أنشئ بجامعة محمد الخامس بالرباط وبتعاون مع معهد العالم العربي بباريس كرسي باسم الأستاذ المؤرخ الدكتور عبد الله العروي، مما أثار لدي سؤالا حول من الأحق بأن يطلق اسمه على ذلك الكرسي عبد الله العروي أم محمد عابد الجابري، سأأخر اختياري إلى ما بعد سوق هذه الحيثيات:
1.كان الأستاذ الدكتورمحمد عابد الجابري – رحمه الله – صاحب مشروع نقد العقل العربي، منذ الإصدارات الأولى “نحن والتراث” إلى الأخيرة “نقد العقل السياسي العربي” و”نقد العقل الأخلاقي العربي”،إلى خوض غمار تفسير القرآن الكريم،وليس بوسع أحد أن ينكر التأثير الكبير للإنتاج الفكري للرجل في النخب العربية وفي التيارات الفكرية والأيديولوجية القومية والماركسية.
2.نمثل لهذا التاثير بجورج طرابشي، فلما اطلع على كتاب “تكوين العقل العربي” قال طرابيشي: “هذا كتاب لا يثقف فحسب بل يغير أيضا، فمن يقرؤه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه” كان هذا قبل أن يتفرغ لنقد الجابري من خلال كتابه “نقد نقد العقل العربي”، وحاوره الند للند، بتعابيرقاسية أحيانا، ولكن لما توفي الجابري رثاه نثرا وبحس أخلاقي جدير بالاحترام إذ قال: ” واليوم إذ يسبقني إلى الرحيل، فإني لا املك إلا أن أعترف بمديونيتي له:فهو لم يساعني على الانعتاق من الأيديولوجي الذي كنته بل كانت له اليد الطولى ولو من خلال المناقضة ونقد النقد على إعادة بناء ثقافتي التراثية” عكس الدكتور عبد الله العروي الذي رفض كليا حضور حفل تابين الدكتور الجابري.
3.اتسم الخط الفكري للجابري بمراجعات وتراجعات جريئة جعلته محل تقدير واحترام موافقيه ومخالفيه.
4.استطاع الجابري “تبيئة” مشروعه الكبير ليوافق الخصوصية المغربية والعربية والإسلامية، ويكفي الاطلاع على بيبليوغرافيا المراجع والمصادر التي يحيل عليها في آخر كتبه لنستنتج بأنه لم يكن من أنصار أطروحة القطيعة مع التراث فيحضر الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن تيمية والغزالي والعز بن عبد السلام والحارث المحاسبي وابن عربي وأبو الحسن الشعري والكندي.. إلخ.
5.ذات التأثير مارسه الدكتور عبد الله العروي منذ “الأيديولوجية العربية المعاصرة” و”أزمة المثقفين العرب”، احتفت بالكتابين النخب القومية والماركسية.
6.عكس الجابري كان أكثر من يحيل عليهم العروي رموز ورجالات الفكر الغربي وفلاسفته.
7.اختار العروي الاصطفاف إلى جانب الدولة، بينما اختار الجابري الاصطفاف إلى جانب المعارضة من خلال حزب قوي وكبير (آنذاك) هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
7.استطاع الجابري ان يضع اليد على مكامن الداء في الواقع العربي والإسلامي عنما كتب عما أصاب “العقل السياسي العربي” ابتداء من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي المعاصر من أزمات جعلت ذلك العقل مُنحبسا في ثُلاثية: أيديولوجيا الجبر الأموي، وأيديولوجيا التكفير الخارجي، وميثولوجيا الإمامة الشيعية، نعم وقعت مصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها إما باسم السلطنة السنية أو باسم الإمامة الشيعة بعد الانقلاب الأموي على “الخلافة الراشدة” التي اعقبها الخلل المتصل بالمفاهيم الثلاثة التي نص عليها الجابري في “نقد العقل السياسي العربي” :العقيدة والغنينة والقبيلة،العقيدة بإشاعة الجبرية، والغنيمة باتخاذ الحكم مغنما لا مغرما والقبيلة بالرجوع إلى محاور الولاء القبلي والعشائري والطائفي.
8.يرشد الجابري إلى البحث في منظومة القيم لاستكناه أسباب الانتكاسات والإخفاقات “اخلاق الطاعة”،عندما تم التمكين لأخلاق الطاعة الفارسية على حساب أخلاق الطاعة الإسلامية الوفية لقاعدة “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” والظلم وهضم الحقوق من أعظم المعاصي. وبكلام بديع ختم الجابري رائعته”العقل الأخلاقي العربي” قائلا:” ومع أن الخلافة الراشدة -التي لم تدم إلا نحوا من ثلاثين سنة- قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين، على مر العصور بكونها “الحكم المبني على الشورى” فإن الملك العضوض لم يسبق أن عرف التعريف الذي يعطيه مضمونا يبقى حيا في ضمير الأجيال المتعاقبة.. والحق أن الضمير الديني في الإسلام الذي هو أصلا متحرر من وزر “الخطيئة الأصلية”، قد حمل نفسه وزرا آخر هو وزر “الفتنة الكبرى”، إن الرغبة في “اتقاء الفتنة” قد بررت على الدوام قبول العيش باستكانة تحت الحكم الذي أصله فتنة، فكانت النتيجة قيام الحكم في الإسلام وعلى الدوام إلى الآن، على “وحدانية التسلط”، لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرها من بلاد الإسلام النهضة المطلوبة،والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم “أباهم”: أردشير.
وفي الختام: كان الأجدى والأنسب تسمية الكرسي باسم محمد عبد الجابري عن جدارة واستحقاق.