباء قد أصبح وباء عالميا بعدما انتشر انتشارا واسعا وصعب بذلك احتواؤه، دون الحديث عن أن أهم تصريحاتها الكارثية وهي أهل التخصص حيث صرحت وفقا للرواية الصينية بأن الوباء لا ينتقل بين البشر، زيادة عن إعلانها في البداية كون الكمامة غير ضرورية لمواجهة الفيروس، وأنه لا ينصح للأصحاء بارتدائها، ثم عادت المنظمة ذاتها لتؤكد أنه يمكن للدول التي يصعب فيها غسل اليدين والتباعد الجسدي أن تستخدم الأقنعة في التجمعات. ويمكن القول يا بنيتي بصدق أن من أهم المساهمين في عدم احتواء الجائحة عالميا هي طريقة تدبير وإدارة المخاطر الوبائية التي عصفت بالبشرية جمعاء، هي تلك المنظمة بامتياز.
وبذلك اتجهت أنظار الكل واتحدت حول واقع وآفاق المنظومة الصحية، مؤسساتيا وبشريا، وقياسا لبحوثها المخبرية العلمية التي يمكن أن تجد لنا لقاحا لهذا الفيروس المجهري والقاتل المتسلسل ومجهول المصدر، هذا الضيف الثقيل الذي جعل الكل يشعر أنه ينتظر في طابور عداد الأموات، وما نتج عن ذلك من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية مريبة، وكأننا ننتظر تأشيرة لضمان استمرارية الحياة، وكانت فعلا كذلك، رغم الأعطاب الكارثية التي واكبت الأزمة. فحتى البلدان التي تحسب على أنها متقدمة ومتطورة وتتسابق لغزو الفضاء، هُزمت وسقطت في أول امتحان من لدن الغزو الكورونيالي، وعرت بذلك الصنم الذي كانت تحتفي من ورائه.
ومازلت أتذكر، كان أول ظهور للوباء بالصين وبهذا اعتبرت أولى البؤر التي حصد فيها الأرواح، ليس آلافا كما ادعت حكومة الصين آنذاك بل تجاوز العدد المليون على حسب ما كان يروجه المعارضون، فبلد التنين رغم أنه حينها كان قوة صاعدة تتجه للريادة العالمية، وبعلو شأنه، لم يستطع محاصرة الوباء في مدينة صغيرة كان اسمها ووهان، بعدما نبههم طبيب أن هناك فيروس خطير معدٍ وقاتل، لكن تنبيهاته قوبلت بالتوبيخ من لدن حكومته واعتبرت نصيحته سببا لمتابعته بتهمة بث أخبار مضللة وترويج لأخبار زائفة، قمة اللامبالاة والتبخيس والنكران، حتى بلغت تنبيهاته كل المعمور، وبدأت تسوق لأزمتها باتهامها لأمريكا بنقل جنودها للفيروس في عنق التنين الصيني.
وحتى أمريكا التي كانت حينها تعتلي عرش النظام الدولي، لم تستطع سياساتها اللااستباقية لاحتواء الفيروس والذي عصف بآلاف الأرواح والمصابين فيها، أما نظامها الصحي فقد خر ساجدا وبدأ تخصصه في تعداد الضحايا الذين أصبحوا يحملون في شاحنات في جو مخيف، دون الحديث عن طريقة الدفن الجماعي في إحدى الولايات، وكأن البلد في حالة حرب عالمية غزت أرض العم سام. زيادة على أن حرب الكمامات والبدلات الطبية الوقائية حتى أصبح بعض الأطباء يرتدون بلاستيك النفايات، وأصبحت بذلك كل ولاية تنطوي على إنقاذ نفسها بنفسها في جو تسوده الأنانية الوجودية. وكانت أهم أسباب عدم احتواء الوباء هي قرارات صاحب الحل السحري للقضاء على كورنا بمسحوق “جافيل” السيد الرئيس ترامب آنذاك، الذي لم يأخذ حتى بتحذيرات مخابرات بلده الاستباقية بعين الاعتبار واستهان بها وكان الثمن غاليا للأسف.
أما بلد العجائز مهد الديمقراطيات وحقوق والإنسان والشعارات من قبيل التضامن والتعايش والاتحاد، فقد سقطت شعاراته الغوغائية في اختبارها الأول، والكل انعزل وغلق حدوده لمواجه الفيروس، وتخلى الحلفاء عن بعضهم البعض، وكانت إيطاليا وإسبانيا أكبر من خرجا خاسرتين من هذه الحرب الوبائية، حتى أصبح حال الأوربيين يمتهنون القرصنة فيما بينهم، حيث أن التشيك قامت بالاستيلاء على مساعدات طبية من الصين كانت متوجهة لإيطاليا، علما أن هذه الأخيرة قامت بقرصنة باخرة قادمة من الصين حاملة لمساعدات طبية من الكحول التي كانت ستستفيد منها تونس، دون الحديث عن اختفاء شحنة تضم 6 ملايين كمامة طبية بإحدى مطارات كينيا كان مفترضا أن تصل إلى ألمانيا.
وقاطعتني: أبتاه، كيف لهذا الوباء الغريب أن يفعل كل هذا بالبشرية جمعاء رغم وثيرة التطور والتقدم، ولا تحدثني عن الغرب فقط، حدثني كيف تعامل بلدي مع هذا الوباء؟
وما كان حينها إلا أن أعيد طريقة جلوسي، وأجبتها قائلا: مبدئيا لا يمكن إلا أن أقول لك بأن جائحة كوفيد 19 ساوت بين الدول الغنية والفقيرة، والمغرب باعتباره بلدا ناميا هو الآخر قد أخذ نصيبه من هاته الجائحة، وما يمكن القول عن سياسته التدبيرية وإدارته لهاته الجائحة، أنها قد اتسمت ببعض مواطن القوة التي تستحق التنويه بها وبعض مواطن الضعف التي أثارت حينها مجموعة من الأسئلة. قاطعتني وعلى ملامحها نوع من التهكم: أبي ما بال لسانك قد اعترته لغة غريبة وارتجال ثقيل عندما بدأت الحديث عن المغرب؟ وزادت بالقول: أريد أجوبة مباشرة وخالية من اللغة الخشبية على أسئلتي الآتية: إلى أي حد نجح المغرب في تدبير أزمة كوفيد 19 منذ أول إصابة بالبلد، وما هو الأساس الدستوري الذي على إثره تم تفعيل حالة الطوارئ، وإلى أي حد تم تبيئة حالة الطوارئ الصحية مع حماية الحقوق والحريات الأساسية للمواطنات والمواطنين، وكيف تم التعامل مع الطبقات الاجتماعية الهشة والضعيفة التي تأثرت سلبا بالحجر الصحي، وكيف تم التقييم الإيجابي لتفاعل القطاع الخاص مع الأزمة سيما منه مجالي الصحة والتعليم، وهل حقا ما يحكى أن بعض ساكنة المدن قد خرجوا للشوارع في ظل الحجر الصحي بمسيرات احتجاجية ضد الوباء، وما مدى صحة رفع أحد الشعارات القائلة: “وكورنا سير فحالك، والمغرب مشي نتاعك”؟
ما كادت لينا تنتهي من أسئلتها تلك حتى سمعتُ صراخ أمي: إنهض أيها المتكاسل، إنها الساعة الرابعة زوالا وأنت ما تزال تغط في نومك.
لقد كان حلما أيها القارئ، فلم أجد لا لينا ولا أمها، وجدت فقط كورنا.
معا يدا بيد، مبادرة المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات في زمن الكورونا