تضم المجموعة إحدى وثلاثين قصة تقع في ست وتسعين صفحة من القطع المتوسط، ولا يوجد بين هذه القصص أية قصة قصيرة جدا(الومضة) كما يحلو لبعض النقاد تسميتها. يتراوح طول قصص المجموعة من صفحتين كما في قصة(الملوخية) إلى خمس صفحات كما في قصة(على باب المخيم).
وللوقوف على تجربة محمد مشة في هذه المجموعة قمنا بدراستها وخلصنا إلى ما يلي:
أولا: عتبة الغلاف:
أول ما يلفت انتباه المتلقي في أي مطبوعة هو الغلاف وما يتمدد عليه من عناصر مساعدة مثل، اللوحة والعنوان والألوان والخطوط لما يحمله من دلالات وتأويلات، فهو عبارة عن الجرس أو المادة التحريضيّة التي تدفع المتلقي لاقتحام المجموعة.
وقد جاءت لوحة الغلاف في مجموعة مشة تحمل اللون الرمادي ولوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط بلون قاتم تظهر فيها فتاة تقبض على خيط ممدود يقف عليه طائران حبيبان. وبنظرة شمولية للوحة الغلاف نراها تفيض بمشاعر الحزن والوحدة والعزلة..
يتمدد على الغلاف العنوان الرئيسي للمجموعة الذي يساعد على استفزاز المتلقي وإثارته في الكشف عن دلالات هذا العنوان وهو: (عصافير المساء تأتي سرا)، مفتتحا مجالا لعدة تأويلات يقف أمامها المتلقي؛ ما المقصود بالعصافير؟ وكيف تأتي سرا ولماذا؟ ما الفرق بين عصافير المساء وعصافير الصباح ؟ أي عصافير قيدها القاص بين الغلاف والغلاف؟
وجاء العنوان باللون الأحمر معلنا البقاء في لحظة الخطر بينما كتب اسم القاص باللون الأسود مرتبطا بالوجع والحزن في أعلى الغلاف معلنا عن وجوده وصموده.
وبقراءة لعناوين القصص داخل المجموعة وجدنا أن القاص اختارها بعناية تتساوق مع المضمون وتفك مغاليق النص. جاء منها اثنان وعشرون عنوانا مركبا من كلمتين وتسع قصص من كلمة واحدة، خلت جميعها من الجملة الفعلية.
ثانيا: وتعالج المجموعة عدداً من القضايا منها حضرت في هذه المجموعة القصة الاجتماعية كما في قصة (المطلقة) التي تحدث فيها عن اضطهاد المطلقة ونظرة المجتمع لها، في ظل المجتمع الذكوري: “فيصيبها المقت والحزن والقهر والإحباط” ص.57، وقصة (حين بكت أمي) التي صور فيها حالة الفقر ومبالاة المجتمع لهذه الحالة.
وجاءت القصة الأخلاقية تطرح قضية فساد القائمين على المؤسسات كما في قصة(زيت سمك). والقصة الدينية المذهبية كما في قصة (جدل) التي تحدث فيها عن الجدل بين المذهب السني والمذهب الشيعي الذي ظهر مؤخرا في الساحة السياسية الدينية. والقصة الإنسانية كما جاء في قصة (قنابل النابالم الإسرائيلية) التي يصور فيها معاناة الفلسطينيين أثناء عملية الطرد القسري عام 1948. والقصة القومية كما في قصة (الأسير) التي تتحدث عن المعتقلات الإسرائيلية والأسرى العرب فيها مثل سالم المحيسن الأردني من الطفيلة، وحنا المصري وكمال العراقي. والقصة التاريخية التراثية كما في قصة( شاهد عيان) حشد فيها القاص مجموعة من الشخصيات التاريخية التراثية مثل الزباء ملكة تدمر وملك قرطاج ونبوخذ نصر الذي اعتذر عن الاجتماع بسبب الاضطرابات في بلده ص.45.
لكن الحقل الدلاليّ الذي لا تكاد تخلو منه قصة في المجموعة هو انحياز الكاتب للأطفال ولطبقات الكادحين مصوراً معاناتهم ومحاولاً تغيير واقعهم المرير، والواقع اليومي للفلسطيني المشرد داخل المجتمعات التي يعيش فيها سواء داخل المخيم أو خارجه، ولعل قصة (عذرا أيها السادة فأنا لا أكذب) التي قامت على الفنتازيا تؤكد حالة الضياع والتهميش للفلسطيني وتحييده أينما وجد، بل والأكثر من ذلك تحميله مسؤولية ما يجري حوله من أحداث، حتى ضربة الجزاء التي ينفذها اللاعب ترتطم بالعارضة وتنحرف، تخرج من الشاشة وترتطم برأسه كأنه المسؤول عن فشل اللاعب ( السياسي) الذي يدير معركة المباراة.
وأثناء متابعته المسلسل / أي مسلسل ..؟؟! عندما شاهد انتصار الظلم على العدل (ص9) صرخ على الممثل مذعورا، خرج له المخرج من وراء الحاجز وأشهر سلاحه في وجهه وأمره أن يخرس ولا يتدخل في سير أحداث المسلسل.
ثالثا: اللغة .
عندما تندمج اللغة الشعرية في لغة القص فإنها تمنح القصص جماليات السرد وتكثيفا في المعنى، من هنا كان التعامل الشعريّ مع اللغة من القاص في هذه المجموعة، ففي قصة ( ذاكرة المخيم) ص.5 نجده يقول : (والغبار العالق بخيط الضوء المنبعث من النافذة الخشبيّة) و( الليل طويل والطريق يمتد كأفعى، هواء البحر لزج،) ص.23 ،(عصافير المساء تأتي متأخرة ذكريات الطفولة تسير متعرجة كتعرج الشارع الممتد بين أضلعه وأضلعه) ص.26
حتى بعض العناوين جاءت جُملاً هي في طبيعتها صور شعرية تقوم على توظيف المجاز مثل الاستعارات في العناوين الآتية : (امرأة في المرآة) ، (شكرا لهذا المساء) و(عصافير المساء تأتي سرا).
كما نجده استفاد من اللغة السينمائية وفنها في قصته (عصافير المساء تأني سرا) ص.92 موظفا التقطيع والزوم. وفي قصته (يوم دراسي) ص.71 قسمها إلى ثلاثة مشاهد مستفيدا من فن المسرحية في توظيف الدراما ولغة الحوار) .
كما جاء توظيف تكرار الحرف /كلغة الصوتية/ للكشف عن الحالة النفسية عند الطالب أحمد في قصة (ذاكرة المخيم)، هذا الطفل الذي عانى القهر والحرمان كبقية أطفال المخيم جعله مهزوزا أمام المعلم عندما سأله عن اسمه فأجاب: أحمممممممممد ، وفي نفس القصة يجيب طالب آخر على سؤال المعلم: “لو لم يجد متسعا في بيت الجيران، فكيف يتصرف؟ يسكن في بيت آخرررررررررررر. ومد لسانه خارج فمه”، وفي نهاية القصة تأتي صرخات المعلم في التلاميذ أجب. أجبببببببببببب تعبر عن حالة اليأس التي وصل إليها. كما جاءت اللغة الصوتية تعبر عن حالة الوجع والوحدة التي يعانيها أبو صقر في قصة (وجع) “إإإإإإإيه، الله يستر عليك يا خديجة والله إنك أفضل من الأولاد” ص.28،
** تراوحت لغة الحوار لغة فصيحة بسيطة لا تعقيد ولا تقعير، تناسب مستوى الشحصيات التي تحركت في المجموعة.
رابعا: الجملة القصيرة:
استعمل القاص في بعض قصصه الجملة القصيرة الموسومة بالحركة والتوتر مبتعدا عن أدوات الربط مما يجعل المتلقي وسط الحدث مشغولا بالحركة والتوتر كما في قصة (لا اسم لي) ص.17″ سال دمه من إصبع قدمه، دسّ قدمه في الحذاء، واصل سيره، تجاوز الزقاق، وصل الشارع الترابي”.
وفي قصته (لست وحيدا)ص.22 يقول: “اقتربت من الشجرة، سمعت صراخا، ابتسمت، فرحت، أشفقت عليه، ركضت نحو مصدر الصوت”، يضع المتلقي في حالة ترقب والكشف عما في داخل الشجرة.
إذن محمد مشة عندما استعمل الجملة القصيرة لم يستعملها على سبيل التقشف في اللغة والابتعاد عن الإطناب فحسب، وإنما جاءت لتنسجم مع الفكرة والموضوع الذي يعالجه القاص في إبداعه.
خامسا:بدايات القصص ونهاياتها:
ما يؤخذ على القاص أن أغلب بدايات قصصه جاءت تقريرية خبرية باستثناء قصة يتيمة استخدم فيها القاص البداية الإنشائية في قصة(قنابل النابالم الإسرائيلية) ص.74 مفتتحا نصه بجملة “هل أغلقت باب الدار يا صبحة ؟” والتي فضحها العنوان المباشر، ولو جعل القاص عنوانا آخر لقصته لاحتار المتلقي حتى في موضوع القصة.