تمسك بحبل الله مهما حدث.
ضاقت عليك الأرض بما رحبت.. تحشرجت نفَسك في عُمق ضجيج الحياة وهمومها.. أحلام لم تتحقق.. وطموحات كلما اقتربتَ منها ابتعدت عنك، كسراب يحسبه الظمآن ماء.. حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. تنظر يسارك فترى الإحباط، وتنظر يمينك فترى الفشل، وتنظر أسفلك فترى السقوط. هذه اللحظات الصعبة تختبر مدى صلابتك، وتفضّ الغشاء الذي تختبئ وراءه، وتجعلك في مواجهة مفتوحة مع الحياة وعقباتها الكؤود، أنت وحدك من سيحدّد نتيجة هذه المواجهة.
هذه اللحظات تحدّد مصيرك، وبمقدار صبرك تكون مكافأتك.. عندها لا تفقد نفسك وتمسّك بالأمل، فالفشل هو أول خطوة في طريق النجاح، وأكثر اللحظات ظلاماً هي التي تسبق شروق الشمس. توجّه ببصرك نحو السّماء ففيها جلاء همّك وزوال غمّك، واصرخ بقلبك مُنادياً ربّك ومستغيثاً به، حاشاه أن يردّك خائباً منكسر الفؤاد. ناداه ذا النّون في ظلمات ثلاث: ظلمةُ بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل: “وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أن لَا إِلَهَ ألا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ“، الأنبياء: 87، فجاءه المدد من فوق سبع سماوات: “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ” الأنبياء:88.
نجاة سيدنا يونس ليست مقتصرة عليه فقط، بل تتعدّاه إلى كل مؤمن بالله مستجير بحبله: “وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ“، حاشاه أن يُخيّب من وقف ببابه ويردّه خائباً. قصّة سيدنا يونس تُعلِّمنا أنه مهما اشتدّ الألم وتحطّم الأملُ فباب السماء مفتوح. توضّأ بإتقان، وضع سجّادتك بوقار، وناجِ الواحد القهّار، اطرق بابه بأدب، أخبره عن همومك وغمومك، آلامك وأسقامك.
أخبره عن أحزانك الماضية ومخاوفك القادمة، ادع بدعاء الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلّم– لما سألته أُمّنا عائشة: يا رسول الله أيّ الأيّام كانت شديدة عليك، قال: يوم كنت في الطائف، لقد هِمتُ على وجهي، فرفع النبي حينها يديه إلى السماء وكان معه زيد فظنّ أنه سيدعو عليهم –أي أهل الطائف– بالهلاك أو بالهدم أو بالغرق أو بغير ذلك، فإذا به يُناجي ربه ولا يشكوه، فيقول: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت ربّ العالمين، وأنت ربّي وربّ المستضعفين، يا رب: إلى من تكِلُني، إلى عدوّ يتجهّمني “أهل الطائف“، أم إلى قريب ملّكتهم أمري “قريش“، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي، أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والدين، أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، يا ربّ لك العتبى وأتوب إليك حتى ترضى، ولا حول ولا قوة ألا بك).
إنه أدب الدعاء مع الله، أن تدعوه بخشية ووقار، وحُب وتذلّل وانكسار بين يديه سبحانه، إنه الأمل بالله والتوكّل عليه، هو الذي يعطيك القوّة والجَلد للاستمرار في مواجهة أمواج الحياة وتقلّباتها، مشاكلها وتعثّراتها. تأكّد أنه لن يترككَ وحيداً.
قِيل أن سيّدنا يوسف لمّا وقع في الجبّ، أوّل ما ترك حافّة الجبّ كانت يدُ جبريل تحت أقدامه، أغلقت أبواب الأرض، وفتّحت أبواب السماء، انقطعت أسباب الأرض، وامتدّت أسباب السماء.
كن مع الله وامش في طريقه ولا تبال، الأنبياء هم أحب البشر إلى الله، وأقربهم إليه، وأعبدهم له، ومع هذا تعرضوا لأشد أنواع الابتلاء، فمرحلة الابتلاء هي مرحلة تربية وصقل وإعداد لمراحل متقدمة، علينا أن نقابلها بصبرٍ وتمسّكٍ بالأمل.
كما أن الابتلاء فرصة لمراجعة الحسابات، والتدقيق في التفاصيل، والاعتبار بما مضى، والاستعداد لما هو قادم، والتسلح بالصبر والعزيمة والإصرار، وتجديد الطموح، والتّوقُ للمعالي، وعدم الالتفات إلى الوراء إلا لأخذ العبرة، وعدم القفز إلى الأمام إلا لرسم الطريق.. فخطوة بعد خطوة، وفشلٌ يتلوه نجاح، وخيبة يعقبها أمل، ونهوض تسبقه كبوة، وفرح بعد حزن، وسعادة تِلو شقاء.. وتستمر الحياة؛ ليكن طريقك فيها طريق الله، وزادك فيها التقوى وصالح الأعمال، وراحِلتُك التّوكّل على الله والتمسّك بالأمل مهما حدث.