طرقت كرورنا أبواب بيوتنا لتأمرنا بالالتزام بها كما طرقت أبواب قيمنا كمغاربة مقيمين بالمهجر، لنتذكر أولا أننا مؤقتا أحياء على هذه الأرض وضعفاء جدا، قد نتعرض للإصابة بهذا الفيروس الأضعف منا لكن الفتاك بنا في أي لحظة، ومن خلال أي حركة سواء اتبعنا فيها كل وسائل الحيطة والحذر منه أم لا، فهو فيروس ذكي يجد دائما منفذا لقبض روح ضحيته.
لكن في المقابل، أظهرت كورونا أن معدن المغاربة ما زال يتصف بكل القيم النبيلة كحب الخير للآخر والشعور بحاجته والتآزر معه في ساعات المحن والشدائد، إسهاما في مساعدته وتقديم يد العون له بما تيسر من مال وجهد. غير أن هذه الالتفاتة لم تسلم من عيوب أهمها أنها لم تُقدّر خطورة الجائحة فتعاملت معها كما تتعامل مع أي نكبة أخرى، متبعة ذات الوسائل التقليدية في جمع المساعدات وتوزيعها على هؤلاء المحتاجين المفترضين في شكل “كراتين” و”قفف” (جمع قفة) من الأرز والزيت والصابون وغيرها من الحاجيات التي قد تشكل وجبة ليوم أو بضعة أيام، مع ما يترتب على تلك العملية من ضرورة تخزين ونقل وتوزيع واحتكاك قد تفاقم نشر الداء من حيث تحاول مساعدة مَن منعتهم ظروفهم من الاستمرار في كسب الرزق، مثل شريحة كبيرة من البدون أوراق، الذين يحتاجون إلى مساعدة عاجلة لا تقبل التأجيل.
هذه القُفف الكورونية، حذرنا منها لأنها قد تصبح هي أصل الداء أو رسول الموت “شكلا وليس مضمونا”، وقد فصلنا فيها في مقالين سابقين بما يكفي لكل ذي عقل وفهم سديدين، واقترحنا توزيع مبالغ مالية بدلها على المتضررين يتصرفون فيها باقتناء ما يلزمهم من غذاء ودواء في ظل ما تسمح به ظروف الطوارئ الصحية من تنقل من أجل التبضع، والتنسيق مع جمعيات مختصة في توزيع الغذاء والدواء على من لا يستطيعون ذلك من العجزة وكبار السن، لتفادي نقل الإصابة بالفيروس إليهم أو منهم من طرف الفاعلين الجمعويين، الذين قد يتهاونون لسبب أو لآخر في اتباع كل الاحتياطات الضرورية من الفيروس.
هذا كلام عام وغير موجه لشخص أو فئة بعينها وليس ضربا تحت الحزام أو تبخيسا لجهد أحد، وإذا كنت أنتَ -نعم أنتَ- تصرُّ على أن هذا الكلام موجه إليك وفقط إليك، فاتهم نفسك، فليس من طبعنا اتهام الناس لجهلهم بقواعد الخطاب العام.
لكن ثمة ظواهر غير بريئة أبدا ظهرت مع ظهور هذا الحراك “التآزري”، وهي ظواهر ملاصقة لكل المحن والشدائد التي تمر منها البشرية. فكما تطفو في زمن الحرب فجأة فئة تثرى بالحرب يطلق عليها عادة أغنياء الحروب، وتثرى فئة أخرى بالحصار تسمى بأغنياء زمن الحصار، هناك فئة تريد جاهدة أن تثرى بسبب هذه الجائحة، لا يمكن أن نطلق عليها سوى “أغنياء كورونا المحتملين”.
ملاحظات عدة يمكن أن يلحظها المتتبع لهذا الملف دون عناء وبدون كثير جهد، معظم المبادرات “الطارئة” في زمن كورونا هي مبادرات من لا علاقة لهم أصلا بالعمل المدني الخيري، لا أتحدث هنا عن الجمعيات المغربية أو الأوروبية أو غيرها التي لها باع طويل في العمل الخيري والتي أثبتت كفاءتها فيه، ومعروفة إنجازاتها للمجتمع والسلطات التي منحتها تراخيص بذلك. بل حديثي مقتصر على المبادرات الفردية التي يقوم بها أشخاص لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالعمل الخيري، وأكثر من ذلك لا صفة لهم للخوض في هذا الفعل (الخيري)، اللهم إن كان نشاط تحصيلهم للمال يتم في نطاق ضيق خاص بأسرهم أو معارفهم أو زملاءهم في العمل أو ما شابه. أما أن تصبح دعوتهم للتبرع مفتوحة على الجميع على صفحات مواقعهم الافتراضية وحساباتهم دون تخصيص فئة معينة بالذكر، ودون تحديد رقم حساب مخصص لمثل هذا الغرض مسجل لدى السلطات كحساب جمعية مدنية أو منظمة أو هيئة من حقها قانونيا جمع التبرعات، فهنا من حقنا أن نطرح الأسئلة ونضع في نهايتها علامة استفهام كبيرة!
سؤال آخر مهم، نرى فقط دعوات هؤلاء الأفراد للتبرع لحالات معينة هنا وهناك معظمها ويا للمصادفة في المغرب!!! لكننا نعدم الوسائل التي تؤكد لنا أو تنفي وجود مثل هذه الحالات فعلا، ومبالغ التبرعات المتحصل عليها، وهل وصلت هؤلاء المعوزين “المفترضين” فعلا كاملة أو منقوصة، أو لم تصل أبدا، وإلى أي حسابات أو “مخدات” تم تحويلها، سواء هنا بأوروبا أو في المغرب؟
أسئلة نطرحها ونحن نرى ظاهرة التباري في جمع التبرعات قد اكتسحت الفضاء الأزرق مثل “سوق دلالة” أو “جوطية مغربية”، كل من لا شغل له أصبح “يُبَرِّحُ” فيه: “شكون قال، حالة في الدار البيضاء”، “شكون آخر حالة في حي Laeken”، وهكذا تتوالى الحالات، وتتوالى التبرعات بعدها بكل تأكيد، ولا دليل على الحالات التي تطلب الإعانة ولا دليل على توصلها إن وُجدت بتلك المساعدات فعلا.
ويكفي أن يطلع المرء على كم الفيديوهات والتصريحات والكتابات والشكايات التي تتوالد على منصات العالم الافتراضي، ليكتشف كمّ المتاجرة بمآسي الناس، وكمّ التحايل والنصب عليهم، وكمّ الذين وجدوا في كورونا وقبل كورونا مناسبة للإثراء غير الشرعي، الإثراء لا غير.
من يراقب ويحاسب هؤلاء المرتزقة الجدد، لا بارك الله لهم ما يأكلونه في بطونهم سحتا.
-يتبع بالمرتزقة الجماعات-