أخيرا انتهيت، التصميم رقم خمسة وأربعين بعد المائة يبدو رائعا، كل الحواسيب بما تحتويه من برمجيات تؤكد أن هذا الجهاز الخارق سيعمل هذه المرة. من شدة فرحتي أخبرت أعضاء الفريق بالأمر، أرسلت لهم رسائل نصية، طلبوا مني جميعا السماح لهم بالعودة إلى المختبر، لكنني رفضت، فالساعة تشير إلى منتصف الليل، ولم يمض على مغادرتهم له سوى ثلاث ساعات. الأفضل أن يناموا جيدا حتى الصباح، وفي الغد سيكون أمامنا الوقت الكافي لإتمام العمل ومن تم الاحتفال.
بقيت وحدي هنا أفك شيفرة المعادلات الزمكانية الناقصة، وأزود بها نظام تشغيل آلة الزمن، فنحن على أبواب عهد جديد لم يسبقنا إليه أحد، ربما حاول البعض قبلنا لكنهم فشلوا فيما يبدو أننا نجحنا فيه للتو.
اتصلت بزوجتي لأخبرها بأنني سأبيت ليلتي هنا، صرخت في وجهي :” ولم تزعجنا وتزعج نفسك بالاتصال، فقد اعتدنا غيابك، ليلة أخرى كسابقاتها “. قلت لها :” أريد أن أقول لك بأنني…” ، لكن الخط انقطع. عاودت الاتصال بها مرة أخرى، ظل الهاتف يرن ويرن دون جدوى. كنت أود أن أخبرها أنني اشتقت لها كثيرا وللصغار أيضا، للأسف.
تابعت عملي رغم الإرهاق الشديد، حتى استبدت بي الرغبة في النوم. قمت من مقعدي وهممت بإغلاق كافة الحواسيب والأجهزة التابعة، حين خطرت لي فكرة تجريب آلة الزمن الليلة قبل الغد، قد يشكل ذلك مخاطرة حقيقية، فأنا هنا وحدي وكل الاحتمالات واردة، رغم كل هذه المخاطر المحدقة ولولعي بركوب التحديات قررت أنها تجربة تستحق أن تعاش.
كان من المفروض أن تكون المحاولة الأولى من نصيب الكلب “روكي “، مع وضع كاميرا رقمية في عنقه. عوضا عن ذلك سأحمل معي حاسوبي المحمول، فهو حبل نجاتي الوحيد من الضياع بين أزمنة تاريخية غابرة.
كتجربة أولى لم أجرأ على التوغل عميقا في الزمن الماضي، اخترت العودة مائة عام فقط، الكثير من الأحداث عجت بها العقود العشرة الأخيرة، وبقدر الكم الهائل من المعلومات المتوفرة حول هذه الفترة بقدر علامات الاستفهام المطروحة حول صحة ما هو متداول منها، كانت الفرصة مواتية لي للتثبت من بعضها. جلست في المقعد تحت الأضواء الزرقاء، ضغطت على الزر الأحمر وانطلقت، لساعتين تقريبا طفت العالم أتنقل بين اجتماعات جرت بسرية تامة، فوقفت على اتفاقيات صداقة وتعاون بين أطراف كانت تتظاهر بمعاداة بعضها البعض. كما وجدت أن القائد الزعيم لحزبي المفضل لم يكن غير كبير خونة الوطن، والكثير الكثير من انتصراتنا وحتى هزائمنا كانت على العكس مما تعلمناه في المدارس والكليات… نزلت في ساحات معارك شهيرة ورأيت كيف مات مقاتلون أشداء لم يحفظ التاريخ أسماءهم، وكيف قطف الجبناء ثمار تضحياتهم، تجرعت من الآلام والخيبات حد التخمة، فقررت العودة إلى الزمن الحاضر. قبل ذلك أحببت المرور على ذكريات طفولتي، وضعت المؤشر الجغرافي في الحي الذي ولدت فيه، وجعلت الفترة الزمنية متوافقة وتاريخ ميلادي. في لحظات كنت واقفا أمام باب منزل متواضع، جلبة وأصوات مكتومة صادرة من الطابق الثاني، صعدت السلالم ودخلت إحدى الغرف، بعض النسوة تحلقن حول سيدة نصف عارية بدت عليها علامات الإجهاد، كانت تصرخ بين الفينة الأخرى، في غفلة منهن تفرست في ملامحها جيدا، هذه ليست أمي؟؟!! تشتد عليها آلام المخاض، فتعمد النسوة إلى تشجيعها وتهدئة مخاوفها، يبرز رأس صبي جميل، وشيئا فشيئا ينزلق خارجا من مسكنه ومستقره السابق الضيق إلى العالم الفسيح الجميل، تسرع إحداهن بلفه بشيء من الثوب وتنطلق به خارجا، في آخر الزقاق الضيق امرأة شابة تأخذ منها الصغير، يا إلهي، إنها أمي. سمعتها تقول “سأسلمها المبلغ المتبقي حالما يعود زوجي من السفر، سيكون سعيدا بابنه، أتمنى أن لا يكتشف الحقيقة يوما، سيطلقني إن علم أنني عاقر”.
حاولت اللحاق بها و هي تغادر، لكن بطارية الحاسوب أفرغت شحنتها بالكاد ستكفيني لرحلة العودة.
عدت إلى المختبر مكتئبا، وجدت الهاتف يرن، إنها ” أمي”.
ترددت قبل أن أرد : “ماذا هناك”؟
– هل نسيت أم ماذا يا عزيزي، غدا أول أيام العطلة.
– آسف لن أستطيع المجيء.
– و لا الصغار ؟؟
– و لا الصغار .
– لماذا ؟؟
لم أستطع الإجابة، قطعت الخط وجلست أنظر إلى صورها التي تؤثث مكتبي من كل ناحية، دارت بخلدي الكثير من الأفكار، وتذكرت مواقف سعيدة لي مع “أمي”، يومي الأول في المدرسة، فرحها بنجاحاتي، دعواتها المسترسلة كلما سمعت صوتي عبر الهاتف، حزنها لإخفاقاتي، سهرها لمرضي …
استجمعت قواي، واتجهت صوب الحاسوب المركزي، ضغطت زر محو كافة البيانات المتعلقة بالبرنامج. جمعت كافة أغراضي، واتصلت بزوجتي: “جهزي الصغار، أمي تنتظرنا على الغذاء “.
و قبل أن أغادر تركت استقالتي على المكتب.