بشكل مفاجئ تحولت صفقة القرن التي طبختها أمريكا وعاصمتها تل أبيب إلى مهزلة عند كثيرين في العالم. نتج عن الصفقة صحوة ضمير عالمي وظهر من يعتبر أن الصفقة مؤامرة على حقوق الشعب الفلسطيني وخيانة لمشروع السلام. حتى السلام الذي كان مجحفا في حق الفلسطينيين صار يبدو أمام صفقة القرن هبة من السماء وعرضا مثاليا. هناك تململ عالميا وعربيا وبدايات فرز حقيقي سيحصل في الفترة المقبلة.
التاريخ يمشي بالمناسبات والفرص الضائعة. حدث صغير يسخر منه الأطفال قد يصبح فارقا في التاريخ بشكل غير متوقع وقد يصبح بداية تحول درامي. يعتقد الكثيرون أن الشرق الأوسط سيبقى على حاله كما صنعته بريطانيا قبل 72 سنة. 72 سنة هي عمر رجل عادي يعمل سائق شاحنة ولا شيء في التاريخ. الاتحاد السوفياتي بقي تقريبا 72 سنة (1917-1991) وبعد ذلك طار في السماء مثل ريش عصفور. وإسرائيل لن تعيش أطول لكن سياستها الصهيونية في فلسطين وفي أوروبا سوف تدفع الشعوب إلى اليقظة لتعود حكاية المؤامرة اليهودية التي كان الأوروبيون يؤمنون بها إيمانا أعمى. اليوم هناك شكاوى من مسمى اللاسامية وكراهية اليهود في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى، وهناك أرقام وحقائق قد تكون مبالغا فيها لكنها تعكس واقعا. إسرائيل تعزل نفسها تدريجيا في العالم ونحن لا نعتقد أن الغرب كله منحاز، هناك ضمائر حية وعقول راقية وقلوب تنبض بالحق ونزعة إنسانية تنتصر للمظلومين، وهناك يهود ضد الصهيونية وضد ظلم الشعب الفلسطيني. هؤلاء أحفاد اليهود الذين أسلموا في الماضي ومعدنهم صالح. المهم في الحكاية أن صفقة القرن هدية مباركة تستحق التنويه. الصفقة موجودة منذ الخمسينات واقعيا لكن دون اتفاق، الجديد اليوم هو النص، المعاناة قديمة والقتل قديم والصهيونية قديمة وترامب رجل مسن، وليس هناك جديد، الجديد اليوم هو الفرز.
القصة باختصار وبعيدا عن الرقابة أن الشرق الأوسط الحالي لن يتغير بالعاطفة، أن تأتي أمريكا ذات يوم وتعلن بمكبر الصوت أنها تريد الرحيل وأنها تخلت عن إسرائيل. هذا هو معنى الرعاية الأمريكية للسلام، أي رعاية مصالحها ومصلحة إسرائيل. إنه السلام المسلح الذي يقتل ويسرق خيرات البشر. حمامة حمقاء وغصن زيتون أعوج.
واليوم فعلنا كل شيء. وافقنا على وجود إسرائيل وعلى التقسيم. ثم وافقنا على التطبيع وقلنا لا بأس. ووافقنا على زيارة إسرائيل واستقبال وفود منها. وفتحنا القنوات الفضائية لكي يخاطبونا ويدافعوا عن قضيتهم العادلة لأن القضيتين معا عادلتان لكن المشكلة في الشيطان الرجيم. ووافقنا على تجميد آيات القرآن التي تتحدث عن اليهود. ووافقنا على أن المسلمين كانوا ضد اليهود، وأن النبي ظلم بني قريضة، وأن هناك أحاديث نبوية عنصرية، وأن اليهود العرب يجب تعويضهم، وقبلنا ازدواجية الجنسية وازدواجية الدور، وغيرنا المقررات المدرسية، وحذفنا قسما من تاريخنا، واستقبلنا المسؤولين الإسرائيليين في المطارات كزعماء ونسينا أنهم قتلة لإخوتنا.. إلخ إلخ، لكنهم فاجأونا بصفقة القرن لأننا قصرنا في حقهم. لكن مع ذلك مستمرون ولن نلقي السلاح، التعايش والمحبة والتسامح الديني، التسامح الذي يعني سامحونا فنحن لا نستحق الكرامة.