تمخض الجبل بين البرلمان والحكومة، فولد هرطقات سياسية بلا حل.
في بداية مارس، تحرّكت عدّة حكومات في أمريكا وأوروبا وآسيا بعشرات الطّائرات المدنية والعسكرية من ترسانتها الجوّية لنقل مواطنيها الذين تقطّعت بهم السبل في دول أخرى ومنها المغرب. عادوا إلى أسرهم واستقرّوا في أوطانهم لمواجهة المعركة معا مع ذويهم مع وباء كورونا، وانتهى المشكل وطُوي الملفّ. لكنّ نبوغ مراكز القرار في الرّباط تفتّق بأنْ يضيفوا فصلا آخر في موسوعة “الاستثناء المغربي”، ويؤكّدوا ميولهم الأنطولوجية نحو “تغطية الشّمس بالغربال”، وتبرير التعثّر في مساعدة قرابة عشرين ألفا من المغاربة الذين أصبحوا يعرفون بالعالقين خارج المغرب أغلبهم في الدول الأوروبية في متاهة دخلت أسبوعها الثامن. هو “استثناء” مغربي مضاعف إذا أضفنا اجتهادات “العبقرية” السياسية لدى الحكومة، ومن خلفها أصحاب القرار، بمنع قرابة ألفين من مغاربة بلجيكا وهولندا من العودة إلى أسرهم وبيوتهم. ولا ينبغي أن يخفى عن الصورة أنّ بين هؤلاء العالقين في الداخل والخارج مئات، وربّما آلاف، من المسنّين والمرضى والحوامل الذين لا يستطيعون الحصول على أدويتهم وأدوات التعامل مع أمرضهم المزمنة.
بعد صمت دام لأسابيع منذ بداية مارس، ظلّ السؤال معلّقا بشأن نوايا الحكومة وهل حقيقة لديها استراتيجية لحلّ المشكل. وجاء الخبر الرنّان أن البرلمان سيأخذ زمام المبادرة ويضع النقاط على الحروف. ولأكثر من ساعتين ونصف، استمرّت جلسة أعضاء لجنة الخارجية في مجلس النواب اليوم لمناقشة وضعية المغاربة العالقين بالخارج في ظلّ إغلاق الحدود البحرية والجوية للبلاد. وتوالت الخطب “المرصّعة” بعبارات التعاطف اللفظي وإنشائيات الخطاب العام، بل وإسقاط صفة “الشّهداء” على من توفّي جراء إصابته بفيروس كورونا. تعاقب ممثلو الفرق البرلمانية في استعراض تعاطفهم مع العالقين في الخارج وإنْ تفادى أغلبهم التعليق على أوضاع البلجيكيين والهولنديين من أصل مغربي ومن دون سبب منطقي واضح اللهم أنهم “مغاربة في المغرب، وليسوا مرخّصين بالسفر”، كما تمّ إبلاغ وزير خارجية بلجيكا فيليب غوفن خلال تواصله مع الرباط.
ثمة عدّة مفارقات مدوّية تحضر إلى الذهن خلال متابعة جلسة لجنة الخارجية اليوم، أوّلها أنّ ناصر بوريطة وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج غاب عن الجلسة وتفادى التعليق على أسئلة أعضاء اللجنة. خلال التعديل الحكومي الأخير، أبدى نشوة حماسية عند تحويل ملف المغاربة المقيمين في الخارج إلى نطاق صلاحياته لتتعزز أركان وزارته بين الرباط وعواصم العالم، فتصبح المباراة رباعية بين وزير سيادي ووزيرة منتدبة ومؤسسة ومجلس. هكذا بدا شأن المغاربة في الخارج بتشريف بأربع درجات في أدبيات السياسة المغربية. لكن لدى الوزير بوريطة اليوم، على ما يبدو، قائمة أولويات تفوق أهميتها معاناة قرابة ثلاثة وعشرين ألف مغربية ومغربي من مختلف الأعمار الذين يعانون الأمرّين في حصار الخارج وحصار الداخل.
ثانيا، تحوّل مشهد جلسة اليوم في إحدى قاعات البرلمان إلى مناسبة سياسية مواتية لتسجيل مواقف حزبية والتشديد على أنّ المغرب يعيش “حالة استثنائية” تحت طائلة الوباء، ورشّ زخات التقدير والاحتفاء بقيم “التآخي والتضامن” أمام الكاميرات، بل والتّباهي بأنّ ما “حقّقه” المغرب يفوق أداء دول الشمال! أما المفارقة الثالثة فهي عندما تنفتح الميكروفونات، تتوالى الخطب العصماء بين ممثلي مختلف الأحزاب أو من وصفهم رئيس الجلسة بعبارة “القبائل السياسية”، وتحضر سرديات المثاليات والينبغيات وكافة صيغ اللباقة السياسية بلغة “كارتونية” إزاء مغاربة العالم الذين غدوا بحكم الواقع بؤساء العالم في الخارج والداخل، هم بؤساء الإحباط وخيبة الأمل، وبؤساء مشاعر “الحكرة” الدفينة والاقتناع بدونية الإنسان المغربي، دونية الرّعية وليس اعتبار المواطن. وتنمّ المفارقة الرابعة عمّا يفيد به مثل بريطاني “كثرة التحليل تصيب بالشلل”. تتعدد الخطب ويزداد تنميق مواقف التضامن في منصّة البرلمان مع بؤساء العالم وما أصبحوا من حيث لا يدرون بمثابة جون فالجون في عبثية رواية “البؤساء”.
هنيئا لمغرب التلويح بتهديدات “الأمن الصّحي” في خطاب الوزيرة الوفية للتّعاليم الفوقية، ومغرب “الأمن الرّوحي” في توجيهات الوزير المفاخر بتزايد عدد الزوايا والأضرحة، و”أمن التكركير” في تحركات القايدة حورية. لكن لماذا نقرّ بالحاجة لأمن المواطنة، وأمن الجنسية المغربية، وأمن العالقين المغلوبين على أمرهم في متاهة قد تمتد إلى رحلة الشتاء والصيف؟!