تأسيس جمعية ثقافية..
كان الرجل واضحا في عرضه، واضحا في طرحه، واضحا معي ومع ما أُسهم به من حراك ثقافي إبداعي في بلجيكا بدون درهم ولا دينار ولا يورو، فماذا لو أتيحت لي عناية من جهة ما لا يمكن أن تكون إلا جهة مغربية رسمية أو شبه رسمية؟ فالمشروع الثقافي الفكري الذي أطلقته بمعية بعض الشرفاء من المغتربين تربصتْ به منذ انطلاقه جهات غير مغربية، منها المعادية لتأثير الرؤى المغربية في بلجيكا وأوروبا عموما، ومنها التي تبدي توافقا معها وتبطن أشياء أخرى، لكننا رفضناها جميعها، فالثقافة والفكر يجب أن يكونا منسجمين مع الهوية والأصول الوطنية والانتماء الروحي المعتدل الذي تميز به المغرب طوال تاريخه، وأي إخلال بذلك الانسجام التاريخي إنما هو ردة على المواطنة وردة على الاعتدال، وردة على نشر قيم التسامح وردة على قبول الآخر المختلف.
بدأت في التواصل مع بعض أعضاء المقهى الأدبي الذين أثبتوا إيمانهم برؤيته وتصوراته وخطه الثقافي، منهم من بدأ معي منذ انعقاد أوائل دوراته ومنهم من التحق بعدها لكنه أثبت صدقه، فالعبرة ليست دائما بمن سبق وإنما أحيانا كثيرة بمن لحق وصدق. غير أن ما حدث هو أنه انفجرت في وجهي مشاكل لم تكن لتخطر لي على بال، ولم أكن لأتوقعها يوما على الإطلاق.
أولى التهم التي صدمتني ممن كنت أرى فيهم أعمدة للمقهى الأدبي هو أنني أنا “كأحمد حضراوي” قد بدلت ثوبي، وباللهجة المغربية “قلبت الفيستا” وأصبحت عميلا للمخزن و”عيّاشا”. حين أرغمت من اتهمني بهذه التهم التي لا يحسن حتى فهم معانيها اكتشفت أنه يعني أن مجرد التعامل مع مؤسسة مغربية هو في حد ذاته عمالة. حاولت أن أشرح لصديقي “المناضل” الذي اتهمني بما لا يفهم، بأننا مواطنون مغاربة كاملي الأهلية والمواطنة، وبأن تلبية دعوة جهة رسمية توسمت فينا ثقافة وشعرا وفكرا لا يعتبر عمالة بل تلبية لواجب وطني من خلال إبراز كفاءات مغربية مهجرية وتواصلها مع الداخل المغربي من خلال قنوات رسمية بعيدة عن كل محسوبية أو تملق أو طمع في ريع ما، فقد تعاملت معي كمثقف وشاعر، وتعاملتُ معها كمؤسسة دستورية، بمعنى أن الاتهام كله مبني على حقد قديم تجلي في ساعة نضال، لم يكن هذه المرة إلا نضالا يساريا متعفنا في ميدان حانة في حي خلفي، أمام قوارير جعة حتى وإن كُتب على “ماركتها المسجلة” حلال.
ولماذا كل هذا؟ ليست فقط للمساومات التي تلقيتها من مثل هذا الشخص معتقدا أننا ذهبنا إلى محجة الرياض لنملأ جيوبنا بالمال “الحرام”، ومطالبا إيانا بتعويض عن كل ما زعم أنه قد أنفقه على المقهى الأدبي منذ التحاقه به، وإنما لأن وراء الأمر ما وراءه. فالأعجب في تلك القصة كلها هو أن تجد سيقان لقلاق نضالاته قد انتقلت فجأة إلى طلب صداقة الدكتور عبد الله بوصوف على الفيسبوك وصداقة زوجته أيضا أو قبولهما، والتحقت بكوكبة المهنئين له على كل ما ينشره على تلك الصفحة المباركة، سواء من تهاني يوم الجمع والأعياد، أو تنظيراته التي لا تنتهي سواء كانت في السياسة أو الاجتماع أو علوم البكتيريا والطبخ الباريسي، وصولا إلى مواضيع أخرى أصبح ينظّر فيها لم تكن في واقع الحال سوى أفكار المشاريع التي تركت بين يديه حينما طلب مني أن أدونها له حبرا على ورق، أفكار سرقها بل سطا عليه جملة وتفصيلا وبدون أي وازع من ضمير.
فجأة أصبح أمين عام مجلس الجالية يضاعف نشاطه على الفايسبوك ويطلب صداقات العديد من أعضاء المقهى الأدبي الذين انفصلوا عنه في السابق لأسباب في معظمها تنحصر في حب الزعامة وتقليد النموذج، وأصبح ينهال على التواصل معها بعناية واستمرار لهدف لم تتبين دوافعه لي حينها، حتى أصبح المقهى الأدبي الأوروعربي بين ليلة وضحاها حديث كل ألسنة نخب الشعراء والمثقفين والفنانين والمهتمين بالإبداع، وأصبح له صيت غير صيت الإبداع والخَلق، فألصقت به تهم أخلاقية، وتحولت أثره الطيب في بلجيكا إلى “اتهامات تلحقه بمناسبة وغير مناسبة في شرفه وشرف أعضائه خاصة من الجنس الناعم”، وأصبحت التهديدات تطالنا صوتا وعبر رسائل نصية مكتوبة من أرقام هاتفية مجهولة وعلى حساباتنا على الفيسبوك، بل وتمادت أن بدأت تنهال علي حتى بصندوق رسائل بيتي كتابات ركيكة توجه لأسرتي وأهلي بأن ما أقوم به من نشاطات ثقافية إنما هي تمويه على نشاطات غير أخلاقية مشبوهة.
انقضت مدة أشهر والحملة المسعورة المجهول من يقف وراءها والمجهولة أهدافها وغاياتها دون أن تكل أو تمل، تورط فيها سرا كثير ممن كنا نتوسم فيهم الخير -نتحفظ على ذكر أسمائهم وفضحهم وهم يجهلون أن الله قد كشف لنا ما بذلوه من جهد لفضحنا-، غير أن الله الذين امتحننا بهم ورفع عنا بلاء أيديهم، رد سهام مكرهم إليهم فافتضحوا من حيث لم يحتسبوا وأصبحوا بعدها هم حديث الألسن لكن بحج قائمة عليهم، وأخرجَنا من هذه الفتنة كما أخرج يوسف من سجنه بعد مكوثه فيه بضع سنين.
تعرضنا لمعركة شرسة ضدنا، تبين أن من كان يديرها عن بعد هو الدكتور عبد الله بوصوف شخصيا، أما الأسلحة التي استعملها فيها فكانت الأسماء المحروقة في الساحة الثقافية البلجيكية، وبعض ممن كنا نظنهم جزءا منا ومن مشروعنا، استمالهم بالمال لاشك وبتشابه ضعفه وإياهم أمام كل الشهوات من تاء مربوطة وغيرها، معركة استغل فيها بعض المناوئين لضربنا فوق الحزام وتحت الحزام، انهزموا فيها هزيمة نكراء ولم تقم لهم بعدها قائمة، ليس لأننا كنا الأقوى أو الأصدق فحسب، بل انهزموا لأنهم اكتشفوا بأنفسهم وأنفسهم فقط، أنهم قد خاضوا معركة لم تكن معركتهم، وأنهم سيقوا إليها بحقدهم وغبائهم دون أن يفهموا دوافعها، بل ولا حتى أن يفهموا شيئا عن طبيعتها !
تأسست الجمعية قانونيا وأرسلت نسخة من قانونها الأساسي إلى عبد الله بوصوف، واستمر المقهى الأدبي في بث إشعاعه، وانحسرت موجة كل الكيانات الطارئة على المشهد الثقافي البلجيكي التي أرادت أن تصنع لها اسما على أطلالنا وتقرب سُمعتنا قربانا لصاحب مكتب محجة الرياض.
شيء واحد فقط لم ينحسر، هو تدوينات عبد الله بوصوف التي أصبحت تتحدث عن تأسيس كيان ثقافي أوروبي يشمل معظم الدول الأوروبية، وتتحدث عن تنظيم مهرجانات ثقافية على الضفة الأخرى، وتتحدث عن تأسيس وكالات خاصة بمغاربة الخارج في بلدان إقامتهم، وتتحدث عن الملتقيات الثقافية الصيفية لهم، وتتحدث عن ضرورة إنشاء قناة خاصة موجهة لمغاربة العالم، والأخطر من كل ذلك هو حديثه غير المنقطع عن المقاربة بين المثقف والسياسي حتى أصبحت حديثه اليومي. وتتحدث عن الأمن الروحي للجالية والذي لم يعد ينبني على نموذجه الإسلامي الذي فشل في تسويقه -وهو ليس من اختصاصه أصلا-، فخرج علينا بمفهوم قديم جديد لم يستعمله إلا بعد لقائه بي ألا وهو “التصوف الحداثي”، فقد أصبح حديثه عن التصوف كنموذج حضاري هو شغله الشاغل، حيث أصبح يدعو إلى خلق حركة صوفية ممتزجة بالثقافة.
الشيء المحير هو أن يتحدث ذو مرجعية إخوانية عن التصوف، والكل يعلم مدى عداء الإخوان للمتصوفة !!!
كان التصوف مشروعنا أيضا، وكان من أهم ما أثار شهية عبد الله بوصوف لتقصي أخباري وإصراره على لقائي.