-٢-
– يا أهلا وسهلا، أجبت بابتسامة وكلي ممتعض من الداخل.
هل أستطيع الخروج لقضاء مصلحة بشكل عاجل هنا بفيصل وأعود بعد وقت قصير، سيكون إخوتكما الذكور قد وصلوا لا محالة حين عودتي، ولكي تتهيأن براحتكما لاستقبالهما واستقبال هذه المناسبة الجميلة، لا أريد أن أثقل عليكما في تحرككما بالبيت، فكيفما كان الحال أنا ما زلت أعتبر نفسي غريبا عنكما حتى اللحظة.
– مصلحة إيه؟ لا يا احمد، خليك قاعد، إنت لا بتزعجنا ولا حاجة، يعني يصح يجيبوا المأذون في إيدهم وما يلاقوكش؟
– لا طبعا لا يجوز، وخاصة المأذون المسكين، لماذا نجعله ينتظر بعد كل المسافة التي قطعها معهم.
– طيب سأبقى ناحية البيت ولن أبتعد عنه -وانتصبت واقفا أهم بالخروج- حتى إذا حضروا عرفتهم وعرفوني وصعدنا إلى الشقة معا.
وقفت الأخرى مثل الصول عطية في وجهي تمنعني من التقدم خطوة نحو الباب وقالت:
– إنت لو تحركت من هنا أو حاولت تخرج من هنا بالعافية حصرخ وأجمع عليك الجيران.
– وتصرخي ليه يا ولية، أظن أني ضيفك دعوتني لشرب كأس شاي، أم أعتبر نفسي الآن رهينة لديكما ولدى إخوتكما القادمين؟
– رهينة، يا لهوي رهينة إيه، ده انت زينة الضيوف كلها، كل ما في الأمر أن المنطقة صعبة شوية واحنا خايفين عليك.
– تخافان علي! مماذا بالضبط؟ لا أنا مضطر أجري عدة مكالمات تخص عملي وبعض التزاماتي هنا.
– يا خويا هو الشغل حيهرب.
– الشغل مرهون بالوقت، والوقت لا يرحم.
– آه نسيت، انتو بتوع أوروبا الوقت عندكم ثمين جدا مش زينا احنا هنا في مصر.
– يعني أنا ممنوع من الخروج قصدك من البيت، حتى ولو بشكل مؤقت في انتظار قدوم أهلك؟
– لا أبدا والله، بس..؟
– بس إيه يا ولية، أنا أحس أني مختطف هنا؟
– مختطف إيه ده؟ -تدخلت بمكر رجاب-.
– اسألي أختك، بل اسألي نفسك، ما الذي يمنع أن أخرج من البيت قليلا قبل قدوم إخوتك، إلا إذا كنت تخشين أن أفر منكما، وبصراحة أنت أمنية كل رجل، وأنا بدوري تمنيتك أول ما لمحتك عيناي، ولكم تحينت الفرصة لأحدثك حتى تيسرت الآن، فكيف أهرب من أنثى تمناها قلبي فوهبها له الله من حيث لا يحتسب.
سقطت عليها كلماتي كوجوم من السماء وصدقتها بغبائها المتراكم، وكأن عينَا أختها الماكرتين حاولتا إفهامها أن كلام الضيف قد يكون مجرد خدعة منه، إلا أن إعادة التلكإ بأي عذر آخر لم يعد مقنعا، حاولتْ فتح باب أسئلة أخرى معي لربح الوقت لعل إخوتها يصلون فيحسم الأمر وأجدني أمام المأذون وأمام الأمر الواقع.
لم تقتنع تلك “الريا”، بل حاولت أن تثني أختها “السكينة” عن “إطلاق سراحي” والسماح لي بالخروج من الشقة بدون فضائح، حاولتُ ضبط أعصابي وتظاهرت بالحب. لم أكن أريد أن أخرج من بيتهما بزفة، فقد رأيت من الأخت الكبرى ما أكد لي أنها تستطيع أن تقوم بأية حماقة تثنيني بها عن الانصراف وقد قالت بعظمة لسانها أنها يمكنها أن تُصرّخ لتلم علي الجيران. كانت تدرك جيدا أنها قد وجدت “عريس نقطة” لأختها، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تضيعه من إيدها!
ما أجمل كلام الحب حين يكون بين عاشقين حقيقين، وما أقساه حين يكون مجرد مداراة للخروج من ورطة حقيقية. وما أشد فراغ قلب رحاب التي كدت أشفق عليها من الوسط الذي تعيش فيه، والذي يبدو جليا أنها لم تعش فيه أبدا لحظة حب.
بدأ السين يتقدم كل كلامها المنتن لي، في أسئلة تنهال علي كأني في مخفر شرطة، أسئلة مادية بحتة وكأنها مفتش مالي ينقب في محفظة ذمتي ليستخرج منها كل البيانات التي تمنحه سكين ذبحي بكل ضرائبه المبتكرة عبر التاريخ، أو نشال في ميدان التحرير يمد يده في جيب الثوار المطالبين بحقه في العيش الكريم. كانت الكبرى مستمرة في طرح أسئلتها المستفزة حتى بهتت لسؤالي:
– ألا تريدين أن يتم كل شيء اليوم، واليوم اليوم وليس غدا؟
– طبعا يا عريس، ده يوم المنى.
– وطبعا المأذون قادم فيمن هم قادمون؟
– طبعا طبعا؟
– في نظرك هل يستطيع المأذون أن يعقد لاثنين، أحدهما غير مصري، ولا يحمل حتى بطاقة هويته معه أو جواز سفره، وفي نظرك هل أستطيع أن أعقد -أنا المتجنس أوروبيا- على “مصرية” بدون وثائق من القنصلية البلجيكية هنا ودون تحضير ملف طويل عريض حتى يكتسب العقد صحته الرسمية، وبالتالي أستطيع اتخاذ الإجراءات القانوية الطبيعية اللازمة.
– والنبي عندك حق؟
– وهل تعتقدين في نظرك أن زوج أختك القادم -مقطوع من شجرة كما تقولون عندكم هنا في مصر- لذلك أنا أقترح أن أسرع الآن نحو قنصلية بلدي أو على الأقل أخرج إلى أي سيبر أبعث إليها بطلب زواج من أجنبية وببياناتي الخاصة ليخصصوا لي موعدا قريبا هنا لإنهاء كل شيء، وأنت تعلمين جيدا مدى سرعة الإجراءات الإدارية في بلجيكا، يعني لن يستغرق الأمر أكثر من خمس دقائق. وفي نفس أحدد موعدا مع أهلي لنتبادل الحديث صوتا وصورة فتتعرفوا على بعضكم ويباركوا زواجنا.
– أهو اللابتوب عندك هنا يا خويا واعمل اللي انت عايزه من هنا؟
– ألم أقل لك أني أحس بأني مختطف لديكم هنا؟
– لا طبعا يا زوج أختي، بس انت عايز تتعب نفسك ليه؟
– طيب، لديكم آلة نسخ الأوراق هنا!
– أروح أنسخ لك اللي انت عاوزه.
– أشكرك لكن وثائقي كلها في بيتي، وأنت صراحة تضيعين وقتي ووقت العصفورة التي تنتظر عدلها في الداخل، حتى لو حضر إخوتك والمأذون فلن يمكن توثيق الزواج، إلا إذا كنت تودين أن نعقد زواجا عرفيا؟
– عرفي! يا لهوي ليه، هي مالهاش أصل وأهل ولا مالهاش أصل وأهل عشان تتزوج عرفي.
– الأمر بيدك أنت، أنت التي كلما هممت بالخروج للإسراع بإسعاد أختك هددتني بلم الجيران علي وكأني حرامي؟
– يا دي العيبة يا أستاذ أحمد، أنا هددتك ألم عليك الجيران!؟
– ألست من تهددين بالصراخ كل مرة أريد فيها مغادرة البيت؟
– والله أنت بالك راح لبعيد أوي.
– طيب، سأخرج وأعود بعد صلاة المغرب، وأظن أن حضور المنتظرين سيكون مؤكدا ساعتها.
اقتربت من الباب فحالت بيني وبينه وكأن قلبها يخبرها أن كل ما قلته كان مجرد جزء من فيلم أو مسرحية مصرية وقد كان فعلا، نظرت إلي بمكر وهي تمسك بمقبض الباب وتأبى أن تفتحه أو تتركه، نظرت إليها وابتسمت وعدت نحو الطاولة الصغيرة التي وضعت عليها رحاب باقة الورد كرغيف فرن الحي، لم تتعلم أن الورد يجب أن يوضع بمزهرية تليق به كي لا يذبل بسرعة، اخترت وردة جميلة وعدت نحوها، ناديت على رحاب المنزوية في ركن المطبخ سوى أذنيها اللتين كانتا تتابع لابد كل ما يدور بيني وبين أختها بالصالون. فنظرت في عينيها نظرة عشق مضطر ووهبتها الباقة قائلا:
– راجع لك يا جميل.
ثم وضعتُ وردة حمراء على صدر الأخت الشمطاء بيدي اليسرى، ويدي تمتد نحو المقبض في الوقت نفسه:
– موعدنا المغربية يا حماتي.
وبقدرة قادر تركتني أخرج دون اعتراض منها.
نزلت سلالم العمارة بأسرع من البرق لكن دون أن أحدث أي ضجيج يشعرهما أن العريس قد نفذ بجلده أو “خرج ولن يعود”، ما إن وطئت قدماي أرض الحارة حتى اتجهت نحو الطريق الرئيسي، أوقفت سيارة أجرة أقلتني نحو بيتي، حمدت الله تعالى الذي نجاني من هذه الورطة، فتحت حسابي على الفايسبوك وتواصلت مع زوجة المستقبل:
– …
حاولتْ إيهامي أنها تفاجأت أيضا بما أقدمت عليه أختها من فعل، وأني أسأت فهم خوفها عليها -وهي تهمة تلازمك دائما في ذلك البلد: ما هو أصل انت اللي مش فاهم-، لكنها أدركت منذ لحظة خروجي أني لن أعود أبدا. شكرتها على فطنتها لكني عاتبتها أنها كان لابد أن تفهم منذ محاولتها وأختها أنه ما هكذا يتزوج الشعراء، وأنه بمقدوري الآن التوجه إلى الشرطة للتبليغ عنهما واتهامهما بتهمة الاحتجاز غير المشروع، غير أني لم أفعل ولم أملأ فراغات اتصالي بها، فحماقات مواقع التواصل الاجتماعي دمرت العديد من الفتيات، وشفقة مني عليها من “إخوتها الصعايدة” لم أرد أن أقرأ بعد يوم أو يومين على صفحات هذا الفضاء وعلى صحف مصر المرتزقة عناوين بالبنط العريض من نوع: “ذبحها إخوتها بعدما تفاجؤوا بصور فاضحة لها على النت”، ومحادثات ساخنة مع مجموعة من الشباب العربي والخليجي خاصة.
– إبقي سلمي لي على المأذون يا رحاب!
ملاحظة: المحادثات والصور لم تتم مبادلتها معي وإنما بعثت إلي من فاعلي خير، وما أكثرهم في مصر، محادثات لست متأكدا من صحتها وإن كان أسلوبها يشبه الأسلوب الذي حاولت استدراجي إليه مرة فزجرتها، وصورا لست متأكدا من صحتها فقد تكون مفبركة، لكن نشرها سيسيء إليها وإلى سمعتها لاشك بشكل كبير.