د. محمد الشرقاوي أستاذ تسوية النزاعات الدولية بجامعة جورج ميسن في واشنطن، وعضو فريق خبراء الأمم المتحدة سابقا.
مقدمة:
يثير قرار الحكومة تقليص حركة السفر إلى المغرب عبر شركتي الخطوط الملكية المغربية والعربية للطيران ومينائي “سيت” في فرنسا و”جنوا” في إيطاليا مشاعر الحنق لدى جل مغاربة العالم بسبب ما يعتبرونه ابتزازا ماليا وعبيثة بيروقراطية. ويجسد هذا القرار تعثرا إضافيا لدى الرباط في إدارة قضية العالقين في الخارج والداخل منذ تفشي جائحة كورونا منذ مارس، وتعكس أيضا منحدرا غير مسبوق في علاقتها مع مغاربة العالم بموازاة وجود وزارتين ومؤسستين ولجنة وزارية تلوحان بالإشراف على “مصالح” الجالية المغربية. وقبل أيام، ألقى الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، محاضرة في ضيافة التجمع الوطني للأحرار قدم فيها تقييما نقديا لعدة قضايا عالقة منها قضية الهويات الجمع المتحركة وليس الهوية القارّة من وراء “عمالنا المقيمين في الخارج” أو “المغاربة المقيمين في الخارج، وموقع مغاربة العالم من نظريات الهجرة ونظريات الشتات، وسردية “الرعية” وسردية “المواطنة”، وتحوّل المشاركة السياسية لمغاربة العالم إلى “نية موقوفة التنفيذ”، وافتقار الأكاديمية المغربية لسوسيولوجيا الهجرة والشتات. في الوقت ذاته، تزداد مؤشرات الحنق وخيبة الأمل بين مغاربة العالم في تعامل الرباط مع ملف العالقين وبقية المغاربة في الخارج، مما يكرّس مشاعر القطيعة النفسية والاجتماعية والعزوف عن زيارة المغرب، فضلا عن التفاف فئات واسعة من المثقفين في أوروبا وأمريكا الشمالية حول فكرة التضامن والتعبير عن ذاتيتهم وقناعاتهم وتنظيم أنفسهم فكريا وسياسيا كشتات قائم بذاته.
أتناول اليوم محورا ينمّ عن عدد من المفارقات التي تُلحّ في راهنيتها وتكشف تقاطعات عميقة مع قضايا كانت عالقة قبل حقبة كورونا، وتتعزّز باستمرار الجائحة وتزداد أهميتها عند التخطيط لتنظيم الانتخابات المرتقبة عام 2021 إذا ظلّت في موعدها، وتستدعي الحسم فيها باعتبارها قضايا مفتوحة أمام المغرب الرسمي قبل الشعبي وأمام مغاربة العالم في كافة جغرافياتهم وخياراتهم وانتماءاتهم السياسية ومشاربهم الفلسفية. أجدني بذلك أمام مسؤوليتيْن متوازيتيْن: مسؤولية أكاديمية أو مسؤولية البحث العلمي في تحديد سبل واقعية وواعدة لتفكيك العلاقة بين المغرب ومغاربة العالم وتركيب صلة استراتيجية منتجة وليست مجرّد التغنّي بالرّوابط النوستالجية والروح الوطنية، وأيضا مسؤولية شخصية لاستنباط خلاصات لا أريد أن تغلب عليها النزعة الذاتية، وأنا أحد مغاربة العالم ونتاج تجربة مهنية وأكاديمية بين بريطانيا والولايات المتحدة.
في الوقت ذاته، أظلّ منفتحا على شتّى المشارب الفكرية والتيّارات الحزبية المتنافسة وإنْ ضعفت شعبية هذه الأحزاب في العقدين الماضيين بفعل ما أصبح عزوفا متزايدا لدى فئات الشباب وضجر ملموسا لدى أغلب الرأي العام من تخبط المنظومة الحزبية بيمينها ووسطها ويسارها. لكن، أتمسّك بحاجتنا جميعا في الداخل والخارج لنقاش صريح ورؤية نقدية صارمة، دون تخندق أو تعصّب ضدّ أيّ فلسفة سياسية بقدر ما أومن باحترام التعددية الفكرية والحوار المسؤول عبر مختلف المنصات. فأهلا بي وبكم في مغرب التعددية والطرح التقريضي critique باتجاه استعادة النبوغ المغربي حتى لا يحتكره جيل من الأجيال السابقة. وأتخيّل الرباط الآن وهي تخرج من رباطها، ومغاربة المعالم يتمرّدون على جغرافياتهم المتباعدة، لنلتقي في دائرة الحوار والاجتهاد المتبادل، وأنّ التوافق لا يلغي الاختلاف بقدر ما يساهم تباينُ الرؤى بين الداخل والخارج في تركيب استراتيجيات متنوّرة وواقعية.
تمثّل حقبة كورونا مرحلة غير مسبوقة وحيرة لا متناهية في تعامل الشعوب والحكومات مع الأوبئة والجائحات والركود الاقتصادي والبحث عن آليات الردع الوبائي بدلا من الردع النووي. بيد أنها تفرض تحدّيات مركّبة ومتداخلة، وتطرح أسئلة وجودية جديدة على سائر الجاليات المهاجرة بين دول العالم ومنها مغاربة العالم: ثمة سؤال المسافة الراهنة في تصوّر الرباط بين تعامل “الرعّية” إزاء أولئك المهاجرين وفلسفة “المواطنة” المنفتحة على أكثر من جغرافيا وأكثر من ثقافة؟ سؤال أخر يقتضي تحديد الخيار بين الخطاب المعياري التقليدي عملا بمقولة “عمّالنا في الخارج هم سفرائُنا” وشتّى أدبيات الدبلوماسية المغربية التي استثمرت في ثقافة الوصاية عبر السفارات والقنصليات والتكتلات الموالية لها بين المهاجرين، وخطاب الواقعية والبرغماتية من أجل تأسيس عروة وثقى بين الرباط وقرابة ستة ملايين مغربي ومغربية اختاروا أوطانا بديلة، ولا يتخلّون عن انتمائهم واستعدادهم لتسخير مهاراتهم وخبراتهم في بناء مغرب ديمقراطي حداثي ومتكافئ الفرص.
عندما يوجّه مغاربة العالم تفكيرهم نحو المغرب أو يقرّرون السفر إليه، هل يفعلون ذلك بعقولهم أو بقلوبهم أم بأيّ حافز واع أو غير واع آخر من أجل استدامة هذه العلاقة في منحاها المادّي والنفسي والمعنوي والمجتمعي؟ هم يتمسّكون ليس بثنائية الوطن أو الثقافة أو الانتماء العرقي والثقافي والحضاري بين أرض المهجر والوطن الأمّ فحسب، بل وأيضا بمواطنة عابرة للقارّات تسعى للتوفيق بين الحقوق والالتزامات والمبادئ والقيم المتداولة في سياق عالمي. في الأمس القريب، ظهر منصف السّلاوي في باحة البيت الأبيض ليتولّى مسؤولية البحث عن لقاح جديد ضد وباء كورونا، وبدأ اللغط بشأن ما وصفته السناتور إليزابيث وورن بأنه “تضارب جسيم في المصالح” بالنظر إلى علاقته بشركة موديرنا Moderna التي كان يعمل فيها وهي من بين المؤسّسات التي سيعوّل عليها في تصميم لقاح جديد. صحيفة “إنسايدر بيزنس” التي نشرت الخبر عرّفت السلاوي بأنه مواطن “أمريكي بلجيكي”. فاشتعل السجال العاطفي للدفاع عن “تمغرابيت” السلاوي إما بفرضية الجينات أو الحامض النووي المغربي في جسده أو فترة طفولته في المغرب وسائر التركيبات المختلفة للتشديد على أن السلاوي مغربي أوّلا وأخيرا.
فكيف ينظر المغرب الرسمي إلى هذه المواطنة المرنة، أو مواطنة “هنا وهناك”، أو “مواطنة بين المنزلتين” لدى مغاربة العالم؟ وقد أثارت حقبة كورونا استفسارات جديدة إزاء وضعهم عامة ووضع العالقين خاصة في القاموس السياسي المغربي. سواء كنا نتحدّث عن مغاربة العالم باعتبارهم مهاجرين أم نازحين أم شتاتا أو أي تصنيفات دلالية أخرى، هل هناك جالية متجانسة واحدة خارج الحدود، أم هي مجتمعات فرعية متناثرة في العالم خلال عام 2020 مثلا؟ وهل هناك ما يبرر احتراس المؤسسات الرسمية في الرباط وحتى بعض الأحزاب من مفهوم الشتات رغم وجوده ديمغرافيا وفكريا وسياسيا في الواقع في أكثر من دولة من دول المهجر، وقد تعزّز هذا التحوّل بفعل انتفاضات عام 2011، أو حراك الريف عام 2017، وأيضا تدني مستوى احترام الحريات العامة في المغرب في الأعوام الأخيرة. إذن، ثمة مخاوف مستدامة من حقبة السبعينات ومن الوصمة التي لحقت نشطاء اليسار المغربي خاصة في فرنسا. في المقابل، نلاحظ أن دولا أخرى مثل الصين وروسيا وإيطاليا وتركيا والبرازيل والولايات المتحدة تحتضن مفهوما إيجابيا للشتات، بل وتستثمر فيه سياسيا وثقافيا وحتى ماليا، إلى حد أن بعض المؤسسات الصينية الرسمية تتعّقب أثر الكفاءات الصينية في أوروبا والولايات المتحدة، وتنظّم لها طريق برواتب حسب المقاييس الأوروبية والأمريكية وليس حسب مستوى المعيشة داخل الصين. وتشمل هذه المؤسسات هيئات حكومية وشبه حكومية تعمل على عدة مستويات وطنية ومحلية ضمن ما يسمى “البنيات الصينية الخمس وراء البحار” wuqao للربط بين القطاعين العام والخاص والكفاءات الصينية في الخارج من خلال التنسيق مع وزارة الخارجية الصينية، وهي مجلس الدولة للشؤون الصينية في الخارج، ولجنة الشؤون الخارجية لدى حزب الشعبي الوطني، وفيدرالية كل الصين للصينيين العائدين من الخارج وغيرها.
لم يكن بإمكان الهند مثلا أن تصبح قوة تكنولوجية عالمية لولا الاعتماد على بعض شتاتها العاملين في الشركات التكنولوجية في “سيليكون فالي” في كاليفورنيا عاصمة التكنولوجيا. ويزداد عطاء الكفاءات الهندية ليس في بلورة سوق خدمات مزدهر لعدد كبير من الشركات الأمريكية والبريطانية ضمن ما يعرف بعملية التوظيف عن بعد outsourcing فحسب بل وأيضا في تعزيز مرتبة الهند في مجال الذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات الكبرى big data analytics. وأصبحت مدينة بنغالور أحد أهم المراكز التكنولوجية بل تجاوزت وضع سيليكون فالي إلى المرتبة الأولى عام 2017 باعتبارها أكثر المدن ازدهارا في الصناعات التكنولوجية. واستطاعت الهند تحسين مرتبتها في مؤشر الابتكار العالمي Global Innovation Index من المرتبة 81 عام 2015 إلى المرتبة 52 عام 2019. ويعوّل رئيس الوزراء الهندي على هذه الخبرات في الخارج والداخل للوصول ببلاده إلى تحقيق اقتصاد قائم على خمسة تريليونات دولار بحلول عام 2024.
ثمة استفهام عالق آخر منذ خمسة عشر عاما: ما هي الخلاصة الحقيقية لمبدأ “المشاركة السياسية” لهؤلاء المغاربة خارج الحدود منذ إقرار النية بشأنها ضمن الخطاب الملكي في السادس من نوفمبر عام 2005، وأيضا ما سطّره الفصل 17 في دستور عام 2011، وأين تقف الأحزاب والمؤسسات المختلفة إمّا من إشراك أو استبعاد نسبة خمسة عشر في المائة من المغاربة من صناديق الاقتراع وبالتالي تركيبة البرلمان عند أي عملية انتخابية في المستقبل؟ منذ عامين، ازداد تلويح الرباط بضرورة الانفتاح على الكفاءات المغربية في الخارج وإشراكها في البناء الداخلي. لكن السؤال العالق: ما هي الخطوات الإجرائية للتمهيد لمساهمة هذه الكفاءات المهاجرة فعليا ونقلها ذهنيا وعمليا إلى الواقع الجديد، أم أنه يظل خطابا معياريَ في الطرح ودبلوماسيَ في المقاصد؟ هل هناك جغرافيا معرفية للخبرات أو الكفاءات المغربية؟ قبل أيام، شدّدت كوثر الحافظي رئيسة قسم أبحاث الفيزياء النووية في جامعة أوريغون الأمريكية أنها لن تجازف بالعودة إلى المغرب والتخلي عن أبحاثها ومختبرها على خلاف باحثين آخرين قرروا العودة من كندا، وكما تقول “كلاو العصا، وتهرسو”، بسبب التداخل بين السياسة والبحث العلمي، وتتمسك بالقول إن التقدم “منظومة متكاملة تتجاوز الحاجة لتجهيزات أو مختبرات”، وهي تبدي الاستعداد للتعاون عن بعد.
تطول قائمة الأسئلة في المرحلة: هل هي نعمة أم نقمة أن يتوزّع ملف مغاربة العالم بين ستّ مؤسّسات رسمية في الرباط: 1) وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، 2) الوزارة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج، 3) مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج، 4) مجلس الجالية المغربية بالخارج، 5) اللجنة الوزارية لشؤون المغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة التي عقدت اجتماعها الثامن في العاشر من يوليو الجاري بحضور رأس رئيس الحكومة، السيد سعد الدين العثماني، و6) بعض الجهات التي تعمل من وراء ستار وتتأرجح بين مسعى احتوائهم أو استبعادهم، أو شيطنة بعضهم، إذا استعرضنا حصيلة العقود الخمسة الماضية منذ تأسيس “الوداديات” في فرنسا وبلجيكا وهولندا بعد 1973، وكيف أصبحت رؤية الجيل الثاني والثالث بين مغاربة العالم الآن إلى العلاقة مع المغرب جملة وتفصيلا؟ فمتى يتوافق المغرب الرسمي ومغاربة العالم، ومتى يختلفان في تحديد معضلات الحاضر وسبل المساهمة في البناء الاقتصادي والفكري والسياسي للمستقبل؟ وماذا تُخفي عبارة “مغاربة العالم” من فئات فرعية وبين من يُعدّون مهاجرين مؤقتين أو متجنّسين مقيمون إلى الأبد في دول المهجر، أو شتات متناثر في العالم، أو كما قال أحد الأصدقاء الفيسبوكيين “قلّة من المهاجرين وكثير من الشتات أو المنفى.” أحد الزملاء في جامعة عبد المالك السعدي في تطوان الدكتور محمد حيتومي يحفّزني على إثارة ما يعتبره “مطلبا تأسيسيا” حول مدى فعالية استعمال وتوظيف مفاهيم الشتات والمهاجرين ومغاربة العالم، ويسأل ألا يجدر بنا استعمال “مفهوم مهاجر من أصول مغربية”؟ وما هو “موقع الفعل” الممكن للمهاجرين من أصول مغربية في التركيب الاستراتيجي المحتمل؟
ما هي الأرضية المعرفية التي يستند إليها البحث العلمي المغربي في مجال الهجرة والشتات؟ ولماذا تظلّ في أغلبها حبيسة الدراسات الاقتصادية والقانونية والجغرافية؟ ثمة معضلة معرفية أخرى تتجلى في انعدام التوزان في الأبحاث الخاصة بمغاربة العالم بين منطلق دراسة الهجرة على حساب دراسة الشتات بمنطلق “ديسبوري” قائم بذاته مقارنة مع دول أخرى. ولا يزال هناك اختلال صارخ بين دراسة الهجرة المغربية في الغالب برؤية من الداخل وشبه غياب للدراسات السوسيولوجية لدراسة الشّتات المغربي برؤية من الخارج، باستثناء بعض الدراسات الأدبية للإصدارات القليلة في هولندا وفرنسا والولايات المتحدة. وتظلّ محاولة إسقاط الرؤية الأولى على الثانية قاصرة في البحث العلمي إنْ لم تكن شبه عبثية.
سأركّز على ستّة تحديات رئيسية تفرض نفسها الآن عند السعي لبلورة علاقة استراتيجية بين المغرب ومغاربة العالم ليس كرأسمال اقتصادي فحسب، بل وأيضا كرأسمال معرفي وكرأسمال سياسي يستطيع المساهمة في المصالح العليا للمغرب في شتى العواصم المؤثرة في توازن القوى والسياسة الدولية. وتتباين هذه التحديات بين ما هو بنيوي إداري، وما هو إبستمولوجي معرفي، وما هو وظيفي استراتيجي.
يكمن التحدي الأول في مدى اعتبار مغاربة العالم امتدادا لهوية قارّة أم ينبغي أن ننفتح على اعتبارات ظلّت مغيبة في الخطاب الرسمي لسبب أو لآخر؟ أمّا التحدي الثاني فيتجلى في سؤال أين موقع مغاربة العالم من نظريات الهجرة ونظريات الشتات في الدراسات السوسيولوجية الدولية؟ التحدي الثالث: مدى التوفيق أو التباعد بين سردية “الرّعية” وسردية “المواطنة” في الصلة المفترضة بين المغرب ومغاربة العالم. أما التّحدي الرابع فينطوي على تحديد النخبة بين مغاربة العالم وما السبيل لتمثيلهم سياسيا ومدى مساهمة الكفاءات أو الخبرات المغربية في الخارج في المحصلة النهائية. التحدي الخامس مدى توافق أو تنازع الاختصاصات لدى الوزارات والمؤسسات التي ترفع شعار خدمة قضايا مغاربة العالم. والتحدي السادس: تعثر الجامعة المغربية في بلورة معرفة سوسيولوجية بمنطلق من الخارج إلى الداخل وليس بالضرورة من الداخل إلى الخارج.
1. سؤال الهويات وليست الهوية المفرد!
في بداية الستينات، بدأت الرباط تنعتهم بعبارة “عمّالنا في الخارج”، وكانت وزارتا الخارجية والشغل في الرباط تتابعان أوضاعهم بفرضية أنهم “فئة محمية” قانونيا في دول المهجر وفقا عقود العمل المبرمة التي أبرموها. فأقيمت فروع البنك الشعبي داخل القنصليات أو حولها من أجل تسهيل تحويل مدّخراتهم إلى المغرب. لكن في الثمانينات، انفتح هؤلاء المغاربة النازحون على العمل في مقاولات وقطاعات خدمية بدل الاستكانة في أقنية المصانع، فتغيّر النعت إلى “عمّالنا وتجارّنا في الخارج”، قبل أن يجود الخطاب الرّسمي بعبارة ” المغاربة المقيمون في الخارج” كصيغة إجمالية لم تعد تركّز على أنهم مجرد أيدي عاملة لا تستحضر صورة من يعملون بأدمغتهم وليس مجرد عضلات أيديهم. غير أنّ تحوّلا مهما في سيميائية الخطاب طرأ عام 1989 عندما بدأ تداول عبارة “مغاربة العالم” كمظلّة لغوية أنيقة المنحى فضفاضة المعنى.
يُمثل هذا النعت الجديد انقلابا على إرث الدّلالة الكلاسيكية لمفهوم “عمّالنا في الخارج” الذين سعت الدولة لتوجيههم ورصد توجّهاتهم من خلال “الوداديات” في أوروبا في السبعينات والثمانينات. قد يكون وصفا ينطوي على بعض اللباقة السياسية ومحاولة تجاوز القصور في منحييْن أساسييْن: أوّلا، تردّد المغرب في تحديد تصوّره لحقيقة نموّ الجاليات المغربية بمن فيهم الجيل الثاني والثالث، وأحيانا الرابع، من المغاربة الأوروبيين والمغاربة الأمريكيين وغيرهم. هم يُشكلون نواة شتات قائم بذاته من خلال الهوّيات المزدوجة بين البلد الأصل وأرض المهجر وتصوّراته للعالم وتطلّعاته العابرة للحدود. هناك عدة فرضيات متداولة حول الهجرة ومغاربة العالم تستدعي إعادة النظر في وحدة التحليل الأساسية المفترضة في تفكيك العلاقة. ولا يزال الخطاب الرسمي يعتدّ بعنصر الارتباط بالدّم والنّسب والهوية لديهم، ودعوة عدد منهم سنويا لحضور احتفالات عيد العرش، وبرامج الجامعات الصيفية المغربية التي ترعاها الدولة كأداة لتعبئة شباب المهاجرين.
قبل عامين، كان مغاربة أوروبا أكبر مجموعة من بين 800000 من المهاجرين الذين حصلوا على الجنسية في البلدان الأوروبية. ووفقًا لإحصائيات مؤسسة يوروستات Eurostat، كان 67900 شخص منهم أو 83٪ ممن حصلوا على الجنسية الإيطالية أو الإسبانية أو الفرنسية مغاربة، فجاءوا في مرتبة قبل مواطني ألبانيا والهند. واحتل الأتراك المرتبة الرابعة، يليهم المجنسون من رومانيا وباكستان وبولندا والبرازيل. إذن، من هم حقيقة بين تصنيفات “مغاربة العالم” القادمة من الرباط وبقية التصنيفات المحلية في دول المهجر مثل “مغاربة أمريكيين”، أو “مغاربة أوروبيين”، أو “مغاربة أيفوريين”، أو حتى “أستراليين من أصل مغربي”؟ وإلى أين هم ذاهبون بهذه الهويات المزدوجة أوHyphenated names والثقافات المركّبة والرؤى العالمية التي تتجاوز جينات الدم أو حدود الأرض أو نقاط الجمارك أو ختم الجوازات؟ قبل سبعين عاما، كتب الروائي البريطاني الساخر جورج أورويل عبارة مثيرة في معناها ومغزاها قائلا إن “أسوأ شيء يمكن للمرء أن يفعله بالكلمات هو الاستسلام لها”، وأضاف أن على المرء “السماح للمعنى باختيار الكلمة، وليس العكس.” أستحضر مقولة أوريل للتمهيد لاستعراض الفرق بين أن يُسقط المغرب هوية واحدة على قرابة ستة ملايين موزعين بين مائة دولة وفي أعمار ومستويات تعليمية وتجارب حياتية مختلفة، هي هوية تدخل في تركيبها عدة عناصر عرقية ولغوية وثقافية يفترضه المغرب ومنها الاعتداد بما يسمى في الأدبيات “الثوابت والمقدّسات”، وبين أن يساهم هؤلاء المغاربة النازحون في تحديد هويتهم وخطابهم بشكل غير ملائم.
سؤال الهوية في نظري ينمّ عن أربعة أبعاد متزامنة ومتحرّكة بين التّلويح بهويات متوازية بمعناها الثقافي والسوسيولوجي في وقت ومكان معين وفق نظرية الهوية theory Identity ضمن كتابات الأوائل مثل هنري تاجفيل وجون ترنر من جهة، والتركيب الذاتي لهذه الهويات أو Self-identification بشكل يرفض الجمود أو الاستكانة من جهة أخرى. هناك الهوية الأصلية أو الوطنية التي يُسقطها المغرب على من يقيمون في دول أخرى ولا تسقط عنهم الجنسيةُ المغربية، وهناك أيضا هوية المواطن المجنّس التي تحدّدها ألمانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو غيرها من دول المهجر مثلا لهؤلاء القادمين من المستعمرات القديمة أو من وراء البحار. لكن هناك هوية ثالثة يتمسّك بها هؤلاء المصنّفون ضمن خانة مغاربة العالم عند التعامل مع المغرب الوطن الأصل وهي هوية مزدوجة بين هنا وهناك داخل المغرب، وهناك أيضا هوية رابعة عند تأكيد حقوق المواطنة لديهم خلال وجودهم في دول المهجر. المهمّ أن هذه الهويات الأربع تنبني جميعها على بنائية اجتماعية وذهنية ودلالات نفسية واعتبارات قانونية وسياسية متحرّكة. وكما يقول عالم النفس الاجتماعي البريطاني بيتر وينريش Peter Weinreich إن هوية الشخص تُعرّف بأنها “مجمل التفسير والتركيب الذاتي للمرء، إذ تعبر كيفية تفسير المرء لنفسه في الحاضر عن الاستمرارية بين الكيفية التي يفسر بها من كان في الماضي وكيف يفسر ما يطمح إلى أن يكون في المستقبل.” هكذا تحمل الهوية العرقية أو الإثنية لمغاربة العالم مجمل التفسير الذاتي لديهم لتلك الأبعاد التي “تعبّر عن الاستمرارية بين مفهوم الفرد لسلفه السابق وتطلّعاته المستقبلية ضمن دائرة الانتماء العرقي.”
2. أين مغاربة العالم من نظريات الهجرة ونظريات الشتات؟
في سبعينيات القرن الماضي، كان مفهوم الشتات في كثير من الأحيان مرتبكًا أو مختلطا بشكل غير مريح مع مفاهيم أخرى مثل “الهجرة” و”المهاجرين” في الدراسات السوسيولوجية الدولية. ونتيجة لذلك، ظلّت دراسة الشتات محجوبة بسبب الاهتمام المهيمن بالهجرة قبل كل شيء آخر، في حين أنّ الهجرة والشتات مفهومان لهما دلالات تاريخية وسوسيولوجية متباينة. فقد اكتسب “الشتات” أهمية تاريخية وثقافية بعد ظهوره في الترجمة اليونانية لكتاب “سفر التثنية من الكتاب المقدّس العبري” Deuteronomy of the Hebrew Bible، وأشار إلى الشّتات اليهودي في بابل. وكان المؤرّخ اليوناني Thucydides أوّل مثقف يستخدم المصطلح في إشارة إلى شتات الإغريق. مع تداول مفهوم الشتات، استخدم الباحثون بشكل متزايد مصطلحات البستنة مثل “اقتلاع الجذور”، والتشتت”، و”الزرع” وحتى لفظ كلمة “التهجين” الحديث.
ترتبط معظم الدّراسات بهذا المصطلح بشكل أساسي بين الشتاتين القديمين: اليوناني واليهودي. ولكن في العقود الأخيرة، اتسع النقاش بين العلماء حول ما إذا كان ينبغي أن يظل الشتات اليوناني واليهودي الحالة المركزية في دراسة تاريخ الشتات. على سبيل المثال، يتمسك عالم السياسة ويليام سفران William Safran بفكرة “أننا قد نتحدث بشكل شرعي عن الشتات الأرمني والمغاربي والتركي والفلسطيني والكوبي واليوناني، وربما الشتات الصيني أيضا في الوقت الحاضر والشتات البولندي في الماضي”. بيد أنّه لا يتخلى عن تفضيله للأصل قائلا إنّ هذه التجارب المختلفة للشّتات لا تتفق تمامًا مع “الصّنف المثالي” للشتات اليهودي”.
ومع ذلك، لايزال الخط الفاصل بين “الشتات” و”الهجرة” يكتنفه الغموض، سواء في مجال البحث أو في وضع السياسات العامة. ويسلط تيموثي شو Timothy Shaw ومؤلفون آخرون في “كتاب بلغريف للاقتصاد السياسي الدولي المعاصر”، الصادر في 2019، الضّوء على تداخل منطلقات البحث فيما بينها. فهم يميزون بين لفظ “الهجرة” الذي ينطوي على فكرة الحركة في المكان والزمان، ولفظ “الشتات” الذي لا يعني الحركة فحسب، بل الأهمّ من ذلك وجود وعي وتواصل بين الأفراد والمجموعات في بلديْن أو أكثر بناءً على علاقة اجتماعية هادفة ودائمة ومتداخلة.” ولا يزال “الإخاء” القسري بين الهجرة والشتات غير مستقر في القرن الجديد. يقترح خبير التنمية في جامعة أوكسفورد والرئيس السابق لوحدة الأبحاث في البنك الدولي Paul Collier في كتابه الأخير Exodus: How Migration Is Changing our World “الهجرة الجماعية: كيف يمكن للهجرة أن تغير عالمنا”، يقترح نموذجًا مبسطًا للهجرة ويربطه بحجم الشتات. ويقول إنّه كلّما كان حجم مجتمع الشّتات أكبر، كلما أصبحت الهجرة أسهل. في الوقت ذاته، يُساهم وجود الشتات بأعداد كبيرة في تقليص وتيرة اندماج المهاجرين في مجتمعهم الجديد. وبالتالي، يمكن أن تؤدي الهجرة غير المقيدة، في ظل ظروف معينة، إلى نموّ هائل في المهاجرين، مما يزيد من حجم الشتات ويوقف الاندماج.
يمكن تصوّر الجدول الزّمني لتطور مفاهيم الشتات ودراساته المتخصصة في أربع مراحل تبدأ بـمرحلة الاهتمام بالشتات اليهودي “الكلاسيكي” في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ثم بدأت المرحلة الثانية في الثمانينيات بالتحول نحو احتضان مفهوم أكثر جماعية للشتات وتوسيع دائرته لاستيعاب المزيد حتى المهاجرين لفترات زمنية غير طويلة ومن لديهم ملامح بيولوجية وخصوصيات ثقافية مختلفة. وتم نشر مفهوم “الشتات” كـ “تسمية مجازية” لوصف فئات مختلفة من الأفراد سواء “المغتربين، أو المطرودين، أو اللاجئين السياسيين، والمقيمين الأجانب، والمهاجرين، والأقليات العرقية”، كما يقول وليام سافرن. وساهم الاتّجاه المتزايد للبنائية الاجتماعية social constructivism في ظهور المرحلة الثالثة بمقاربة ما بعد الحداثة ومرونة الهوّيات وتحوّل الخطابات. وتأثرت ب”قراءات ما بعد الحداثة وسعي بعض دعاة البنائية الاجتماعية إلى تحلّل اثنين من لبنات البناء الرئيسية التي كانت تحدد وترسم في السابق فكرة الشتات، وهما “الوطن” و “المجتمع العرقي/الديني”. فانفتحت دراسات الشّتات تدريجيا على ظاهرة ربما تميزت بأنها “خطوة ما بعد الحداثة لتفكيك نظرة المركزية العلمية من الخارج وأحادية التوجه للشؤون الإنسانية التي تربط السرديات والخبرات بأعراق معينة وأصولها”، كما يقول جيمس كليفورد. ويعتبر مؤرخ دراسات الشتات فرانك جوريدي Frank Guridy ما يصفه “السياسة المحلية والعابرة للحدود في آن واحد”، مثل التي وصفها بعض الشعراء المقيمين بين هافانا في كوبا وهارلم في نيويورك، مثالا على الطرق التي أظهر بها الباحثون العلاقة الحميمية للشتات، وكيف أصبحت تلك العلاقات الصغرى عنصرا محدّدا للتأثير والتغيير بدرجات متعددة. وساهمت أعمال جون أرمسترونغ، وإدوارد سعيد، وروبن كوهين، وستيوارت هول، وغابرييل شيفر، وجيمس كليفورد، وبول غيلروي، وغيرهم من منظري المدرسة النقدية بشكل كبير في بلورة نظرية الشتات ووضع الأساس لدراسة المنحى متعدّد الجنسيات.
بدأت المرحلة الرابعة مع مستهلّ القرن الحادي والعشرين عندما تغيّرت قراءة الباحثين إلى الشتات على أنه “وسيلة لتنظير الثقافة والسياسة على مستوى عابر للحدود”. ولاحظ شيفر كيف أنّ الشّتات القديم والحديث والمقبل “يظهر قدرة أكبر بكثير على البقاء ومواصلة تطوّره ككيانات نشطة للغاية في دول الاستقرار ولهم ارتباط بأوطانهم الأصلية. يحدث هذا نتيجة عودة النّزعات الإثنية القومية وإحياء الهوية العرقية في كلّ من الدول الأصل ودول الاستقرار. ويعتبر كوهين العصر الحالي بأنه “مرحلة التوحيد”، لأنه يتميز “بإعادة تأكيد معدّل أو وتيرة الشتات بما فيه العناصر الأساسية والميزات المشتركة والأنساق المثالية.” في مؤتمر علمي تمّ تنظيمه أوائل عام 1998، أعلنت سوزان كوشي Susan Koshy، رئيسة تحرير مجلة Diaspora آنذاك، أنّها قد نشرت مقالات تتعلق بثمان وثلاثين من حالات الشتات المختلفة في العالم. ويؤكد عالم الأديان والاندماج الاجتماعي، مارتن بومان Martin Baumann، يؤكد أن الشتات أصبح متحرراً الآن من أي إشارة إلى أيّ تاريخ يهودي، ويمكنه “الإحالة إلى أيّ عمليات شتات وعلاقتها بجاليات النزوح والهجرة في العالم التي لا تعدّ ولا تحصى”.
بهذا المنطق، لم يعد “مغاربة العالم” اللاحقون ولا “عمّالنا في الخارج” السابقون مجرّد مهاجرين موسمين ولا باحثين عن فرصة عمل وادخار مبلغ يكفي للعودة واقتناء منزل أو حانوت، بل تجتمع فيهم حاليا أوضاع النازحين والمهاجرين الدائمين بل وأيضا الشتات على غرار بقية مجتمعات الاغتراب. ولا يحيد وضعهم عن وضع سائر الأقليات في أوروبا وامريكا الشمالية وغيرهما. وبالنظر إلى تعقيد التركيب المفاهيمي للشتات في مختلف العلوم الاجتماعية، أقترح تعريفًا يقتضي أربعة عناصر مشتركة تنطبق على الشتات المغربي كما حال الشتات العالمي:
• التشتت الأفقي لجماعة عرقية عبر عدة مناطق جغرافية في العالم، وكما ذكرت مغاربة العالم يقيمون في مائة دولة، وهذه إحصائيات أوروبية وليست مغربية.
• شعور مجتمعي بالترابط معا والتضامن أو الإحساس بالنّحْنِية (كناية عن نحن) كهوية جماعية وخطاب تحوّلي عن الذات الجماعية والنضال والمرونة.
• وجود ثنائي الإقليم أو الموطن من خلال السفر والتواصل الفوري بين بلد المهجر قد تكون أوروبا والبلد الأصل وقد يكون المغرب.
• تكريس إنتاج ثقافي والتعبير عن الذات بين المنزلتين (بين الثقافة الأصلية والثقافة المكتسبة) حول ما يعايشه الشتات بينهما، أو ما يمكن تسميته بعبارة “مدفعية الشتات” diaspora cannon.
قال خاشيغ تولويان مؤسس المجلة الأكاديمية Diaspora: A Journal of Transnational Studies ذات مرة: “في أي وقت حدثت فيه عمليات تشتت بشري، أصبح هناك شتات”. قد يبدو هذا المنطق مبسَّطًا أو فضفاضا. ومع ذلك، فإنه يعني كيف نمت البذرة في أرض أجنبية إلى شجرة اجتماعية لإعطاء هؤلاء الشتات شعوراً بالتاريخانية Historicity والوقتية Temporality وتحقيق الذات. وغالبًا ما يتعدى ذلك كالمطالبة بالماضي كمركزه الواقعي. ويقترح المحلّلون آخرون معيارًا من ثلاث نقاط: 1) الحفاظ على الهوية الجماعية الخاصّة وتطويرها بين أفراد الشتات”، 2) وجود تنظيم داخلي يختلف عمّا هو موجود في البلد الأصلي أو بلد الاستقرار، 3) اتصالات مهمّة مع الوطن الأصلي: اتصالات حقيقية (مثل التحويلات خلال السفر) أو اتصالات رمزية.”
قد يُلمح نمط التشتت والسفر أو الوجود المشترك بين “هنا” و “هناك” في بعض الأحيان إلى حالة غير مستقرة لدى الشتات. وتفترض الباحثة أسماء أورقية أنّ “الانتماء إلى مجتمع الشتات يظل موضع عدة اسئلة. ففي عالم أصبح فيه السفر والاتصال أسهل من أي وقت مضى، يعتمد تحديد ما إذا كنا قد تفرقنا عن أصولنا أم لا على قوة روابطنا مع مجتمعاتنا، سواء كانت تلك التي نعيش فيها أو تلك التي نوجدها من خلال الرحلات.” ومع ذلك، يجب ألا تكمن الوحدة الحقيقية للتحليل في دمج، أو عدم دمج، الشتات في بلد الاستقرار (على سبيل المثال، هولندا وفرنسا والولايات المتحدة..)، أو الانتماءات الاجتماعية الاقتصادية أو السياسية الحالية مع الوطن (المغرب)، بدلاً من الوضع الدائري للتفاعل والمشاركة، والتقارب والاختلاف بين الموطنين كما يظهر في الجدول “علائقية الشتات”.
أتمسّك بمركزية كيفية تطوير الشّتات وتحديث دينامياتهم في هذه العلاقة، أو ما أسمّيه “علائقية الشتات”. هي علائقية تنطوي على جوانب دائرية مختلفة من الارتباط والتّداخل ضمن نطاق تأثير الشتات في كل من بلد الاستقرار والبلد الأصلي، أو “طرفيْ المكان” كما يتخيّل سافران. وتظلّ هذه العلائقية في الشتات مستمدة من ثنائية الجغرافيا، وثنائية المجتمع، والأبعاد العالمية لوجودهم، وتتجاوز درجة ولائهم أو مصالحهم الملموسة. وليس المجتمع مساحة تشمل علاقات، أو ساحة تدور فيها العلاقات. إنه بالأحرى نسيج العلاقات، فالمجتمع “علاقة” وليس “له علاقات”. وفي عصر الإعلام الجديد وتواصل مواطني العالم على مدار الساعة، يبدو أن علائقية الشتات تتحرّك عبر عدة طبقات من الترابط المتزايد بينهم والبلد الأصل وبلد الاستقرار من خلال أنشطة عابرة للحدود داخل الدائرة. يشير عالم الاجتماع الأمريكي روجر بروبكر إلى أن “الشتات” يُفهم بشكل أفضل على أنه مجال المواقف المتنافسة أو فئة من الممارسات أكثر من كونه جهة فاعلة سابقة. ويمكن أن تتم تلك الأنشطة عبر للحدود وقد “يتم تنفيذها من قبل جهات فاعلة قوية نسبيًا، مثل ممثلي الحكومات الوطنية والشّركات متعدّدة الجنسيات، أو قد يتمّ إطلاقها من قبل أفراد عاديين مثل المهاجرين وأقرباء أو أصدقاء لهم في الوطن الأصلي. لا تقتصر هذه الأنشطة على المؤسّسات الاقتصادية، وقد تشمل المبادرات السّياسية والثقافية والدينية أيضًا.”
يعتدّ عدد من الكتاب وعلماء الاجتماع بتجربة الجغرافيا المتعددة والثقافات المتراكمة. فعلى سبيل المثال، تتذكر عالمة الاجتماع البريطانية الهندية أفتار براه Avtar Brah أنها عاشت في أربع من القارات الخمس: أفريقيا وآسيا وأمريكا وأوروبا، وكيف “أصبحت تجاربُها مع النزوح والتشتت ومسائل الاختلاف والتضامن والهوية أساسية في أعمالها وكتاباتها”. ويتوافق تطور الشتات أيضًا مع ما رمى إليه الكاتب المعروف إدوارد سعيد صاحب كتاب “الاستشراق” ضمن نظرياته النقدية عمّا تستقيه الأسفار والحصول على أبعاد دلالية جديدة. فكتب يقول “مثل الأفراد ومدارس النقد، تسافر الأفكار والنظريات من شخص إلى آخر، ومن وضع إلى آخر.” أما ستيفن فيرتوفيتش عالم الأنثروبولوجيا ومدير معهد ماكس بلانك الألماني لدراسة التنوع الديني والعرقي فيقول إن هناك على الأقل ثلاثة معاني واضحة لمفهوم “الشتات”. تشير هذه المعاني إلى ما يمكن أن نسميه 1) “الشتات” كشكل اجتماعي، و2) “الشتات” كنوع من الوعي وهو وعي جماعي بالضرورة، و3) “الشتات” كطريقة للإنتاج الثقافي. والملاحظ أن مغاربة العالم يجسدون هذه الثلاثية: هم شكل اجتماعي، وهموعي قائم بذاته، وهم أيضا طريقة الإنتاج الثقافي. وينطوي الشكل الاجتماعي على ثلاثة عوامل: عملية النزوح بالنسبة لجالية تعيش في أراض أجنبية، والمكان أو المساحة الجغرافية التي تعيش فيها هذه المجموعات المتفرقة. ثمّ الشتات كنوع من الوعي الذي يشير إلى “مجموعة متنوعة من التجارب وحالة ذهنية وشعور بالهوية”، و”الوعي بالمُرْفَقات اللامركزية المحمولة من الوطن الأصلي وبعيدًا عنه في الوقت ذاته أو جدلية “هنا وهناك”، أو الوعي بالمواقع أو الجغرافيات المتعددة.”
مغاربة العالم وأجيالهم الجديدة لا يحيدون أيضا عن مواصفات ما أصبحت الدراسات المعاصرة تعتبرها أصناف الشتات ومنها “الشتات الثقافي”، أو “الشتات الرقمي”digital diaspora، أو “الشتات الافتراضي” virtual diaspora كناية عن “استخدام الفضاء الإلكتروني من قبل المهاجرين أو أحفاد مجموعة مهاجرة لغرض المشاركة أو الدخول في عمليات تفاعلية عبر الإنترنت.” أيضا تشكل سيولة الهوية وتحديدها من منطلق ذاتي عنصرا متغيّرا في تشكّل الشتات المغربي مثل أيّ شتات آخر. ويتمسّك عالم الاجتماع الأمريكي ستيوارت هول بوجود نظام أخلاقي عصامي البناء لدى الفرد وكذلك بين مجتمع الشتات، إذ يعتبر الوعي لدى هذا الشتات بمثابة “وعي محدّد ويُفترض أنه سمة من سمات الأشخاص الذين يعيشون “هنا” ويظلّون متعلّقين بـ”هناك”. فوعي الشتات هو “نتاج ثقافات وتاريخ لحصيلة التصادم والحوار. وبالتالي تشكّل قضايا الشتات صيغا متميزة من التجربة الحديثة العابرة للحدود بين الثقافات”، كما يقول هول.
استحضر هنا تجليات هذا البعد السوسيولوجي في الكتابة الأدبية بين شتات المغاربة ضمن كتاب صدر قبل ست سنوات بعنوان Space and Identity in Contemporary Moroccan Diaspora Literature”الفضاء والهوية في أدب الشتات المغربي المعاصر”، وركز فيها ميمون الداودي على تحليل النصوص الأدبية لبعض كتاب الشتات المعاصرين في ا، منها Abdullah’s Feet لحفيظ بوعزة، وWedding by the Sea لعبد القادر بنعلي، و”سيدي يوسف” لأنور ماجد، وHope and other Dangerous Pursuits لليلى العلمي وUne femme pour pays لماجد بلال، وAller simple لرشيدة المفضّل. ويخلص الداودي إلى أن الهوية المتحوّلة لدى الشتات المغربي “لا يتم فهمها على أنها شيء ثابت أو جوهر ثابت أو حقيقة واقعة، ولكن كشيء يتغيّر ويتغير دوما، ولا يكتمل أبدًا. إنتاج الهوية عملية غير مستقرة… فلقد تم الاحتفاء بفكرة الشتات على أنها تعبير عن مفاهيم التهجين، وعدم التجانس، وتفتيت الهوية، وإعادة الإعمار، والوعي المزدوج، وكسور الذاكرة، والتناقض، والجذور، والطرق العالمية المتباينة والمحليات المتعددة، وهكذا دواليك.”
قد ينمّ الترابط بين الهوية والوطن الأصلي عن مشكلة ذات أبعاد نفسية وثقافية. وأظهرت الدّراسات الحديثة لعدد من الكتاب المغاربة الهولنديين كيف أنهم كمهاجرين وأعضاء في الشتات عبر ثقافات متعدّدة “ينشغلون بمسائل الأصل والانتماء من خلال التفاوض على فضاء بينهم بين المغرب وهولندا، وهم بذلك يحومون بين ما هو محلي وما هو عالمي.” فرغم مرونة الانتقال بين العالمي والمحلي، يتبنّى الشتات المغربي هوية “نحنية” مركّبة، كمجموعة اجتماعية محلية تجد نفسها عند تقاطع ما هو محلي أو وطني وما هو إقليمي أو عالمي. يعرّف عالم النفس الاجتماعي فاميك فولكان “النحنية”weness بأنها “نشاط مشترك للقضاء على ما هو غير مرغوب فيه وغير متكامل، والالتفاف حول العناصر الذاتية المشتركة التي تسهم في عملية تطوير “نحنية” مرنة وتتبلور بين أعضائها تدريجياً. ويتم اكتساب المفاهيم الثقافية المستفادة مثل العشيرة والجنسانية والعرق في مرحلة لاحقة من التطور، وتظلّ بالتالي عوامل مهمة في ترسيخ تطوير “النحنية” ضمن هوية اجتماعية كبيرة. ويصبح هذا الشعور الجماعي تضامنا فرعيا بين وحدتي تضامن وطنية في بلد الإقامة والوطن الاصل من خلال عنصري العاطفة والولاء. يتصور الفيلسوف الألماني كورت بيارتز Kurt Bayertz التضامن بمثابة ارتباط متبادل بين الأفراد ويشمل مستويين: “مستوى واقعيا للأرضية المشتركة الفعلية بين الأفراد، ومستوى معياريا للالتزامات المتبادلة لمساعدة بعضهم بعضا، عندما يكون ذلك ضروريًا.”
بيد أن هناك صلة مثيرة للمقارنة بين الهويات وفضاءات الشتات، وكمثال بين الشتات المغربي في سبعينيات القرن الماضي ومثلا أبناء الريف أو “ارْيَافَة” في أوروبا في الأعوام القليلة الماضية. وقد تجد بعض الجهات في الرباط صعوبة في الردّ على سؤالين رئيسيين: أ) من الذي يمكن اعتباره من الشتات وتحت أيّ معايير ضمن إطار “مغاربة العالم” أو “المغاربة المقيمين في الخارج”؟ ب) ما هو نطاق تسمية “الشتات” كنظرية شاملة لدراسة أشكال متعدّدة من الهجرات. ويؤكد أندريا ريجوني منسق الشبكة البرلمانية المعنية بسياسات الشتات، وهي هيئة دولية أُنشئت في لشبونة في سبتمبر/أيلول 2017، أنه “ينبغي ألاّ نحصر مفهوم الشتات في علاقته مع بلد الاستقرار ولا مع البلد الأصلي. بدلا من ذلك، يشكل الشتات هوية ثالثة موجودة بين المنزلتين، ويتشبّع بحركية المرور، حقيقيا أو خياليا، بين البلدين. في كثير من الحالات، يؤسس الشتات تلك الحركة، مما يخلق وسيط عفويا يجمع البلدان ثقافياً واقتصاديًا وسياسيًا.”
قبل سنوات قليلة، كلّفت المفوضية الأوروبية مؤسّسة راند أوروبا RAND Europe ومعهد دراسات العمل IZA بإجراء دراسة لرسم خرائط جاليات الشتات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وكان التركيز على عدد من مجموعات الشتات الرئيسية مع مراعاة ثقلهم الديموغرافي في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومشاركتهم في التنمية السياسية والاقتصادية لبلدانهم الأصلية، وفي التأثير على العلاقات بين تلك البلدان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فكان المغرب بين قائمة البلدان المختارة للتحليل المتعمق إلى جانب أفغانستان، والجزائر، وجيبوتي، ومصر، وإريتريا، وإثيوبيا، والهند، والعراق، وكينيا، وليبيا، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وباكستان، والفلبين، والصومال، والسودان، وجنوب السودان، وسريلانكا، وسوريا، وتونس، وتركيا، وأوغندا، واليمن، وكذلك الشيشان وكشمير. فجاء الشتات العراقي في السويد في المرتبة الأولى من حيث الظهور والتأثير في الحياة العامة، بنسبة 2.57 في المائة، يليهم الأتراك (2.34 في المائة) والمغاربة (2.14 في المائة) في هولندا. ومثلت عشر مجموعات من الشتات أكثر من 1 في المئة من مجموع سكان بلد الاستقرار. وتعدّ تركيا والمغرب والهند ضمن البلدان مصدر أكبر عدد من الشتات ذوي النسبة العالية في الظهور والتأثير في المجال العام في تلك الدول ضمن 10 في المئة الأعلى من الملاحظات والتحليل.
في السنوات الخمس الأخيرة أيضا، بدأ الاهتمام العلمي بما يسمى Political remittances أو “التحويلات السياسية” عند تقاطع علم الديموغرافيا والاقتصاد والعلوم السياسية من أجل تقييم ما إذا كان المهاجرون يؤثرون على التغيير السياسي في أوطانهم. وفي يونيو 2017، استضافت جامعة أكسفورد البريطانية مجموعة من الباحثين الأوروبيين لمناقشة موضوع Political Remittances and Political Transnationalism: Narratives, Political Practices and the Role of the State “التحويلات السياسية ورسم السياسة عبر الحدود: السرديات والممارسات السياسية ودور الدولة”. ويقدم مجال البحث الناشئ هذا بديلاً محايدًا تاريخيًا لمفاهيم مثل “الفضاء السياسي العابر للحدود” الذي يفرض أفكارًا عن وجود الدولة والأبعاد الترابية كموادّ للدراسة ضمن سياقات لم تكن ملائمة من قبل، كما جاء في الورقة المرجعية التي انطلق منها المؤتمر. واستعرض المشاركون الأبعاد السياسية للروابط العابرة للحدود من خلال دراسة الحالات المستمدة من القرن التاسع عشر حتى القرن الحادي والعشرين. وشملت السياقات الجغرافية في رؤية الندوة ألمانيا والدنمارك والنمسا وفرنسا واليابان والولايات المتحدة والمكسيك والمغرب وتونس ومصر وتركيا، بالإضافة إلى العديد من الدراسات المقارنة. وفضلا عن دراسات الهجرة ودراسات الشتات، توفر الأدبيات الاجتماعية والسياسية لنشاط المجتمع المدني مصدرا غنيا للبيانات. ومع ذلك، لا تزال البيانات الكمية ضئيلة.
هناك أربع عمليات متوازية لإعادة بناء العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك المجال الديني. وتظهر هنا بين الشتات وتيرة علاقة جدلية بين المستودع الثقافي للوطن الأصلي وأيضا بلد الاستقرار. اثنتان من العمليات الأربع بنيوية، والأخريان تعتمدان على ذاتية الأفراد في مجتمع الشتات وما لديهم من مستوى تعليمي وطبيعة نشاطاتهم في المجتمع. وعلى سبيل المثال، يتم تصميم العمليتان البنيويتان من قبل الدولة والمؤسسات المغربية بما ينطوي على مسار أيديولوجي ودبلوماسي معين (الدولة المغربية >>> الشتات) وأيضا مؤسسة بلد الاستقرار من خلال حزمة من السياسات العامة والقيم الاجتماعية المعينة (بلد الاستقرار >>> الشتات). وتبقى العمليتان المتبقيتان نتيجة الانتماء أو التكامل أو التبعية أو الاستياء أو المعارضة أو مقاومة الشتات أنفسهم تجاه الوطن (الشتات المغربي >>> المغرب) وبلد الاستقرار (الشتات المغربي >>> بلد الاستقرار) كما يبيّن الجدول “التحويلات السياسية للشتات”.
3. توفيق أم تباعد بين سردية “الرعية” وسردية “المواطنة”؟
عند تفكيك الصلة المفترضة تاريخيا بين المغرب ومغاربة العالم، ركزت سياسة الرباط في مجال الهجرة منذ السبعينات بالخصوص على “الدفع بالتحويلات المالية إلى أعلى مستوى ممكن كأداة لتغطية العجز التجاري المتزايد للمغرب ولتنمية الاقتصاد الوطني”. واعتبرهم الملك الراحل الحسن الثاني “رعاياه”، واعترض على “أي شكل من أشكال الانتماء إلى بلدان الاستقرار، كما قال في إحدى مقابلاته مع التلفزيون الفرنسي. “إنهم لن يندمجوا قط … ولا أشجعكم على ذلك فيما يتعلق بشعبي عند محاولة اختلاس جنسيتهم لأنهم لن يكونوا قطّ فرنسيين بنسبة 100٪.” لقد رفض الحسن الثاني أن يتم دمج رعاياه في المجتمع الفرنسي، لأن ذلك سيقلل من “تمغرابيت” المغاربة.
هذه الدّعوة الصّريحة لعدم الاندماج في أوروبا ومحاولة إطالة مدى “تمغرابيت” و”الولاء” الشعبي والعاطفي للمغرب أدت إلى تفادي التعامل مع نشوء شتات مغربي خاصة في أوروبا. ويبدو أن مفهوم ” المغاربة المقيمين في الخارج” وهو مغال في التمطيط لمهاجرين أو عمّال موسميين في أغلب الحالات، ينمّ عن معضلة في تصوير الواقع الراهن. وقد أشار بعض الباحثين إلى بعض أوجه القصور التي تعتري موقف الدولة المغربية: 1) نظرة ضيقة للغاية إلى وجود المغاربة خارج الحدود وحركتهم هناك، وتظل تركزّ أساسا على فكرة “العودة المحتملة” إلى المغرب، 2) اتكال على فرضية غير صحيحة بأن استقطاب هؤلاء نحو المغرب لن يتحقق إلاّ بتعزيز وازع “تمغرابيت”، أو الروح المغربية، وهي فرضية ليست دوما واقعية، إذا ابتعدنا عن الطرح العاطفي أو المعياري لتلك العلاقة، 3) فرضية اجتماعية واقتصادية خاطئة مفادها أن مغاربة الخارج الذين يسلكون المسار الاستثماري أو المقاولاتي تحرّكهم الفرص المحتملة في المغرب وليس الضرورة.”
لم يثر مفهوم الرعية نقاشا فعليا بين الجيل الأول من المهاجرين المغاربة. لكنه يثير السجال حاليا بين الجيلين الثاني والثالث اللذين ينحوان منحى الاعتداد بهوية مركبة ومواطنة متكاملة. ويقول أحد نشطاء المجتمع المدني في بلجيكا عبد العزيز سارت إنّ هناك “وضعا حقوقيا مختلاّ” لدى المغرب. ويذكّر بظهور “مواطنة جديدة على أنقاض المواطنة “النظامية” أو “العمودية” أو “الدّولتية” (كناية عن الدولة) التي انهارت بفعل اختلال ميزانيْ الجنسية والمواطنة. فإذا كانت الجنسية هي تأشيرة دخول الفرد إلى حظيرة الوطن، فإن المواطنة تشكل رخصة السياقة التي تضمن له التحرّك بين الحقوق والواجبات في إطار ما ينصّ عليه القانون من حريات والتزامات لخدمة الصالح العام المشترك. وعليه فكلما فقدت الجنسية المغربية مركزيتها، وهذا ما يحصل عندما يتجنس المغاربة بجنسيات دول إقامتهم، يختلّ ميزان الجنسية. وكلما ثقلت كفة الواجبات على حساب كفة الحقوق، يختلّ ميزان المواطنة. هي مواطنة الشتات التي يمكن ألا تمرّ عبر الرباط، ولكنّها تمرّ حتما وبالضرورة عبر قلوب كلّ مغاربة العالم من خلال مشوار ومسيرة كل واحد منهم بنجاحاته وإخفاقاته عبر الحنين إلى تاريخ مشترك، وجغرافيا، وعادات، وتقاليد، وموائد، وأهازيج، وروائح، وعطور، وآمال ضائعة تنتظرها قبور المنفى.”
ينطوي التذبذب بين سردية “الرعية” وسردية “المواطنة” عن الكثير من المفارقات وحسابات المكاسب والالتزامات بين المغرب ومغاربة العالم. في دراسة جديدة بعنوان “تسخير إمكانات المغاربة الذين يعيشون في الخارج من خلال سياسات الشتات” صدرت عام 2019، ركز الباحثان هيلرغين وباريرو على تحديد السياسات الخاصة بالشتات على أنها “سياسة استباقية محددة عابرة للحدود تطوّرها البلدان الأصلية، بما في ذلك الاعتبارات الاقتصادية والسياسية، مثل الجنسية المزدوجة والحق في التصويت في الخارج، وهي قضايا لا تزال تواجه بعض المقاومة من قبل السلطات في الدولة الأصل وحتى الإجراءات الوطنية الرمزية المتعلقة بالثقافة.” ويبدو أن خطاب “الرعية” يبقى رهينا بخطاب ما يعرف الآن بمسمى “الأمن الروحي” الذي ابتكرته وزارة الأوقاف والجهات المؤيدة كإعادة تركيب المجال الديني في بلد يتبع المذهب المالكي والفقه الأشعري ومدرسة الجنيد الصوفية. ويستمد المفهوم الجديد وعده من المكانة الدينية للملك باعتباره “أمير المؤمنين”. ويبدو أن بوصلة الرباط تغيّرت من النظر باتجاه دول الشمال حيث لم يتجاوز دور المغرب إرسال وفود صغيرة العدد من الأئمة إلى دول أوروبا الغربية خلال شهر رمضان. في عام 2019، شملت هذه الزيارة السنوية أكثر من 500 فرد، معظمهم من مجوّدي القرآن والدعاة الذكور والإناث وبعض أساتذة الفقه. فتبنّت الدولة المغربية سياسة جديدة في المجال الديني تركز أساسا على الداخل ودول الجنوب ما وراء الصحراء الكبرى.
قد يكون هناك ما يبرّر هذا الزخم الحالي في إعادة بناء الإسلام المغربي بضرورة مواجهة العنف والتطرف، أو توفير ذراع ديني لسياسة المغرب في إفريقيا. ومع ذلك، فقد أثار التلويح ب”الأمن الروحي” نقاشًا مفتوحًا بين المؤيدين والمنتقدين. وتعبّر آنْ ماري وينسكوتAnn Marie Wainscott في كتابها الأخير “بيروقراطية الإسلام: المغرب والحرب على الإرهاب” عن شكوكها في تأكيد “الإسلام المغربي المعتدل” الذي “تروّج له المؤسسات الدينية التي ترعاها الدولة المغربية، لكنّها ليست مقنعة للغاية. وهناك أدلة متزايدة على أن الدولة تعترف بهذا الواقع “.في الوقت ذاته، يتساءل سارت “هل التشبث بالثوابت والمقدسات أو عدمه لازال مناسبا وكافيا كمدخل لفهم التوترات التي بدأت تتسلل إلى علاقة مغاربة المهجر بوطنهم الأصل، في حين يتفق أهل الاختصاص على أن العلاقة بالوطن، في التقليد الديموقراطي، تحددها الجنسية والمواطنة.”
4. سؤال تحديد النخبة والتمثيل السياسي لمغاربة العالم
ينطوي تحديد النخبة بين مغاربة العالم ومدى تمثيلهم سياسيا ومدى مساهمة الكفاءات أو الخبرات المغربية في الخارج في المحصلة النهائية على أكثر من متاهة معلنة وغير معلنة. فهناك زاوية ضبابية الرؤية بشأن سبل إشراكهم وسط بدوافع اقتصادية في النهوض باحتياجات المغرب الإنمائية في الدّاخل وتحقيق مصالحه الاستراتيجية في الخارج. خلال عام 2018، بلغت تحويلاتهم 7.4 مليار دولار، أي ما يعادل 6.2 في المائة من الناتج القومي الإجمالي للبلاد، وهم يدعمون بشكل متزايد عدة قطاعات حيوية في الاقتصاد المغربي. بيد أنّ مؤسّسات الحكم في المغرب لم تحسم بعد النقاش الدائر حول ما إذا كان هؤلاء المهاجرون، ولا سيّما النخبة، يشكّلون “تهديدًا سياسيًا”، كما كان الحال في عهد الملك الحسن الثاني خاصة في السبعينات والثمانينات، أو يمكن أن يكونوا “رصيدا سياسيا” يساهم في تعزيز غايات السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية للمغرب. وثمة أكثر من خمسة ملايين مواطن مغربي، مقيمين أو متجنّسين في مائة دولة، ومنهم على الأقل 300000 يمثلون النخبة، حسب إحصائيات مجلس أوروبا. ووفقًا لإحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، وصلت طلبات تسجيل براءات الاختراع التي قدمها مغاربة العالم إلى أكثر من 2000 اختراع خلال عام 2017. وإذا كان لهؤلاء المغاربة في الخارج أن يُسمع إليهم ويحفّزهم صانعُو السياسة المغاربة، فإنّ بإمكانهم كما يقول محمد بكوشي “خلق العجائب. إنّهم يمارسون بالفعل بعض التأثير على استراتيجيات التّفاوض وعلى الشّراكة بين المغرب وبلدهم الجديد.”
على المستوى السياسي، هناك موضوع عالقا آخر يزداد حوله الترقب بين مغاربة العالم بشأن ما جاء في وثيقتين أولها الخطاب الملكي في السادس من نوفمبر 2005 والتعهد للمغاربة المقيمين بالخارج ب”ممارسة المواطنة الكاملة”، وتمكينهم من تمثيلهم، عن جدارة واستحقاق، في مجلس النواب، بكيفية ملائمة وواقعية وعقلانية، و”أنهم يتمتعون، على قدم المساواة، بالحقوق السياسية والمدنية، التي يخولها القانون لكل المغاربة، ليكونوا ناخبين أو منتخبين بأرض الوطن.” وتعهد الملك أيضا “بتمكين الأجيال الجديدة من جاليتنا العزيزة، من حق التصويت والترشيح في الانتخابات، على غرار آبائهم، تجسيدا لمبدإ المساواة في المواطنة.” وبعد ستّ سنوات من خطاب الملك، نص الفصل السابع عشر من دستور 2011 على “تمتع المغاربة المقيمون في الخارج بحقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات.” إذن، على المستوى البنيوي أو المعياري أو النصي، نجد موقفا صريحا بشأن التمثيل السياسي لهم، لكنها تظل خطوة عالقة مع وقف التنفيذ.
تثير بعض الجهات الخشية والاحتراس من مشاركة ممثلي خمسة عشر في المائة من المغاربة من خلف الحدود في ميزان حزبي هش داخل البرلمان وخارجه في الساحة السياسية المغربية. ويجتهد البعض بأنه إذا كانت لمغاربة العالم طموحات سياسية، فمن الأجدى بهم أن يدخلوا المعترك السياسي في عواصمهم ويعززوا تمثيليتهم في الجمعية الوطنية في باريس أم مجلس العموم في لندن أو الكونغرس في واشنطن. محاولة التغريب للفعل السياسي لمغاربة العالم يتناقض مع كل من سردية “الرعية” التي تمسك بها الملك الحسن الثاني وسردية “المواطنة الكاملة” التي ينادي بها الملك محمد السادس.
على هذا النحو، يضع المغرب نفسه في وضع شاذّ استثنائي بين دول إما تعترف بحق التصويت الانتخابي للمهاجرين المقيمين في الخارج ويثير محاولات استقطاب من قبل الأحزاب دون طريق واضح إلى تفعيل التمثيل السياسي الموعود. هناك دول أقرّت حق التمثيل السياسي بشكل قانوني صريح مثل الجزائر، وجيبوتي، ومصر، وإريتريا، والهند، والعراق، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، والفلبين، والسودان، وسوريا، وتونس، واليمن، وأخرى تعارضه صراحة مثل أفغانستان، وإثيوبيا، وكينيا، وباكستان، وسريلانكا، وأوغندا. ويبدو أن المنطق السياسي الراهن يتجه نحو مقولة “كم من حاجة قضيناها بتركها، وكم من حاجة تركناها رغم سمعنا لها.” والجديد في هذه المتاهة السياسية والدستورية أن بعض الأحزاب المغربية تسعى لتوسيع دائرة مناورتها، وتعول على بعض مغاربة العالم من ذوي الإمكانيات المالية إلى حد ظهور فئة من الأعيان بالمفهوم التقليدي خارج الحدود عندما تتلاقى الاعتبارات السياسية والحسابات المالية.
5. هل ضاع مغاربة العالم بين القبائل الإدارية في الرباط؟
كرّس المغرب أكثر من مؤسّسة حكومية واحدة للتعامل مع قضايا المغاربة المقيمين في الخارج بموازاة سؤال عريض: هل هناك توافق أو تنازع الاختصاصات لدى الوزارات والمؤسسات التي ترفع شعار خدمة قضاياهم؟ ثمة وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج التي تتصدر المشهد وتعتد بأنها “الوصية” أو “حامية حمى” المغاربة في الخارج، والوزارة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج باعتبارهما مؤسستين حكوميتين كمستوى أول، ولا أريد أن ادخل في التفاصيل وفي التلاطم حول مدى صلاحيات هذه الوزارة ومدى اختصاصات الوزارة الأخرى.
هناك مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج التي أنشأها الملك الحسن الثاني عام 1990 وأوكل رئاستها إلى ابنته الأميرة مريم لاعتبارات رمزية، ومنها تأكيد صلة الرعاية الأبوية التي كان يشعر بها إزاء المغاربة في الخارج. ويمكن القول إنها مؤسسة دخلت ساحة العمل الاجتماعي والثقافي في عدة دول أوروبية أخرى تحت عباءة المجتمع المدني، وخارج الإطار الرسمي الحكومي الذي يرتبط بالوزارتين، وهناك دوائر في أوروبا لم تقبل التعامل رسميا مع أيّ من الوزارتين. هناك أيضا مؤسسة محمد الخامس للتضامن عام 1999، ومجلس الجالية المغربية بالخارج الذي تم تأسييه في ديسمبر 2007 كمجلس استشاري تشمل صلاحياته كما يقول الظهير التأسيسي “ضمان المتابعة والتقييم للسياسات العمومية للمملكة تجاه مواطنيها المهاجرين وتحسينها بهدف ضمان حقوقهم وتكثيف مشاركتهم في التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للبلاد”. هناك أيضا اللجنة الوزارية لشؤون المغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة والتي اجتمعت قبل أيام، وقال رئيس الحكومة سعد الدين العثماني إن الحكومة “قررت تمكين مغاربة العالم من دخول أرض الوطن ابتداء من 15 يوليوز 2020، سواء جوا أو بحرا عبر مينائي سات بفرنسا وجنوة بإيطاليا، مع التقيد بالإجراءات الصحية التي تحددها اللجنة العلمية الوطنية المختصة”. وهذه خطوة تثير الكثير من حنق مغاربة العالم لما يعتبرون سوء تقدير لأوضاعهم وفرض الاحتكار لموانئ مطارات محددة والابتزاز الضمني لصالح شركات طيران محددة، ناهيك عن تكاليف الإجراءات الطبية المفروضة. هي إجراءات سفر مضنية وتكاليف تقسم ظهر المغربي أو المغربية اللذين يريدان زيارة الأهل في صيف “لا مرحبا لمغاربة العالم”!
ينطوي تعدد تلك المؤسسات وتباين منطلقاتها أو تشابه اختصاصاتها في التعامل مع مغاربة العالم على أكثر من مفارقة، فهل تجسد “اهتماما قياسيا” بهم أم أن مشاغلهم وطموحاتهم تفرّقت بين القبائل كما يفيد القول العربي المأثور. بيد أن ما يجمع هذه المؤسسات هو استدامة خطاب “المغاربة المقيمين في الخارج” للأسف دون انفتاح كاف على أوضاعهم السوسيولوجية لحياتهم والديناميات الراهنة في دول المهجر. لقد استغرق الأمر أكثر من ثلاثة عقود لكي تقرّ الدولة المغربية لذاتها بأنّ “العمّال المؤقتين أو الموسميين” في الخارج اختاروا الاستقرار في الخارج. وتحتّم عليها أن تقلص اعتمادها على الوداديات وتقبل بحقيقة تجنّسهم بجنسية أجنبية مع استمرار حقّهم في الجنسية المغربية وبالتالي الجنسية المزدوجة. لكن ما يجمع تلك المؤسسات هو استدامة خطاب المغاربة المقيمين في الخارج دون انفتاح كاف على المتغيرات السوسيولوجية في أوساطهم. فهي تظل خجولة في تبنّي مفاهيم كاملة للشتات كما هو الحال في دراسات الشتات في دول العالم. على سبيل المثال، تحت عنوان فرعي “تعزيز العمل الثقافي في الشتات المغربي” Boosting the Cultural Action within the Moroccan Diaspora، تأتي إشارة نادرة إلى “الشتات” على الموقع الإنجليزي لمجلس الجالية على الإنترنت فقط، ولا يوجد تجسيد خاص لمفهوم الشتات. بدلاً من ذلك، تأتي عبارى أخرى “يقود المجلس في هذا السياق سياسة للمراقبة والشراكة مع المؤسسات الدولية المشاركة في التفكير والعمل في مجال الهجرة”، ويتعهد “بإنشاء صندوق وطني للبحوث المتعلّقة بالهجرة”. لكن تلك الإشارة العابرة إلى “الشتات” لا توجد على الموقع العربي للمجلس حيث يوضح أنّ مجلس الجالية المغربية بالخارج حسب نص التأسيس “مكلّف بالاضطلاع بوظائف الإحاطة بإشكاليات الهجرة واستشرافها والمساهمة في تنمية العلاقات بين المغرب وحكومات ومجتمعات بلدان إقامة المهاجرين المغاربة.”
تقول الدولة المغربية إنها تعتمد “خطة عمل لتلبية توقعات المغاربة المقيمين في الخارج” (حسب الموقع الإنجليزي لمجلس الجالية، وليست هناك إشارة في الموقع العربي). وقد يعني هذا بعض الإقرار أو خدمة شفهية للملايين الخمسة من المهاجرين الذين لديهم مهارات مهنية وإنجازات علمية متنوعة. ويعبر العديد من النشطاء عن شكوكهم تجاه سياسة المغرب، ويقول إنّه بالنظر إلى مستوى السياسات العامة التي تنهجها السلطات المغربية اتجاه مغاربة المهجر منذ عقود، “هناك تقلّص مطرد في حجم الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتفعيلها والتمتع بها، وتذكير منتظم وملح بواجباتهم، من عملة صعبة ودفاع عن الثوابت والمقدسات. بينما تظل النصوص القانونية المتعلقة بالحقوق حبرا على ورق، حكومة بعد حكومة، وسنة بعد سنة. يجب التذكير أنه يُسجّل بمداد الفخر لمغاربة العالم أن تضحياتهم ومساهمتهم في إنجاح مسلسل الإصلاحات الديمقراطية والتنموية التي يعرفها المغرب يعز نظيرها بين الجاليات المهاجرة عبر العالم.”
حتى الآن، لم يقبل منطق الدولة المغربية واقع شتات مغربي، ولم يعالج المعضلة المتزايدة بسرعة من هجرة الأدمغة. وقد أظهر استطلاع حديث أن 91 في المائة من الخريجين المغاربة يحلمون بمغادرة البلاد وإيجاد فرص وظيفية في الخارج “لأنهم يعتقدون أن الهجرة من المغرب ستساعدهم على التقدم وتطوير حياتهم المهنية”. وليس من المستغرب أن يكون المهاجرون المغاربة قد انتقلوا إلى وضع شتات عرضي في أوروبا وأمريكا الشمالية ومناطق أخرى في العالم. فظهور شتات الريف ضمن الجالية المغربية في هولندا، في حقبة الحراك منذ أواخر 2016، يمكن أن يكون الموجة الأولى من نشاط شتات مسيّس جيدًا بالتزامن مع تغيّرات الفضاء السياسي العابر للحدود بين أوروبا والخارج. ويلاحظ بروبكر بأن “الشتات المهاجر العامل يتشكل من خلال الأعمال التطوعية لهؤلاء الذين يشكلونه، في حين أن الشتات العرضي يأتي إلى حيز الوجود دون مشاركة وغالباً ضد إرادة أعضائه”.
6. بعيدا عن سوسيولوجيا مغاربة العالم!
على الرّغم من مرور ستّة عقود على الأقل من تطوّر أوضاع مغاربة العالم بين بعديْ الهجرة والشتات، لم تتبلور في الأكاديمية المغربية بعد سوسيولوجيا الهجرة أو سوسيولوجيا الشتات، وليست لدينا مدرسة تحليل لا من قبيل مدرسة شيكاغو في علم الاجتماع ولا بمنهجية نقدية وواقعية تستمد أدواتها وتنويرها من مدرسة فرانكفورت التي يمتد تأثيرها إلى أكثر مجال في الأبحاث الاجتماعية والإنسانية عبر العالم. بعض أساتذة الاقتصاد أو الجغرافيا في المغرب وجدوا في الهجرة مجالا فضفاضا مثيرا، وأحيانا مربحا، في إعداد بعض الدراسات لمؤسسات وطنية أو أجنبية، ويغلب على هذه الدراسات النسق الكمي quantitative سواء في تناول الهجرة المغربية إلى الخارج أو تنامي أعداد المهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى أو سوريا والعراق واليمن. ولا تزال السياسات العامة المغربية تقحم هاتين المسألتين المختلفتين في نفس الخانة العامة “الهجرة”، كما تُجاري خطّ التعامل معها بالنسق الكمّي ذاته أيضا من خلال التركيز على البيانات الديموغرافية وأعداد العابرين عبر الموانئ والمطارات المغربية وقيمة التحويلات المالية السنوية لمغاربة العالم، بدلا من تطوير نسق كيفي qualitative مناسب لدراسة حيثيات الشتات والهجرة باستخدام أدوات العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة. ولا تزال الجامعة المغربية تتعثر في بلورة معرفة سوسيولوجية بمنطلق من الخارج إلى الداخل وليس من الداخل إلى الخارج.
يفضي تفكيك هذه التحديات الستة إلى الحديث عن آفاق تركيب علاقة استراتيجية بين المغرب ومغاربة العالم. وثمة حاجة أولية تدعو لتغيير الفهم والخطاب الرسمي والسياسات العامة من منطق “إدارة الهجرة” إلى برغماتية “إشراك الشتات” في تحقيق التنمية في الداخل والتأثير في الخارج. وفي ما يلي عشرة نقاط مقترحة لتعبيد الطريق لبناء استراتيجي للعلاقة بين مغاربة العالم والمغرب:
عشرة معالم على الطريق:
أولا، ضرورة تحيين الرؤية الرسمية في شتى المؤسسات والمستويات بأن بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لا يعيد إنتاج ما كانت عليه جالية “عمالنا وتجارنا في الخارج”، وأن مستوى الوعي والنضج السياسي والتحصيل الأكاديمي قد ارتفع بمعدلات جيدة. لكن، لا تزال تصوّرات “المغاربة المقيمين في الخارج”، أو “مغاربة العالم”، أو “عمّالنا في الخارج” تفرض قيودا على فهم واقع الهجرة المغربية حتى في الوقت الراهن، ولا تنطوي على رؤية واقعية أو راهنة بالضّرورة. هناك حاجة لتوسيع هذه الأنساق الذهنية والسياسية معا والقبول بضرورة إقرار الفرق بين واقع الهجرة وواقع الشتات. وتتطلّب هذه الطّفرة المنشودة من خلال هذه الورقة القيام بعمليات إدراكية وموجهة نحو السياسات للتوفيق بين النظرة الداخلية للمسؤولين في الرباط (من الداخل إلى الخارج) مع المنظور الخارجي للشتات المغربي (من الخارج إلى الداخل).
ثانيا، لم تعد هناك فواصل في العلاقات الدولية وتكنولوجيا وسوسيولوجيا الهجرة والتحويلات المالية والسياسية للمهاجرين. وقد يكون من الأجدى بالسياسة المغربية أن تنفتح على مبدأ تحقيق المصالحة بين التزام الشتات بالثوابت والمقدسات المغربية من جهة وقيمهم الغربية لحقوق الإنسان والحداثة ومنظور المجتمع المدني والتعبير عن ذواتهم وقناعاتهم كمواطنين عالميين، وأنهم ليسوا مجرّد “تبعية معيارية” أو “بحكم الدم” للمغرب.
ثالثا، يمكن لسياسة المغرب الاستفادة من التحوّل من التركيز على خيار الاحتواء الأمني، أو الإدارة البيروقراطية في التعامل مع المغاربة المقيمين في الخارج، إلى خيار التفاعل الإيجابي والانفتاح على ثنائية التوافق أو الاختلاف في توجّهات الشتات. وبدلا من تكريس أَمْنَنَة الهجرة الخارجية، هناك حاجة لتخفيف أو إلغاء النسق الأمني المهيمن في تأمين ترابط بديل بين المغرب وشتاته المتنوع والموهوب. قد تثير التحويلات السياسية المحتملة للشتات الخشية لدى المسؤولين التقليديين داخل المؤسسة الأمنية. ومع ذلك، قد يعزّز المنحى نحو تجريم أفراد معينين أو مجموعات محددة ذات الانطباعات والمواقف السلبية مما يقوّي نشاط المعارضة.
رابعا، إذا تمّ اعتماد فلسفة بناء السلام المجتمعي وأدواته في تجسير الاختلافات، يمكن للمغرب اعتماد منهج استباقي وخطاب عابر للحدود الوطنية للتعامل مع ازدواجية الشتات في التقارب والاختلاف مع المغرب، سواء في التوجهات السياسية أو الدينية أو الثقافية. ولا ينبغي دائمًا اعتبار وجهات النظر النقدية أو الخلافات المحرجة “تهديدًا” لاستقرار المغرب أو أمنه القومي. يمكن أن يكون نقد الشتات بالمعنى التقريضي وليس التدميري لبعض السياسات بمثابة مساهمة مفيدة للمساعدة في صياغة سياسات سليمة. ويمكن أن يحدث الاعتراف بصوت الشتات وأن ناك فرقًا بين العدو والحليف، وبين الشتات المدمر والشتات البنّاء.
خامسا، بمنطق تحليل النزاعات، يمثل ظهور مجموعات غاضبة من أبناء الريف ضمن الجالية المغربية في هولندا، وهي تنتقد السياسات العامة للمغرب في حقبة الحراك، أول موجة من نشاط الشتات المسيّس جيدًا بالتلاقي مع المجال السياسي العابر للحدود في أوروبا. ويمكن للمغرب أن يستبدل سياسته التي تتمسك بالرؤية الأمنية بسياسة الدبلوماسية العامة والحوار مع أقطاب هذا الشتات. ومن شأن أسلوب تعامل الرباط مع قضية العالقين خلال جائحة كورونا أن يزيد في هذا الشرخ ويعمّق الحنق باتجاه القناعة أن المغرب لم يراعي الأوضاع المزرية لعالقيه في الداخل والخارج.
سادسا، يظلّ الشتات أداة سياسية قيّمة في النهوض بالسياسة الخارجية للمغرب ومصالحه الاقتصادية، فضلاً عن التقدم العلمي والتكنولوجي اللازم للتنمية الوطنية. وهناك حاجة لإعادة التوازن إلى قائمة المراجعة بين حقوق وواجبات هذا الشتات في السياسات العامة الداخلية.
سابعا، هناك حاجة لتحوّل طال انتظاره من الشعار المعياري “سفراءنا في الخارج” الذي يحتفى به كثيرون كناية عن المغاربة المقيمين في العالم إلى منهج براغماتي يستهدف تحقيق نتائج ملموسة في التعامل مع شتات قائم بذاته من خلال مساهماتهم السياسية والاقتصادية والعلمية الواعدة. ويمكن أن يستفيد نزاع الصحراء والقضايا الحيوية الأخرى لدى المغرب مما يمكن أن تقدّمه نخبة ذلك الشتات، وهي نخبة تعرف تقيم في بلد تعرف مداخل الأمور ومخارجها سياسيا وثقافيا بحكم الواقع، وتستطيع دعم الدبلوماسية المغربية في العواصم الكبرى مثل واشنطن وباريس ولندن وبروكسيل وموسكو.
ثامنا، مثل أي بلد آخر له شتات متنوع حول العالم، يمكن للجامعة المغربية أن تطور انساقها في التعامل مع الهجرة بأن تنفتح على الموجة الجديدة، وهي أبحاث الشتات، ضمن تطور دراسات الهجرة المعاصرة، وبالتالي تقليص الفجوة القائمة بين مجال الأبحاث والدراسات ومجال وضع السياسات العامة للمساعدة في تجنب التركيز غير المبرر على الهجرة وحدها والارتباك المفاهيمي وتفتت الصورة الشاملة. سيكون من المفيد اعتماد مزيج من أساليب البحث من خلال إضافة تحليل نوعي مع الأدوات المناسبة من العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى التحليل الكمي السائدة حول البيانات الديموغرافية والتحويلات المالية للمغاربة المقيمين في العالم.
تاسعا، التحول من تصوّر الكفاءة الأفقية إلى الشبكات العمودية للخبراء. لقد اتبعت وزارة الجالية والمجلس والمؤسسة هدفًا مشتركًا يتمثل في تجميع البيانات حول شخصيات مغربية “ناجحة” في مختلف مجالات السياسة والأوساط الأكاديمية وريادة الأعمال وغيرها في الخارج. وهذا منهج خليط من معرفة “من هم، وأين هم”. ولكنّه لم يؤدّ إلى تواصل فعال. سيكون منهجًا أكثر واقعية إذا تم تأسيس شبكات خبراء حسب مجال تخصصهم، على سبيل المثال، شبكة المجال الطبي، وشبكة التكنولوجيا، وشبكة علماء الاجتماع وغيرهم، على أساس أن تكون شبكات ودوائر للتعاون بين الخبراء المهاجرين والمحليين.
عاشرا، يمكن للمؤسسات الرسمية المغربية التي تتعامل مع قضايا المهاجرين أن تستفيد من إنشاء مجموعة من الباحثين للكتابة والنشر عن الشتات المغربي، والمساعدة في توطيد المنهج المنشود في فهم تحولات الهجرة في دول المهجر. لقد أصبح لدى المغرب شتات عَرَضي غير معلن أوAccidental diaspora يستحق الدراسة وتقديمه إلى مراكز ومنتديات ومجلات الدراسات العالمية حول الهجرة والشتات.