كان النواسي يرفض الوقوف على الأطلال عند ابتداء الشعر، ويبدأ بوصف الخمر ونعتها وهو المشهور عنه :
“قل لمن يبكي على رسْم درسْ
واقفا، ما ضرّ لو كان جلسْ!
أُترك الرّبْع وسلمى جانبا
واصطبحْ كرخيةً مثل القبسْ”.
أو قوله :
عاجَ الشقِيّ على دارٍ يُسائِلُها،
وعُجتُ أسألُ عن خَمّارَة ِ البلدِ
لا يُرْقىء ُ الله عينيْ من بكى حجَراً
ولا شفَى وَجْدَ من يصْبو إلى وَتَدِ
قالوا ذكَرْتَ ديارَ الحيّ من أسَدٍ
لا دَرّ درّكَ قلْ لي من بَنو أسَـدِ
و مَن تميمٌ، ومنْ قيسٌ وإخوتُهُمْ،
ليس الأعاريبُ عندَ اللهِ من أحد!
وبذات الطريقة الممثل الصيني ( بروس لي ) رفض الوقفة الابتدائية القتالية في فن الكونغ فو حسب الطريقة الصينية ولم يجد لها داعيا أو جدوى ، وراح يؤسس لطريقته القتالية المتميزة ، فكل قرية أو منطقة في الصين لها أسلوبها الخاص في الوقوف والابتداء في القتال، وكان يرى تلك الوقفات ليست فعالة في القتال الحقيقي، ومقولته في ذلك كانت واضحة وجلية :
( خذ ما هو مفيد وارفض ما هو عقيم ).
وفعلا تلك الأساليب لم تكن مفيدة بالنسبة له، وفضّل اختيار وقفة مبارزي السيوف، فلقد وجد فيها التوازن واستفاد من مبادئ الملاكمة الإنكليزية وأساليب المصارعة، ولم يكن لأسلوبه أسلوبا فهو القائل ( الطريقة هي اللاطريقة )، وذلك يعود لعقليته الفاحصة الانتقائية المتأثرة بدراسة الفلسفة، فهو كان يدرس الفلسفة ومتخصصا بها، وأيضا مقولته الشهيرة :
( كن كالماء، لا شكل له، عندما تضع الماء في كأس يصبح كأسا، إذا وضعته في قنينة يصبح على شكلها، إذا وضعته في إبريق شاي، يصبح إبريق شاي، كن ماءً صديقي”.)
فهذه الفلسفة هي ليست مخصصة لفهم عقليته القتالية فقط، بل هي تصلح للتطبيق العملي في مجالات متعددة، فلا بد من أن يكون الإنسان مرنا ومتكيفا ومستعدا للتغيرات التي تحدث، وهذا الكلام يوافق كلام داروين حين يقول :
( البقاء ليس للأقوى ولا للأذكى البقاء للأكثر استجابة للتغيير).
أبو نواس وبروس لي كان لديهما المبدأ ذاته في التفكير، كانا يرفضان ما هو عقيم، وكانا يحاولان التكيف والتماشي مع التغير الحاصل، وإعطاء أفضل نسخة من فنهما.
ومالا يعرفه الكثيرون عن أبي نواس أنه فيلسوف، ومطلع على علوم كثيرة كان أدناها الشعر ، لكنه فضل المتاجرة والتكسب بالشعر، نظرا لحظوة الشعراء لدى الملوك والأمراء في عصره، وبهذا كان رجلا واقعيا رغم أنه بارع كثيرا في علوم الدين ودليل ذلك قول الإمام الشافعي: “لولا مجون أبي نواس لأخذت العلم منه”، وقال ابن منظور: ” كان أبو نواس عالماً بكل فن ، وكان الشعر أقل بضاعته”.
واستطاع بروس أن يغير شكل المشاهد القتالية في السينما الأمريكية التي كان فيها سيناريوهات القتالات سخيفة وغير واقعية ومملة، وقام هو بعمل سيناريوهات قتالية واقعية، كما ساعد كثيرا مخرجي وممثلي هوليود بأفلام لم يشارك بها لعمل تلك السيناريوهات، وتغيير شكل المشاهد القتالية بالسينما، وأيضا استطاع تغيير فكر كل ممارسي الفنون القتالية حتى وصلت لشكلها النهائي الآن، وسميت بالفنون القتالية المختلطة، وهذا بسبب عقليته الانتقائية، حيث لا شرط أن تكون ملاكما أو لاعب كاراتيه أو مصارعا، المهم هو أن تأخذ أفضل صفة من كل فن وتصبح كاملا، حتى تم تأسيس مدرسة وفن يجمع كل الفنون القتالية المختلطة، وانتهت أسطورة أن يمارس الإنسان فنا قتاليا واحدا كالكاراتيه وحدها أو الملاكمة وحدها أو المصارعة وحدها، كذلك استطاع ابو نواس أيضا في أن يغير شكل القصيدة العربية، وأن يوجهها اتجاهات مختلفة عما كانت عليه، لأنه كان قادرا على التغيير، وقادرا على التعبير عن روحه وشخصه بصدق وشجاعة أدبية، تماما كما يقول بروس لي: ( فنون الدفاع عن النفس في نهاية المطاف تعني التعبير الصادق للذات).
ولا ننس أيضا أن أبا نواس استحدث بثورته الشعرية مواضيع شعرية جديدة كغزل المذكر؛ فهو كان يتغزَل بالغلمان، وربما هذا الموضوع اقترحه أبو نواس تماشيا مع المزَاج البغدادي السائد ذلك الوقت، وأنا لا أؤمن أن أبا نواس كان لوطيا، لكن ربما أراد كتابة شيء عن الجو السائد في العراق وقتها، فحتى النساء كن يقلدن الرجال ويكون جزء من زَينتهن هي الملابس الرجالية، وخير دليل على عدم كونه لوطيا هو شعره وقصة عشقه بجنان، وقد كتب لها أرق الشعر في باب غزل المؤنث.
ومن شعره في غزل المذكر مثال ذلك قوله :
مذكرة مؤنثة مهاة
تشببها إذا برزَت غلاما
وقوله أيضا :
من كف ذات هن في زَي ذي ذكر
لها محبان لوطيٌ وزَناءُ
الخلاصة :
هي العمل على المبدأ البسيط وأن تكون نفسك، ومثل ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لا أسرق الشعراء ما نطقوا
أو لا يوافق شعرهم شعري