قرأت الآن مقالا جديدا للكاتب الإسرائيلي الصهيوني يوفال نوا هراري عن كورونا فيروس والتكنولوجيا الرقمية. تحدث عن قدرة التكنولوجيا اليوم على مراقبة أكبر عدد ممكن من البشر، من خلال تعقب هواتفهم الذكية كما تفعل الصين، للحيلولة دون انتشار الوباء والتعرف على هوية الأشخاص الذين احتكوا بمصابين.
قرأت لهذا الشخص قبل عامين كتابا عن القرن الواحد والعشرين في ترجمته الإسبانية فوجدت أنه أحد الشياطين الجدد. لديه أفكار جيدة هي نتاج بحوث فرق عمل تقدم له وهو يصوغها، كما أشرت إلى ذلك قبل عام تقريبا، لكن أفكاره الأخرى يمكن وصفها بــ”الديانة الوثنية للعلم”. فهو النسخة الجافة والمتطورة للنزعة العلمية الحديثة التي تؤمن بالعلم فقط ولا تضع أي اعتبار للأخلاق أو الدين أو القيم. يقول مثلا أشياء غريبة مثل أن الضحك والحب والعواطف والمبادئ هي أمور بيولوجية، ومعنى ذلك أن التكنولوجيا الحديثة تستطيع التحكم فيها مستقبلا بحيث تتصرف فيها.
لكن مثل هذا الفكر فكر مهزوم من البداية لأنه يعتمد على معطيات مادية إذا سقطت سقط. هراري في مقاله مثلا يقول إنه لأول مرة في التاريخ تخضع البشرية لنفس الترتيبات réglementations، بهدف الحد من الوباء. فهو إذن يتحدث عن ترتيبات لا عن إمكانية إنقاذ البشرية. وظيفة التكنولوجيا إذن ضمان مراقبة البشر في هذه الحالة لا إنقاذهم. مثل أن تقول: وظيفة التكنولوجيا ليس أن تنقذك من الموت لكن أن تضمن لك جنازة مناسبة.
لكن هذه الوثنية العلمية المعاصرة لا تتحدث عن احتمالات المستقبل. نحن الآن في عام 2020، وبالنسبة لمن عاشوا في عام 1970 فنحن الآن مستقبلهم، هل كانوا يتخيلون مجرد التخيل أن يعيش جيلنا ما نعيشه الآن؟ لو قلتَ لهم آنذاك: سيأتي زمان يظهر فيه وباء غريب بحيث أن جميع سكان الكرة الأرضية سيلزمون بيوتهم ولن يخرجوا أبدا لمدة أسابيع، بل سيظهر رجال شرطة وأمن يعاقبون أي شخص يغادر بيته بالضرب والغرامة، ولن يكون هناك علاج سريع بل سيموت أطباء كثيرون سيفشلون في معالجة المرضى وفي معالجة أنفسهم، لو قلت لهم ذلك لسخروا منك.
اليوم ما كانوا سيسخرون منه صار حقيقة، لكن ماذا عن عجز التكنولوجيا غدا؟ ماذا عن انهيار شبكات التواصل بسبب كارثة بيئية طبيعية ودخول البشر في عزلة خطيرة مصحوبة بغياب المعلومات والأخبار بحيث يصبح الناس عميانا؟
الثقة الحقيقية في العلم هي أن نؤمن بأن المجهول لا ينتهي وبأن العلم يلهث وراء المجهول لا وراء المعلوم. العلم هو الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل التغلب على التحديات، التحديات التي تتحدى الإنسان.
لكن ماذا عن: التحديات التي تتحدى العلم؟؟
إنه سؤال إبستيمولوجي. بدأ الإيمان بالعلم في أوروبا بسؤال كانط الشهير: ماذا أستطيع أن أعرف؟ لكن كانط كان مقيدا في عقله بوضعه كمسيحي في مواجهة الكنيسة التي كانت لديها لائحة من الأمور التي لا يجب أن يقترب منها الناس، ولم يطرح السؤال الذي طرحه المسلمون قبل ذلك بقرون: إلى أي مدى يستطيع العلم أن يصل؟
كانط لم يكن قادرا على طرح هذا السؤال لأن مطالبه كانت مختلفة، ولأنه لم تكن لديه مرجعية، انتهت مرجعية الكنيسة، ورغم إيمانه بالمسيحية إلا أن الأناجيل أصبحت سمعتها سيئة بسبب الكنيسة، فما العمل؟ تحويل المسيحية إلى دين مدني (يعني غير كنسي لكن دينا) والإيمان المطلق بالعقل.
لكن العلم مخلوق من صناعة مخلوق، ينطبق عليه ما ينطبق على كل مخلوق: التعب والعجز و.. الخطأ، فماذا عن الأخطاء القاتلة؟