هل بات العالم خاضعا لحوكمة رقمية عابرة للحدود؟ – محمد عابد

0
204

تزداد يوما بعد آخر التساؤلات عن آفاق اعتمادنا على شبكات التواصل الاجتماعي، وتأثير تلك المنصات على مختلف مجالات الحياة. وبرزت قوة تأثير تلك المنصات، عربيا، في وقت مبكر، إذ لعبت دورا كبيرا في الحشد لثورات الربيع العربي، وتداخلت منذ ذلك الحين في الفضاء التجاري الإلكتروني حول العالم حتى باتت الكثير من القطاعات تعتمد عيلها بشكل شبه كامل.
لكن موجة الرقابة على “الأخبار الكاذبة”، وحذف الحسابات والتدوينات بحجة منع الترويج للعنف ونظريات المؤامرة، تطرح اليوم تساؤلات حول ما إذا باتت تلك الشركات تحكم عالما موازيا بمعايير تحددها هي، خارجة عن سطوة الدول والمجتمعات، وبما قد يؤثر على حياتنا اليومية.
“كفاح عيسى”، المختص في المعلوماتية والبيانات الضخمة، والناشط في البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، أكد على وجود بون شاسع بين ما وصل إليه تداخل العالم الرقمي بحياتنا اليومية من جهة، والتشريعات التي تنظم ذلك من جهة ثانية.
ويفرض ذلك، بحسب “عيسى”، مسؤولية كبيرة على المجتمعات، تتمثل بمنع شركات بعينها من احتكار التأثير، ومن الاعتداء على الحريات والخصوصيات، مؤكدا أن تلك الشركات تعمل من أجل المزيد من الأرباح، وحسب، ولن تكون بحال من الأحوال “راعية للحرية والديموقراطية”.
وتلك المصالح، من جانب آخر، تفرض على الشركات العمل في إطار القوانين المحلية والحرص على عدم تجاوزها، أو تلطيخ سمعتها بما قد يفقدها الكثير من المشتركين.

وفي ما يأتي نص الحوار:
هل باتت المنصات الإلكترونية بالفعل تتمتع بحوكمة خاصة بها أم لا تزال تعمل في إطار نظم الدول التي تنشط بها؟
رغم حداثة الموضوع وعدم نضوج القوانين والتشريعات في كافة الدول حتى الآن، إلا أنه لا خلاف على أن النشاط الرقمي، أيا كان شكله: من تبادل معلومات، أو مواقع، أو شبكات اجتماعية؛ يخضع للسيادة المحلية والرقابة.
أي أنه يتوجب على الجميع الانضباط بالقوانين المحلية، والذي يخالف ذلك يكون تحت طائلة المسؤولية القانونية: من سجن أو تغريم أو حظر للخدمة.
والأمثلة على ذلك لا تُحصى، فالصين مثلا تحظر فيسبوك وتويتر وغوغل، ما أدى إلى تطوير بدائل محلية.
ولدى كل دولة من دول العالم قائمة طويلة من المواقع والخدمات المحظورة ولا يمكن للمواطنين استخدامها “مباشرة” وأي استخدام “غير مباشر” عبر الأنفاق- بروكسي- يكون غير قانوني.
وهذا كله لا يمنع -من الناحية الفنية وليس القانونية- من إمكانية التخفي وممارسة أي نشاط بالمطلق، إذ إن هناك عوالم سفلية (إن صح التعبير) تستغل التقنية الرقمية نفسها في تجاوز الرقابة والتتبع مثل ما يُعرف بالشبكات العميقة والشبكات السوداء (Deep and Dark web).

ألا يعد حظر الحسابات على وسائل التواصل أو بعض التدوينات تعديا على الحريات العامة؟
ليس بالضبط، ونحتاج هنا إلى بعض التفصيل: وسائل التواصل هي شركات تجارية خدمية في الأساس. ولها الحق -ضمن ما يسمح به القانون- بوضع قواعد وأسس لتقديم خدماتها بما يتناسب مع توجهاتها وبما لا يخالف القانون.
والاستفادة من خدمة أي منصة تواصل اجتماعي -مثلا- منضبط بعقد يعطي الشركة الحق في حظر الحساب أو المحتوى إذا خالف القوانين أو خالف شروطها الداخلية.
وفي حال نشوء خلاف يمكن بطبيعة الحال الاعتراض ومن ثم اللجوء إلى إجراءات قانونية.
لكن ما ينبغي علينا معرفته هو أنها في الأساس شركات تجارية خدمية تراعي توجهاتها الخاصة، لذلك فإن من السذاجة بمكان أن ننظر إليها كراعية للحرية والديمقراطية.
والأصل هو عدم الاعتماد بالمطلق عليها، حتى لا تحتكر تلك الشركات المحتوى وتتغول، كما يحدث معنا الآن، وهذه جزئية مهمة جدا، فللجميع الحق في إنشاء المحتوى الرقمي ومن الضرورة بمكان رفض الاحتكار والتغول والبحث عن بدائل حقيقية حتى نقلل من سطوة تلك الشركات وتفردها.
من الخطأ أن نعتمد كأفراد على مزود خدمة واحد ولا بد من التنوع وتوفر البدائل لتحقيق التوازن الصحي. مثلا من الخطأ أن يعتمد الناس على مطعم واحد (يقرر لهم الوجبات وساعات الخدمة وشروطها بما قد لا يناسبهم).
كما أن من الخطأ أن يعتمد الناس على شركة إعلامية واحدة.. وهكذا. فمسؤولية الحريات العامة تقع على الناس وبحثهم عن بدائل لتحقيق التوازن.

كيف يمكن أن توازن المنصات بين الحريات وبين ما يمكن أن يعتبر ترويجا للعنف أو للمعلومات الكاذبة؟
هذه مسؤولية مشتركة بين تلك المنصات والدول التي تنشط فيها.
للشركات الحق في حذف ما تراه غير مناسب (ضمن شروط الخدمة) وللدول الحق في فرض القوانين والتشريعات.
ولا بد من التوازن الدقيق حتى لا يتعدى أحد على دوره (لا المنصات بوصفها شركات خاصة تملك توجهات معينة ولا الدول).
ولكن الدور الأهم والرقابة الحقيقية هي الرقابة الشعبية المجتمعية (رقابة الجماهير)، لأن الجماهير هم مادة الحضارة الرقمية ووعيهم الجمعي هو الميزان الذي يحاكم الدول والشركات، من حيث القبول بشروط الخدمة من جهة في ما يخدم مصلحة المجتمع ووضعها عند حدها من جهة أخرى في حال تغولها.
ولا بد كذلك -من الناحية الاستراتيجية- اعتماد البدائل لتحقيق التوازن وعدم الاعتماد بالمطلق على شركات كبرى لتطبق علينا أجنداتها.

هل توجد جهات معنية بفض النزاعات بين المنصات وأصحاب الحسابات عليها؟
نعم، وإن كان هذا لا يزال في مرحلة التطور والنضج.
بداية فإن كافة المنصات الكبرى فيها رقابة داخلية تراعي قوانين وشروط النشر.
وتحاول لعب دور محايد ويمكن الرجوع إلى الرقابة الداخلية للاعتراض على النشر أو الحذف على حد سواء.
بعض تلك المنصات تتعاقد مع جهات وهيئات رقابية محايدة لإبداء الرأي في تلك النزاعات. ويبقى اللجوء إلى القضاء هو آخر علاج بعد ذلك كله.
ولكن -ومرة أخرى- هذه شركات خدمية، وعلينا دائما أن نفكر في البدائل وعدم الاعتماد المطلق على المنصات الكبرى.
ولنا في ما حدث للرئيس الأمريكي السابق عبرة، فلم يستطع رغم منصبه مِن فعل شيء تجاه حظر حساباته.
وفي تقديري أن تلك الحادثة تعكس مدى تغول الشبكات الاجتماعية بعدما حازت ثقة الناس ولكنها أخطأت وتمادت في مسألة الرقابة والحظر. وهذا خطأ في حقها قبل أن يكون خطأ في حق المستخدمين، لأنه تسبب في هزة عنيفة لثقة الناس فيها ما سيؤثر حتما في شعبيتها.

تحدثت فيسبوك سابقا عن عزمها إنشاء عملة رقمية خاصة بها، ألا ترى الحكومات بذلك تعديا آخر على سلطاتها؟
“فيسبوك” شركة رسمية ولا تستطيع الانخراط في أي نشاط مخالف للقانون، وإن قيام أي شركة رسمية بإصدار عملة رقمية يخضع للقانون.
والعملات الرقمية ليست جميعها سواء -من الناحية القانونية- بالمناسبة، والتشريعات في الكثير من الدول تتحدث الآن عن ما هو قانوني وغير قانوني.
مثلا، أكبر مأخذ قانوني على عملة “بتكوين” (على سبيل المثال) هو التخفي، إذ لا تستطيع الدولة مراقبة الحركات المالية ولا تستطيع تتبع الأرباح (وبهذا تشكل ملاذا ضريبيا). وفي المقابل بدأت الكثير من الدول والمؤسسات المالية الكبرى في التخطيط وإطلاق عملات إلكترونية قانونية بالكامل.

هل خضعت الشركة لضغوط حتى تتخلى عن فكرة عملتها “ليبرا” بعد أن كانت تعتزم إطلاقها العام الماضي؟
علينا أن ندرك أن هناك الكثير من الأفكار “المتلاطمة” وأن الشركات تغير وتبدل في بعض قرارتها ومنتجاتها.
ولكل شركة فريق من المحامين القانونيين المتخصصين، فالأمر لا يحتاج إلى ممارسة “ضغوط” محددة، بل هو خاضع لمصالح الشركة وخاضع في الوقت نفسه للقانون.
إلى أي مدى يمكن أن تصل الحوكمة الرقمية العابرة للحدود الوطنية؟ هل نراها تتحكم بالتقييمات المصرفية وأذون السفر وما إلى ذلك؟
نعم، بل وصلت إلى أقصى حد. فالجميع (شركات وأفراد) خاضعون للرقابة في أي نشاط رقمي. أمريكا -مثلا- تراجع ما ينشره الأشخاص على الشبكات الاجتماعية العامة لتقرر إعطاءهم إذن الدخول إليها أو لا. والشركات تراجع ما ينشره موظفوها على الشبكات العامة، والدول تراقب ما يُنشر -بشكل عام- على الشبكات العامة وتراقب بشكل أكبر ما ينشره مواطنوها، فالجميع مسؤول ومُحاسب عن نشاطه الرقمي، والأمر -في ذلك- لا يختلف عن أي نشاط عادي آخر.
والحوكمة الرقمية (بمفهومها الأوسع) هي سلاح ذو حدين؛ فالخضوع للقانون -الصالح – هو مطلب مجتمعي لا خلاف عليه: فنحن جميعا ضد النشاطات غير الأخلاقية وضد النشاطات الإجرامية، وضد أي نشاط لتجارة المخدرات والرقيق الأبيض وضد السقوط الأخلاقي وضد الإساءة والاعتداء على الآخرين سواء في العرق أو الجنس أو المُعتقد وضد الإساءة الشخصية وضد نشر الأكاذيب والافتراءات.. إلخ. ولكننا في الوقت نفسه ضد أي تغول على الحريات العامة، فلا بد هنا من التوازن والاحتكام للقضاء المستقل.

ما الفرق بين تعقب الحسابات الشخصية للأفراد على فيسبوك وتويتر وغيرهما في الغرب، وبين ما يتم انتقاد الصين بشأنه في السياق ذاته من رقابة تشمل السلوك حتى في الطرقات وسط. الربط الرقمي لكل شيء بما في ذلك كاميرات المراقبة، وربما بعد ذلك في جميع مناحي الحياة مع تطور إنترنت الأشياء؟
التجسس ومراقبة الناس والتعدي على خصوصياتهم هو أمر مرفوض أخلاقيا قبل أي شيء سواء أصدر عن الدول أو الشركات الخاصة. ولا بد من أن ندافع كمجتمعات عن حق الخصوصية كحق إنساني أصيل.
وهناك عبارة يرددها الكثيرون: “ليتجسسوا كما يريدون فليس لدي ما أخفيه”.. وهذه العبارة أو الغقلية شديدة الخطورة، لأن المراقبة والتجسس لن يتوقفا عند الاطلاع على خصوصيات الناس بل إنهما سيتجاوزانه بالضرورة إلى استغلال تلك المعلومات؛ استغلالها في تشكيل وتوجيه الوعي العام مثلا، استغلالها في ترويج أفكار وقناعات أو تشكيل السلوك.
السلوك الاستهلاكي المفرط الذي نشاهده اليوم هو أحد مخرجات عمليات التشكيل، وعندما تتحسس الخوارزميات الملامح الشخصية الدقيقة للفرد وتوجهاته وقناعاته وما يفكر فيه وحالته النفسية والعاطفية فستكون أقدر على على التأثير فيه وتوجيهه (وليست شركة كامبريدج أناليتيكا عنا ببعيدة).
كما أنه يمكن أن يُستغل الدخول إلى خصوصياتك ضدك في أي وقت (عندما يعتقلون شخصا في أمريكا يقولون له “لك الحق في الصمت وأي شيء تقوله سيُستخدم ضدك في المحكمة”، ولكن مع انتهاك الخصوصية فإن أي شيء “تفكر” فيه سيُستخدم ضدك بصورة أو بأخرى).
ولا تنفع عبارة “مَن راقب الناس مات همّا” في عصر المعرفة والمعلومة والخوارزميات الذي نعيش فيه.

ما هي الإشكالات أو العيوب الأخرى للشبكات الاجتماعية؟
الحقيقة أننا كنا نعيش “شهر عسل” حيث وفرت الشبكات الاجتماعية خدمات في غاية الأهمية والفائدة فأوصلت الناس ببعضهم وفتحت المجال أمام تلاقح الأفكار والتعارف.
وهذا كله حقق فوائد مذهلة، لكن الإشكال هو تحولها إلى أداة للسيطرة والتحكم، وسلوكها هذا متوقع في ظل حالة الاحتكار التي وصلوا إليها: (فيسبوك+إنستغرام+واتساب+غوغل+يوتيوب+تويتر) هذه الشركات الثلاث عندها حرفيا أكثر من ملياري مستخدم نشط، ولا ننسى أنها في الأصل شركات تجارية تسعى إلى الربح، وأن تكلفة تقديم الخدمة “المجانية” باهظة جدا، (نتحدث عن مليارات الدولارات).
ولتحقيق الربح المنشود فإن الشبكات الاجتماعية تتغذى على استنزاف وقت المُستخدمين وتعريضهم بشكل شبه حصري لمحتوى استهلاكي وتعمل في الوقت ذاته على مجابهة أي أفكار مخالفة لتوجهاتها.
بمعنى أن مقياس نجاحها صار مقدار “إدمان” المستخدمين عليها وقدرتها في المقابل على مراقبة سلوكهم والتأثير عليهم عقليا ونفسيا وعاطفيا، أي أن الأمر تطور -بشكل متوقع- إلى أن أصبحت أداة للتأطير وتشكيل الوعي والسيطرة تماما كما تفعل المؤسسات الإعلامية ومؤسسات الإنتاج السينمائي، وإن علينا التنبه والحذر من ذلك وأن لا نعطيها أكبر من حجمها وألا نقع فريسة لها.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here