أما أنه صاحب عقلية معملية فذّة، فهذا أمر لا شك فيه!.. فالمشير الليبي الكبير «خليفة حفتر» -وقد وجد نفسه مهزوماً محاصراً، ويخشى من أن يفقد أولياء أموره الدوليين والإقليميين الأمل فيه- هرب إلى الأمام، بطلب التفويض وقبوله بإدارة شؤون البلاد، فأثبت بذلك أنه صاحب عقلية معملية فذة، على النحو الوارد في شروط أحد أبطال مسلسل «مطلوب عروسة» في زوجة المستقبل! ولمن لا يتابع حركة الدراما، فهذا مسلسل عرضه التلفزيون المصري في بداية التسعينيات، وإن كانت قناة «ماسبيرو زمان» ذكرّتنا به مؤخراً، وهو ينتمي إلى فصيلة الدراما الكوميدية، وتدور أحداثه حول صديقين يبحث كل منهما عن عروس: الأول هو «يونس شلبي»، والثاني هو «أحمد بدير» العالِم الذي يشترط في عروسه، -من منطلق وضعه الأكاديمي والعلمي- أن تكون: عقلية علمية معملية فذة؛ «اثنين دكتوراه وخمسة ماجستير، عينيها خضرا، وشعرها أصفر»، وقد تعرّض لكثير من «المقالب» والخِدع بسبب عملية البحث عن صاحبة هذه المواصفات!
بيدَ أننا نعيش في كنف القائد العسكريّ، صاحب العقليّة المعمليّة الفذّة، وليس بحاجة إلى الدرجات العلميّة العليا، فالرُّتبة العسكرية تجُبُّ ما دونها، وهو قد منح نفسه رتبة المشير «قوة واقتداراً»، ولهذا قصة تنسف موضوع الجيش الوطني الليبي، وتؤكد صحة ما قلناه، وأنه ليس أكثر من مليشيا، لا يمنحه الاسم الترخيص بمزاولة المهنة، وإن كانت اللافتة هي التي دفعت الناصريين في مصر مثلاً، لتأييده باعتباره الممثل الرسمي والوحيد باسم الشعب الليبي بحكم منصبه كقائد للجيش، ولا شرعية عندهم تعلو على شرعية الجيوش، والمؤسف أنهم ينظرون إليه على أنه «خليفة القذافي»، وفيه -لهذا- من «رائحة الحبايب»، ويذكّر بذلك «بعَظم التربة»، ومن ثَمَّ هم يطلقون على قوات الحكومة الشرعية «المليشيات» الإرهابية، التي تنتمي لجماعات الرجعية والتطرف الديني! هل هو الجهل أم العبث، فالرجل خرج على القذافي بعد أن تم أسْرُه في تشاد في سنة 1987 في موقعة وادي الدوم، ولم يكن وحدَه وإنما كانت معه قوة كبيرة هُزمت هزيمة نكراء، فمن لم يُقتل تم أخذه أسيراً، وقد تنكر القذافي له، مع أنه أحد الضباط الذين شاركوه في انقلابه وما سماه هو بالثورة، وقال القذافي: إنه لم يرسل قوات إلى تشاد، وهذه القوات لا تخُصّه، وفي المقابل أعلن خليفة حفتر العداءَ له، وشكل جيشاً أطلق عليه -يا إلهي- «الجيش الوطني الليبي»، اتخذ من تشاد الخصم للقذافي مقرا له، وهو عمل يندرج تحت باب الخيانة الوطنية! وإذ قام الرئيس التشادي إدريس ديبي بحل «الجيش الوطني الليبي» عقب وصوله للحكم، وهنا حضرت الولايات المتحدة الأمريكية، التي صنعت حفتر على عينها، ولم تكن غائبة أبداً عنه من أول يوم له في الأسر، وقامت بنقله وعدد من عناصر «الجيش الوطني الليبي»، إلى زائير، قبل شحنه إلى واشنطن، ليتم وضعه في «الحضانات الأمريكية» لاكتمال نموه، فلما استشعر القوم في المخابرات المركزية الأمريكية، أن حكم القذافي قد يسقط، تم شحنه إلى ليبيا في مارس 2011، للمشاركة في العمل العسكري والسياسي لإسقاط القذافي، وقاد ما يُسمى بجيش جبهة التحرير لفترة وجيزة، وجرى عزله بعد أن وجهت له انتقادات بأنه شكل هذا «الجيش»، من متطوعين يفتقدون للخبرة!
ولابد هنا من عدة ملاحظات مهمة:
أولاً: إن خليفة حفتر مارس الخيانة الوطنية من بلاد العدو التشادي، ضد القذافي، فكيف يرى الناصريون المصريون أنه امتداد لزعيمهم المفدى الذي قال عبد ناصر فيه إنه يرى فيه شبابه؟
ثانيا: إن «الجيش الوطني الليبي»، هو اسم سيئ الصيت، فكيف تجاهل القوم ذلك ومن ثم اعتبره تنظيم عبدة الجيوش أنه تأكيد على الشرعية الثابتة، باعتبار أن الأوطان في عالمنا العربي هي ملك للجيوش بحسب الثقافة الناصرية، وقد تسقط الأوطان لكن المهم أن تبقى القوات المسلحة!
ثالثاً: إن المخابرات الأمريكية هي من صنعت خليفة حفتر على «العين والحاجب»، وهي التي أقلته زائرا إلى واشنطن لأكثر من عشرين سنة، وهو ما أكده تقرير لوكالة رويترز استناداً إلى مركز أبحاث أمريكي قال: إن حفتر على علاقة قوية بها، فكيف يمكن للقوم الآن أن يعتبروه خليفة لخليفة عبد الناصر في الملاعب؟!
رابعاً: إنه بقيام الثورة الليبية، فقد أرسلته واشنطن ليكون رَجُلها المباشر، وليقوم بكل المهام التي يقوم بها الآن. وقد شارك في أعمال مسلحة ضد القذافي وجيشه (إذا سلمنا بصحة قيام الجيش الليبي)، فكيف لمن جاء لمهمة إسقاط القذافي أن يؤيده أرامل الزعيم الليبي؟
خامساً: إنه لا أثر للجيش الليبي بجانب خليفة حفتر والدليل إنه عندما عاد من واشنطن وشكل ما سمي بجيش التحرير كان من المتطوعين الهواة يفتقدون للخبرة القتالية.
الشاهد: إن ليبيا كانت بلا جيش عندما قتل القذافي الذي كان يعتمد في حراسته على المرتزقة الأفارقة، وقد رقى نفسه إلى رتبة العقيد، ثم جعلها أعلى رتبة داخل الجيش، وإذا افترضنا أن خليفة حفتر حصل على هذه الرتبة العظيمة «عقيد»، في عهد القذافي وقبل أن يبيعه في موقعة «وادي الدوم»، فمن رقاه لرتبة المشير، وهي رتبة لا يصل إليها المرقي إلا من قبل القائد الأعلى للقوات المسلحة؟!
بيد أن خليفة حفتر ولأنه عقلية معملية فذة، فقد نجح في أن يدخل الغش والتدليس على الناس فيصدّقون أنه خليفة القذافي وامتداد له، وأنه قائد الجيش الليبي فعلا وليس مجرد لافتة لتمنح الترخيص بمزاولة المهنة للمليشيات المسلحة.
لقد نجح جزئيا بفضل عقليته العلمية المعمليّة الفذّة، فهرب من الهزيمة بموضوع التفويض، لكنه سيكتشف أنه هروب مؤقت، وأن ذكاءه قد خانَه، وهو يعلن قبوله لتفويض الشعب الليبي بإدارة أمور البلاد، تماما كما كان يخون العالِم الكبير «أحمد بدير» ذكاؤه في مسلسل «أريد عروسة»، ويقع في شَرَك من كن يخدعهن باعتبارهن تنطبق عليهن المواصفات المطلوبة: «عقلية علمية معملية فذة.. اثنين دكتوراه، وخمسة ماجستير، عينها خضرا.. وشعرها أصفر»، فليس في كل مرة تسلم الجَرّة!