بنسالم حميش ينأى بالأمازيغية عن “العصاب العرقي والهرج الكلامي”

0
566

وسط البحر اللّجي للأمازيغية، يغوص الأكاديمي والروائي الدكتور بنسالم حميش، محاولاً في مقاله هذا أن يمسك العصا من المنتصف، محافظا ما أمكن على التوازن الذي يبتغيه، بعيدا عن كل السجالات، وعن كل “عصاب عرقي” و”هرج كلامي” كما وصفهما..
نحو أمازيغية ميسّرة، يسير حميش في مقاله سيراً حثيثا لإنهاء جدلٍ طال أمده ومازال لم ينته إلى الآن..

نحو أمازيغية مُيسّرة:
تقديم:
إذا صح ما أُوصف به من كوني متعدد اللغات، أكتب باثنتين وأُحسن ثلاثا (والرابعة آتية)، فالفضل يعود إلى نزوعي الشخصي وفضولي الغريزي وأيضا وبالتأكيد إلى سلسلة ASSIMIL ذات خيار بيداغوجي يقضي بتعليم اللغات من دون تعب ومشقة؛ وقد نهلتُ منها كثيرا وكانت لي عونا وسندا. وسبق لي أن اقترحت على بعض أعضاء “الإيركام” وخارجه أن يتبعوا ذلك المسلك في تعليم الأمازيغية أو فرع آخر من فروعها، وذلك تفعيلا للحديث النبوي الشريف “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”، واقتداءً بكتاب الأستاذ الرائد محمد شفيق “أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية”، الصادر عن دار النشر العربي الإفريقي سنة 1991. وأنا مدين لهذا الكتاب الميسِّر في ما استطعت تعلمه من “تشلحيت” كما سماها العالمان الحسن اليوسي والمختار السوسي، نفعنا الله بذكرهما وتراثهما، وذلك لأن المؤلَّف ذاك مكتوب كله بالحرف العربي، وكذلك الشأن في “المعجم العربي الأمازيغي”، هذا علاوة على مؤلفه بالغ الفائدة والتيسير كأعمال أستاذنا المذكورة، وهو “الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والعربية” الآتي ذكره.
ومؤدى كلِّ ذلك أن تلك الأعمال لو كانت مكتوبة بحرف تيفناغ الذي لا تاريخ له ولا تراث لتعسرت عليَّ القراءة واستحال التحصيل والفهم، وكذلك يكون الأمر عند جمهرة مَنْ دعاؤهم: “قل ربي زدني علما وزدني لغة”.
وبناءً على مبدأ منع المنع لنترك للمهتمين حرية اختيار الحرف الذي ييسِّر لهم تعلم صنف من الأمازيغية عبر أسهل الطرائق وأنجعها. وليس لأيٍّ كان أن يحرِّم عليهم حريتهم ويملِّكها حصريا لدعاة الحرف التيفناغي. وحجة أولئك الدامغة أن لغات شتى تكتب بالحرف العربي، كالفارسية والأوردية والكردية وحتى التركية، قبل أن يقدم مصطفى أتاتورك على استبداله بالحرف اللاتيني وإقامة النظام اللائكي ومنع شعائر الإسلام وألبسته والعمامة وكذلك الطربوش.

عن المكوّن الأمازيغي ووضعه:
في ذلك السياق الذي نحن بصدده، يصح القول إن ذلك المكون، الذي هو أحد مكونات شخصية المغرب القاعدية، لا يمكن موضوعيا تقديمه على أنّه مكوّن هذه الشخصية المحوري أو مكونها الأم، اللّهم إلا إذا تصورنا الهوية على نحو حصري لا متحرك؛ ذلك لأنه قد يحق للمحللين أن يقفوا اليوم عند نسبة الناطقين الأحاديين بهذه اللهجة الأمازيغية أو تلك، معتبرين عددهم محدودا في شريحة شائخة أو في مناطق معزولة تماماً عن الحواضر والتمدن. ولعل هذا ما قصد إليه الباحث الأكاديمي محمد شفيق حين سجل هذه الملاحظة المهمة جدا: «من المعلوم أن مصر، مثلاً، استعرب سكانها في ظرف زماني وجيز، والسبب هو تجمع السكن فيها. أما المغرب –والمغرب الأقصى خاصة– فما زال استعرابه غير مكتمل بعد إسلام الأمازيغ بأكثر من ثلاثة عشر قرنا. والسبب هو حالة البداوة وضعف التمدن في جل مناطق البلاد، أي تشتت السكن» (الدارجة المغربية… ص6). إنها حالة البداوة إذن وضعف التمدن: وعليه فلا مجال ليخطئ أولئك المحللون إذا رصدوا أن اللهجة الوحيدة المتداولة فعلياً على أوسع نطاق تمثيلي، ومن دون إقصاء لأي مجموعة، هي العامية المغربية، كتركيب تمازجي بين الفصحى واللهجات الأمازيغية، كما تدل عليه أعمال معجمية ودراسات، وكما يدل عليه أيضاً عمل محمد شفيق المشار إليه: “الدارجة المغربية: مجال توارد بين الأمازيغية والعربية”، وهو عمل مهم ومفيد، ولو أن السبق إليه يرجع إلى المختار السوسي في كتابه المخطوط الألفاظ العربية في الشليحة (ولا يذكره ذ. شفيق)، حيث يحصي ما لا يقل عن ستة آلاف لفظة.
بعيدا عن كل الأسئلة التي قد تغدو موضوع سجالات إحصائية لا ضابط لها ولا مخرج، لنحاول بالأحرى –متجردين عن كل عصاب عرقي وكل هرج كلامي– أن نفكر معاً في قضايا أكثر أهمية بالتأكيد، من شأنها أن تخصب حوارا متحضرا، وأن ترغبنا في إسداء أحسن الخدمات للثقافة المغربية ككل لا يتبعثر ولا يتبعض.
الأمازيغية، كما يكتب ويقال، أقدم بقليل من الأهرامات ومن أبي الهول. والأمر يتعلق هنا، على الأصح، بـ”التَّركَية” لهجة قبائل الطوارق الرحل ذوي نمط العيش الصحراوي والبدوي الخالص. لكن حتى لو سلمنا جدلا بأن ذلك القول ينسحب على الأولى بأي تخريج كان، فالسؤال المُشْكِلُ يكمن بالأساس في التساوق البنيوي بين لهجة أو حتى لغة ذات عمر مديد وبين خصاص هائل عويص، متمثل في انعدام شبه مطبق لأي حضور مكتوب ولأي امتداد ثقافي قابل للقراءة. ولعل هذا ما يشير إليه ذ. شفيق عطفاً على ما ذهب إليه بعض الدارسين الأجانب، إذ يسجل: «وقد استنتج اللغويون، أمثال براس Prasse وباسي Basset وغيرهما، من استقرار القواعد الجوهرية في النحو والصرف ومن ثبات الرصيد المعجمي أن اللغة الأمازيغية تتميز باستمرارية ملحوظة، رغم أنها تخلت عن أبجديتها الأصلية (تيفيناغ) منذ اثني عشر قرنا ونيّف، ورغم أنها لم تكن تكتب إلاّ نادرا طوال هذه القرون المديدة» (المعجم العربي الأمازيغي ص9).
ونعلم أن المختار السوسي اشتكى في مؤلفه “إليغ قديما وحديثا” من أن شأن هذه المنطقة «في مناضد التاريخ المكتوب ضئيل جدا. وما ذلك إلاّ بسبب التفريط المستولي على أطراف المغرب من قديم […] ولا يعلم إلاّ الله ما كنت أعاني من الجهود بادئ ذي بدء، لعدم المراجع عدماً تامّاً» (إليغ ص11)؛ هذا مع أنه في خاتمة كتابه “سوس العالمة” يرى أن أشعار الشلحيين (وهي نسبيا حديثة العهد) تشكّل مصدرا يعول عليه في التأريخ السوسي.
إذا ما تمثلنا واقع ذلك الخصاص المعوِّق، فإنه لا يمكننا الكلام موضوعيا عن الثقافة الأمازيغية بالمعنى التراثي إلاّ ضمن تشخيصها وتفعيلها من طرف لغة الضاد وتاريخ محمولاتها المدلولية والحضارية.
مغربيا، الفوارق بين اللهجات المشكلة للأمازيغية (تاشلحيت، تامزيغت، تاريفيت) قائمة فعلاً بالتعدد والاختلاف، كما يقر باحثون جامعيون (عبد اللَّه بونفور، أحمد بوكس…) ولا تهوّن من واقعها المعيش اجتهادات آخرين (كالمحمدين شفيق والشامي، وغيرهما)؛ فهذا الأخير، حتى نُنَوِّعَ الإحالات، يقر من حيث المبدأ أن «التعدد داخل اللغة ظاهرة صحية»، ويستشهد في ذلك بجملتين بتاريفيت: «يكّارد ومقران ذايسن» و«تّا تّاكمريوت ءيمقرانن»، أي تباعاً «قام الرجل» و«هذا هو الصيد الحكيم»، ويورد مقابليهما في القبايل والأطلس وسوس، فيظهر جليا للعيان تباينهما اللفظي وحتى التركيبي، وكذلك الشأن في وفرة وافرة من الألفاظ نستقي عيّنة منها عند الباحث نفسه في اللوحة التالية:

إنها إذن فوارق تبرز على أي حال من جهة استعمالات غالبية الناطقين بتلك اللهجات وممارسيها، كما كانت وما انفكت إلى حدّ ما تشهد به نشراتها الإخبارية السمعية – البصرية، وكذلك مادة “بربر” في “أنسكلوبيديا يونيفرساليس”، حيث يذهب ليونيل غالان إلى هذا الرصد: «إن البربرية كانت إذن سيئة العدة لمقاومة القوى التي تهدد كل لسان. وهكذا انفجرت في ذرور (أو غبار) en une poussière من اللهجات التي لا تمثل أي واحدة منها البربرية…». ومن هذا التعدد الفائق يدرس روني باسي عينة يحددها في أربعين لهجة ولهيجة، وذلك في كتابه “اللهجات البربرية”.
وأمام واقع هذا التعدد والتنوع رأى بعض الجامعيين “المستمزعين” أن المهمة “العلمية” تكمن في خلق كيان لغوي مخبري موحد، يتخذ له كأنموذج معياري تمازيغت التواركَ (تماشقت، طماشق) وهي لسان أجداد الطوارق، قريبة من اللسان المصري القديم الذي ما زال النوبيون يتحدثون به ما بين جنوب أسوان ودنقلة السودانية. ويمكن لتلك “اللغة” المستجمعة المسترجعة أن تصلح مبدئيا فقط كمادة مرجعية ونسق أساس، وذلك بعد أن تتجاوز أو تذوِّب الاختلافات المعجمية والتركيبية والصرفية والفونيتيكية بين تلك اللهجات وحتى بين اللهيجات المنحدرة منها.
غير أن ذلك المشروع، وما سواه من المشاريع المنافسة أو البديلة المعوِّلة في مجملها على كويني koïné أو “اسبرنتو بربري”، لا بدَّ أن فرضه قسريا من الفوق يصطدم بصعوبات ميدانية وتداولية جمة، وبعقبات تطبيقية كأداء، وذلك، أولاً، لأنه يضرب في الصميم مبدأ التعددية ومفهوم “اللغة-الأم” اللذين يتعبدهما الكثير من الدعاة الأمازيغ في مجمل خطاباتهم التبريرية المعروفة؛ وثانياً نظراً لكون المشروع نفسه يعارض حق كل مجموعة جغرافية وجهوية في التعلق بلهجتها وتعوّدها العريق على سماعها والنطق بها. وكل هذه العوائق الموضوعية وغيرها تحدو بالعارفين المدققين إلى اعتبار ذلك المشروع متعذراً بل مستحيلاً (كما يذهب إليه عبد اللَّه بونفور وآخرون). وكل مستسهل لهذا الأمر من باب ما حصل للهجة قريش العدنانية من غلبة على ما سواها في الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية وخلالها، لا بدَّ له أن يتمثل الشروط الدينية المحيطة بتلك اللهجة (من أقواها نزول القرآن بها) وكذلك تباين الظروف التاريخية واختلافها عموما، وذلك حتى لا يتيه ولا يشتط…
تسمية مختلف عليهاـ:
ويجدر أيضا التنبيه إلى أن الأمازيغية التي هي لهجة مناطق الأطلسين المتوسط والكبير الشرقي في المغرب، لا يمكن إطلاق اسمها على لهجتي سوس والريف إلاّ مجازيا وتجاوزاً، وليس من باب الإنصاف الإقليمي والدقة الاسموية (أونوماستيك)؛ ومثل ذلك في الجزائر حيث القبايلية لا يمكن أن تقوم مقام الشاوية أو المزابية، كما لا يصح موضوعيا أن تقوم هذه أو تلك مقام التواركَية بالصحراء الكبرى من السودان إلى موريتانيا، إلخ. إن التسمية الجامعة المانعة –والمتعارف عليها عند المؤرخين المسلمين والأجانب منذ قرون– هي البربرية (بترقيق الباءين لا بتفخيمهما) نسبة إلى قبائل البربر المتنوعة المختلفة، فعنوان موسوعة ابن خلدون التاريخية هو “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وكذلك الشأن في اللغات الأجنبية جميعها، ولا أدل على ذلك من أن الراحل بيير بيرجي منشئ Le Musée Berbère بمراكش رفض جازما أن يسميه بغير هذا الاسم؛ وكنت شاهدا على حرصه هذا إذ رافقته كوزير للثقافة آنذاك في تدشين المتحف البربري المذكور.
إنها إذن تسمية لا مبررَ ولا مسوغَ، من جهة التاريخ والمعرفة، للإحجام عن تداولها بدعوى أن دلالة قدحية أو سلبية مَّا لصيقة بها، وإلاّ لوجب تغيير تسميات كثيرة للسبب عينه، وهذا محال، ومنها على سبيل المثال فقط: الإثيوبيونAethiopos وهي التسمية التي تعني في لغة اليونان “أصحاب الجلد الغامق”؛ السلافية، ومعنى السلافي لغةً العبد والمملوك sclavus باللاتينية وsclavos باليونانية، كما الحال بالنسبة للمماليك البحرية والبرجية حاكمي مصر وسوريا من 1250 إلى 1517؛ هذا علاوة على العبرانية المشتقة من Habirou/Habiri، وهي كلمة تعني الرحل العابرين وغزاة كنعان؛ وحتى العربية (التي راج اسمها في بلدان أوروبية عنواناً للغموض وسوء التعبير algarabia بالإسبانية و charabia بالفرنسية) فإنها لغة العرب الذين اشتُقت تسميتهم، حسب دارسين، من أصل عبري يعني العبور والعيش غير القارِّ المنظم. ويرى آخرون، وهو الشائع، أن الكلمة من فعل عرب أي بدا، ومنه بدو وأعراب، والعرب بدورهم سمّوا أصحاب كل لسان لا يفهمونه: العجم والأعاجم؛ وسمى اللاتينيون العرب المسلمين السرازان في العهد الوسيط المتقدم، ومعنى الاسم الشرقيون، ومنه اسم القمح الأسود، وكانت تلك التسمية إذ ذاك عادة ما تطلق مقرونة بنعوت سلبية في أدبيات ذلك العهد، كما في أنشودة رولان وغيرها Gentem perfidam Sarracenorum، وقس على هذا الاسم المور والموريسك الذي يعني عند واضعيه المبرنز أو الأسود؛ ليس هذا وحسب، بل إن البربر وغيرهم سمّوا من استعصى عليهم فهم لغتهم من الوافدين من جنوب الصحراء: كَناوة ومفرده كَناوي وهو أونوماطوبي لما لا يفهم كلامه كما أن كلمة گريگو مشتقة من إغريق وبوگر من بولگار، إلخ. لذا قال بعض اللسانيين إن اللغات عموما عنصرية.
لذلك كله -ومن باب أن الشيء إذا تكرر تقرر- قد يحسن، على الأقل، الكلام عن الأمازيغيات بالجمع أو بالتعدد لا بالمفرد، تجنباً لأي احتكارية أو تحكمية. فكما يسجل جاك بيرك: «آيت مزيغ أصحاب الاسم الواعد (لأن أمازيغي، حسب البعض، هو “الإنسان الحر”) يضم الكثير من الأصناف المتنامية plusieurs variétés de thymus». وحتى لفظ أمازيغ (غير الوارد في كتابات المختار السوسي، ولا لفظ الأمازيغية، إذ الثابت عنده، كما عند الحسن اليوسي وأجروم هو مصطلح “الشلحية”، والشلوح هم سكان الأطلسين الكبير والصغير)، فحول معناه اللغوي كلام كثير، لعل من أطرفه ما ذهب إليه محمد شفيق في نبش فيلولوجي جدير بالإيراد، قال: «أما كلمة أمازيغ فعادة ما يفسرها اللغويون بالإنسان الحر النبيل، وحتى نكون موضوعيين فأنا أشك في هذا المعنى وأعتقد أن المدلول الأصلي للأمازيغي هو الشخص الذي يغزو بشكل مكثف، لكون إيمازيغن يعتبرون الغزو شيئاً محموداً». وهذا المعنى يسجله ابن خلدون أيضا بهذه العبارات: «ومعاش المعتزين [من بربر العز] أهل الانتجاع والأضعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة». أما في مؤلف آخر، فيؤكد ذ. شفيق المعنى ذاته، ولو أنه يتخلى عن شكه ذاك، فيعود من المدح القوم – ذاتي إلى تمتيع تلك الكلمة بمعنى «النبل والشهامة والإباء» ولو أن هذه الشمائل ليست حكرا على أمة دون أخرى. وأما عثمان السعدي فيرى أن جذر الكلمة أمازيغ عربي هو مزر، وفي لسان لعرب: أسد مزير، وجمعه أمازر أي أشداء القلوب. وللحديث بقية.

المصدر: موقع هيسبريس

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here