باحث وناقد فلسطيني
شكلت الجموع حالة لغوية متنامية في أصول الاشتقاق وعلم المعاجم، وكان القياس والسماع مصدرين رئيسين لهذه الجموع، فهناك أوزان مطردة القياس، نحو فعيل؛ تجمع على فعلاء، ولكن في المقابل هناك جمع خاص لفاعل، يجمع على فعلاء، فما كان على وزن فاعل ودل على غريزة أو سجية، يجمع على فعلاء، نحو: عاقل تجمع على عقلاء، وعالم على علماء.
غير أن هناك جموعا خالفت الشرط السماعي، مثل بؤساء فرضت نفسها بقوة، فوجدنا المجمع اللغوي في القاهرة يجيز جمع فاعل على فعلاء؛ شريطة أن يكون قد دلَّ على ما يشبه الغريزة أو السجيّة في الدوام وطول البقاء، واتخذوا على ذلك مثالا: جمع بائس على بؤساء.
وهكذا.. وجدنا بعضا من التجديد في الجموع، لا يتسع الوقت لسرده.
وهو تجديد محمود حينا، وحينا نراه مقبولا.
فحينما ترجم شاعر النيل حافظ إبراهيم رواية فيكتور هيجو ومنحها عنوان البؤساء، وجدنا معارضين لهذا الجمع وغاضبين أيضا، ولكن الجمع على فعلاء جاء لصيقا بالمعنى ومنحه نوعا من الدلالة التي تبعث على الحداثة والجدة، بخلاف لو أن إبراهيم منحها جمع “البائسون”، وهو في ذلك اقترب من السماع، بئيس تأتي بمعنى بائس، وبذا فإن الجمع كما نرى، كان مقبولا ومحمودا، ورفد معجم الجموع جمعا جميلا.
غير أننا رأينا في واقعنا المعاصر جموعا جاءت على غير القياس، ووقعت شاذة في مادتها.
وشكل مدراء جمعا لمدير خير شاهد على هذه الجموع الشاذة، والأصل في مادة مدير: مُدْوِر، وهي على وزن مُفْعِل، حدث إعلال بالنقل، فنقلت حركة العين إلى الفاء -نقلت الكسرة من الواو إلى الدال- ثم أُبدلت الواوُ ياءً. ووزن “مُفْعِل” لا يجمع إلا على “مُفْعِلون”، فجمع مدير مديرون.
لكن في غفلة من عين الصواب والدقة انتشر جمع مدراء، ووجدنا المجمع اللغوي هذه المرة يحتال لتمرير هذا الجمع، تحت هذه الذريعة: “أنه في الوسع قَبول نظائر الأمثلة الواردة على توهّم أصالة الحرف الزائد، مما يستعمله المحدثون إذا اشتهرت ودعت إليها الحاجة”.
لكننا وجدنا صحوة لغوية بدأت ترفض هذا الجمع الشاذ وترفض هذا التسويغ، فباتت المكاتبات والمراسلات تعنون بـ: السادة المديرون العامون. وبدأت الصحافة المتحرية للدقة تنشر: مديرو المناطق، مديرو المدارس.
ومن تلك الجموع الشاذة جمع تَفْعِلَة على فَعائل، نحو تعزية على تعازي، وتحية على تحايا، فلا يوجد وزن تفاعِل، فيجمعونه خطأ على فعائل، بتوهم التاء الزائدة فاء أصلية .وكذلك جمع فِعالة على فعائل، نحو حكاية على حكايا.
ولو أنعمنا النظر نجد أن أهلَ اللغة في معاجمهم -وكذلك أهل النحو والصرف في تآليفهم- لم يجمعوا تَحِيَّة على تَحايا.. وكذلك لم يجمعوا حكاية على حَكايا.
إنما تجمعان عندهم على تحيات وحكايات.
وذكرها المعجمُ الوسيط -معجم مجمع اللغة العربية في القاهرة- في باب الفعل: تَحايا القومُ، أي حيّا بعضهم بعضا، والفعل هنا جاء على وزن: تفاعَلَ.
ووردت تحايا في لسان العرب، ضمن مادة أَبَيَ: في تفسير قول عبد المطلب “أَبَيْتَ اللعنَ”:
هذه من تحايا الملوك في الجاهلية والدعاء لهم، معناه أبيت أن تأتي من الأمور ما تُلْعَنُ عليه وتذم بسببه.
ولم يذكرها في باب الجذر: “حَيَيَ”.. والعبارة “هذه من تحايا الملوك” تفسير لقول عبد المطلب، وليست قولَه، وقد نقلها ابن منظور عن أهل غريب الحديث، فهو أثر مذكور في “النهاية في غريب الحديث والأثر”.
ويوردها ابن منظور في موضع آخر: هذه من تحيات الملوك، وترد في مواضع عند غيره: هذه تحية الملوك.
وتحية على وزن تَفْعِلة، والأصل فيها: تَحْيِيَة، مثل: تَزْكِيَة، لأن الفعل حيّا، كالفعل زكّى.
حدث في تحية إعلال بالنقل، فَنُقِلَتْ حركة الياء الأولى إلى الحاء، ثم أدغمت الياء الأولى التي سُكنت بالياء التي بقيت مفتوحة، فأصبحت: تَحِيَّة. وتجمع على تَحِيّات.
ولا يُجْمَعُ وزن تفعلة إلا على تفعلات، كما في تزكية: تزكيات، وتنشئة: تنشئات.
وأما حكايا جمعا لحكاية، فلم يوردها أيٌّ من أهل المعاجم أو النحو والصرف.
فوزن فِعالَة لا يجمع إلا على فِعالات، كما في رواية على روايات. ولا يجوز أن تجمع على رَوايا. كذلك حكاية لا تجمع إلا على حكايات.
ووجب الإشارة إلى أن هناك فرقا بين ما كان على وزن فعيلة وجمعه على فَعائل كما قضيّة وقضايا ورعيّة ورعايا، فهذا وزن قياسي، حدث إعلال في مفرده وإبدال في جمعه، وبين تفعلة وتفعلات.
ولقد التبس الجمعان، فوجدنا قياس تحية على قضية؛ على غير أصول أو سماع.
ولم يرد الجمعان في شعر الفحول والمجوِّدين..
غير أن شعراءنا المعاصرين، وخاصة في مواقع التواصل يكثرون من استخدام الجمعين -تحايا وحكايا-.
كما يكثر في مناسباتنا الاجتماعية استخدام تعازي وتهاني، والأصل فيهما على ما بيناه أن يجمعا على تعزيات وتهنئات.
قد يرى بعض الباحثين عن الجدة والحداثة لأجل الجدة والحداثة، أن أُلفة هذه الجموع الشاذة تمنحها صلاحية استخدام، ومسوِّغ انتشار، وقد يتوهم بعض الشعراء أن تحايا مفردةٌ فيها شاعرية، وحكايا كذلك.
وقد يذهب بعض دعاة التطوير إلى أن اللغة كائن متطور، وأن التطور والتطوير يفسحان المجال لاعتماد الجموع الذائعة حتى لو خالفت الأصول والقياس والسماع.
غير أن فتح الباب في هذا ولو على مصراع واحد سيؤدي إلى التخليط والتشويه وذوبان اللغة الفصحى وتمييع اللغة الفصيحة.
المصادر والمراجع:
معجم الصواب اللغوي: د. أحمد مختار عمر بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، القاهرة، لطبعة: الأولى، 1429ه- 2008م.
لسان العرب: ابن منظور (ت 711هـ)، دار صادر: بيروت، الطبعة الثالثة: 1414ه.
معجم الوسيط : مجمع اللغة العربية بالقاهرة (إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار)، دار الدعوة.
النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير (ت 606ه) المكتبة العلمية: بيروت، 1979م.
كتاب الألفاظ والأساليب: مجمع اللغة العربية في القاهرة.