Home Slider site قراءة في قصيدة “لعنة الشرق الجميل” للشاعر المغربي يحيى الشيخ – ذة....
القصيدة:
لَعنَةُ الشَّرقِ الجَمِيل – د. يحيى الشيخ
ما زِلْتُ أَسأَلُ رَبَّ العَرشِ ما وَعَدَا
جَنَّاتِ عَدنٍ لِمَنْ زَكَّى وَمَنْ سَجَدَا
وَمَنْ تَوَهَّجَ عِشْقا فِي جَلالَتِهِ
حَتَّى فَنَى في جَمالِ الذَّاتِ وَاتَّحَدَا
وَمَنْ أَحَبَّ وَضَاعَ الحُبُّ مِنْ يدِهِ
لَمَّا قَضَى في هَوَى مَحبُوبِهِ كَمَدَا
وَبِتُّ أَسأَلُهُ رِفْقًا بِأُمَّتِنَا
حَتَّى عَيِيتُ وَكَمْ ضَاعَ الدُّعَاءُ سُدَى!
فَقُلْتُ يُنْكِرُ سُؤْلِي وَهْوَ مِنْ قِدَمٍ
بَنَى السَّمَاءَ وَلَمْ يَرفَع لَهَا عمدا؟
لَوْ شاءَ جَنَّبَنَا بُؤْسَ القَضَا وَقَضَى
أَلاَّ نَكُونَ كَمَا شَاءَ القَضَاءُ عِدَى
وَبِتُّ لَيْلِي أَرَى الأَخْبَارَ تُفْزِعُنِي
وَمِحنَةُ الشَّرقِ تُدمِي القَلْبَ وَالكَبِدَا
وَكُلُّ شَيْءٍ بَنَاهُ الشَّرقُ مُذْ زَمَنٍ
وَجَدتُهُ في بِلادِ الشَّرقِ قَد فَسَدَا
أَرَى النَّعِيمَ جَحِيما في مَرَاتِعِهِ
وَالقَائِمُونَ عَلَى أَحلاَمِهِ بَدَدَا
لا شَيْءَ يُثْمِرُ، أَرضُ الشَّرقِ قاحِلَةٌ
وَالنَّخْلُ يَسقُطُ كَالأَعلامِ مُرتَعِدَا
يَشْكُو الصَّحَارِي نُضُوبَ المَاءِ مِنْ عَطَشٍ
هَلْ كَانَ يَسقُطُ لَوْ كُنَّا لَهُ سَنَدَا؟
وَالنَّاسُ فِي الشَّرقِ أَهْواءٌ مُفَرَّقَةٌ
رَمْلٌ تَدَفَّقَ فِيهِ النَّفْطُ فَاتَّقَدَا
هَذَا يُغَنِّي وَلَحنُ المَوْتِ فِي فَمِهِ
وَذَاكَ يَرقُصُ نَشْوَانًا بِغَيْرِ هُدَى
وَذَاكَ يَصنَعُ مِنْ مَعبُودِهِ صَنَما
وَيَذْبَحُ اللَهَ قُربَانًا كَكَبْشِ فِدَا
وَحَاكِمُ الْعَصرِ يَنْمُو المَوْتُ في يَدِهِ
كَأَنَّهُ لِسِيَاطِ المَوْتِ كَانَ يَدَا
وَمَنْ يُصَلِّي إِذَا صَلَّى فَقِبْلَتُهُ
تَغِيبُ عَنْهُ كَأَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ أَبَدَا
يَظَلُّ يَبْحَثُ عَنْ رَبٍّ لِيَعبُدَهُ
يَتْلُو الزَّبُورَ وَلاَ يَلْقَى الَّذِي عَبَدَا
إِنِّي احتَرَقْتُ بِنَارِ الشَّرقِ كَيْفَ أَرَى
لِلشَّرقِ رَبًّا وَسُوقُ الشَّرقِ قَد كَسَدَا؟
طَوَائِفُ الدِّينِ قَد بَارَتْ تِجَارَتُهُمْ
ـــــ وَمَنْ يَقُومُ عَلَى دِينِ الهُدَى رَقَدَا
عَقَائِدُ الشَّرقِ مَلْيُونٌ وَرَبُّهُمُو
كأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَمَّا بَدَا أَحَدَا
لِكُلِّ مُنْزَلَقٍ حِزْبٌ يُضَلِّلُنَا
فَيَكْبُرُ الشَّر في أَرحَامِنَا وَلَدَا
تَشَاكَلَ الأَمْرُ حَتَّى خِلْتُهُ عُقَدا
تَشَابَكَتْ فَغَدَتْ في شَرقِنَا عُقَدَا
اَلله لِي، مَنْ يَكُونُ الرَّبَّ في زَمَنِي،
مَنْ ذَا الَّذِي سَيَحُلُّ اليَوْمَ مَا انْعَقَدَا؟
وَمَنْ سَتُنْجِبُ مَهْدِيًّا فَنَتْبَعُهُ
وَمَنْ يُعِيدُ لِهَذَا الشَّرقِ مَا فَقَدَا؟
وَمَنْ سَيَنْفُخُ رُوحا فِيكِ مَريَمُ كَيْ
يأتِي المَسِيحُ لِهَذَا الشَّرقِ مُنْتَقِدَا؟
وَمَنْ مُحَمَّدُ يَأتِينَا بِبِعثَتِهِ
حَتَّى يَكُونَ لَنَا القُرآنُ مُسْتَنَدَا
وَمَنْ يَكُونُ صَلاَحا يَوْمَ مِحنَتِنَا
إِنَّا امْتُحِنَّا وَصِرنَا هَا هُنَا قِدَدَا؟
لا تَلْعَنُونِي فَهَذَا الشَّرقُ يَلْعَنُنِي
إِنِّي احتَرَقْتُ وَغَابَ الشَّرقُ وَابْتَعَدَا
مَا عَادَ يُلْهِمُنِي شِعرا وَقِصَّتُنَا
أَحزَانُهَا سَتُمِيتُ العَاشِقِينَ غَدَا
كُنَّا وَكَانَ لَهِيبُ العِشْقِ يُحرِقُنَا
وَاليَوْمَ نَحنُ وَعِشْقُ الشَّرقِ قَد خَمَدَا
شَرقٌ وَلا الشَّرقُ وَالْأَحزَانُ تَسْكُنُنِي
إِنْ قُلْتُ جَمْعا يَجِيءُ الشَّرقُ مُنْفَرِدَا
وَكَمْ يَجِيءُ وَلا شَرقٌ لِنَعبُدَهُ
قَد مَاتَ في دَمِنَا الشَّرقُ الَّذِي وُلِدَا
كَأَنَّنَا قَد خُلِقْنَا الموْتُ في دَمِنَا
أَوْ أَنَّنَا قَد وُلِدنَا والحلِيبُ رَدَى
قَرنَانِ والأَلَمُ المَسْمُومُ يَلْذَغُنَا
وَيَخْطِفُ الشَّرُّ مِنْ أَحضَانِنَا عَدَدَا
أَخَافُ مِثْلَهُمَا قَرنَيْنِ في حُلُمِي
في غَفْلَةٍ يُتْلِفَانِ الأُمَّ وَالوَلَدَا
ضِعنَا وَضَاعَ مَقَامُ الأَنْبِياءِ هُنَا
يا رَبِّ هَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا!
فَقَاسَيُونُ يُدَاوِي الجرحَ مُنْفَرِدا
لَمّا يَنِزُّ دَمٌ في بَطنِهَا بَرَدَى
وَغَزَّةُ العُربِ لا عُربٌ تُؤَازِرُهَا
تَأْتِي الوُفُودُ وَيَفْنَى وَعدُ مَنْ وَعَدَا
يَا أُمَّةً حَقَدَتْ وَالحقْدُ يَسْكُنُهَا
ما تُنْجِبُ اليَوْمَ إِلاَّ الحقْدَ وَالحَسَدَا
حَمْدا لَكَ اللَّهُ مَهْمَا الهَمُّ يَقْتُلُنَا
أَنْتَ السَّمِيِعُ فَيَسِّر حَالَ مَنْ حَمِدَا!
مَنْ يَذْكُرِ العِزَّ فَلْيُنْشِدهُ مُنْتَشِيا
يَا نِعمَ مَنْ رامَ عَهْدَ العِزِّ أَوْ نَشَدا
هَذَا النَّشِيدُ سَأَبْقَى الدَّهْرَ أُنْشِدُهُ
وَالرُّوحُ تَرقُصُ لما تَهْجُرُ الجَسَدَا!
إضاءات:
ــ البيت الثاني: إشارة إلى الحب الإلهي وفناء المُتألّهين في جلال الذات وجمالها.
ــ البيت الثالث: إشارة إلى ما ورد في بعض الكتب: «مَن عشق فعفّ فكتَم فمات فهو شَهيد».
ــ البيت الخامس: تضمين من القرآن ــ «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ «(سورة الرعد، الآية 2). والقِدم، إشارة إلى قِدم الذات الإلهية كما في العقيدة الأشعرية.
ــ البيت التاسع عشر: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ» (فاطر، الآية 29).
ــ البيت الخامس والعشرون: وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (سورة التحريم، الآية 12).
ــ البيت السابع والعشرون: «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا» (سورة الجن الآية 11).
ــ قاسيون: جبل يشرف على مدينة دمشق، وبردى اسم نهر بها أيضا.
القراءة:
عندما تقرأ القصيدة، تجدها تُشعل مشاعرك بنار وقودها الإبداع، من مطلعها حتى نهايتها، وبالتالي يثور وجدانك بغزارة حتى تتمنى أن يطول النص أكثر فأكثر، تُعيدُ القراءة مرات ومرات، تتجول بين الحروف، بين الكلمات، فتضيع وسط الأبيات بحثا عن المعنى المخزون في جمال صورها ومجازاتها.
فالاستهلال الصوفي يذكرنا بالحلاج وابن عربي وغيرهما ممن أبدعوا في هذا الميدان وتركوا لنا إرثا فكريا يزين حضارتنا،كالتواشيح الشعرية الصوفية التي ينسب معظمها لفرقة ابن عربي:«أحبُّك حُبَّين» و«أدينُ بدين الحب» و«عرفت الهوى» و«سلبت ليلى منّي العقل» وغيرها.
فمقدمة قصيدة الشاعر يحيى الشيخ وعذب نظمه كعادته، نقلانا في صلاته ودعائه للشرق العربي الممزق.
هذه القطعة من الأرض التي أصبحت جزءا من قلب كل عربي، مفكر مهتم بأوجاع الوطن الصغير والكبير.
مَوْقِفَك والتزامَك، تجاه الكوارث المتتالية واللعنة المطلقة التي تطارد الشرق الجميل، الذي كثرت عقائده وتناحرت أحزابه، فما ربحت تجارته جعلتا نصك ثورة قلم صارخ لردع الظلم والفساد…
حتى تتشرب جميع ذرات الجسد العربي المريض بالصفاء والنقاء، ويحيى من جديد ذات يوم بعد موته الطويل ثم يغني سنفونية السلام…
وبهذا يكون شاعر المغرب يحيى الشيخ شاعر عصره الأمثل الذي سخّر قلمه وجهوده لخدمة قضايا الوطن العربي المكلوم بقصائد تعتبر من الخالدات شكلا ومضمونا.