لماذا نحتاج لـ “صراعلوجيا” كعلم جديد – محمد الشرقاوي

0
406

ما هي الطريقة الأسلم لفض النزاعات الدولية؟ كيف يمكن للدول حل خلافاتها الحدودية والسياسية والاقتصادية والأمنية حتى بشكل سلمي بعيدا عن الاحتكام للقوة؟
مع أن العالم الذي خاضت دوله حربين عالميتين خلفتا ملايين الضحايا، تمكن من إيجاد مؤسسات دولية لفض النزاعات، إلا أن ذلك لم يمنع من الاستمرار في الاحتكام إلى القوة باعتبارها المدخل الرئيس لأي حلول سياسية تضمن مصالح الأطراف المختلفة.
لكن دول العالم الثالث ومنها العالمين الإسلامي والعربي، ظلت خارج القوى المؤثرة في صنع القرار الدولي، وكثيرا ما تحولت هذه الدول إلى مسرح للحرب بين القوى الدولية الراغبة في توسيع نفوذها في العالم، كما هو الحال اليوم في اليمن وسوريا وليبيا والعراق.
وبينما ينظر الخبراء إلى أن المعيار الأهم في تحديد العلاقات الدولية يبقى هو القوة، يعتقد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والأديان والنظرية الثقافية أن القوة شرط مهم في تحديد مستقبل العالم، ولكن القوة تحتاج إلى علم، سماه البعض بعلم تسوية النزاعات، أو الصراعات كعلم اجتماعي مركب أو عابر لتلك العلوم.
غير أن الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وهو مغربي الأصل، اجتهد في السنوات الأخيرة على تركيب ما قد يصبح الجيل الثاني، أو المدرسة الثانية، لعلم تسوية الصراعات ضمن تركيبة تتوخى التعمق في التحليل والبرغماتية في التدخل، واختار له مصطلح “صراعلوجيا”، وهو بصدد عرضه وبحث سبل بنائه من جديد والتأسيس لمدرسة جديدة في هذا العلم، في المؤسسات الجامعية والديبلوماسية والبحثية من أجل ترسيخه كواحد من التخصصات العلمية، ليس لفهم طبيعة الصراعات الدولية وإنما أيضا للوصول إلى حلها بشكل عملي.
ويشرح الدكتور محمد الشرقاوي ذلك في ورقة خاصة كالتالي:
سرّني تفاعل عشرات الأساتذة وعمداء الكليات ومئات من طلاب الدكتوراه والماجستير ومراسلي وسائل الإعلام والمهتمين خلال ست محاضرات ألقيتها في المغرب خلال الأسبوعين الماضيين: وشملت المحاضرات أربعة محاور رئيسية: “القانون الدولي بين المعيارية والبراغماتية في حماية المدنيين” في المكتبة الوطنية في الرباط بدعوة من اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني، “تقلّبات ميزان القوة في الشرق الأوسط والمغرب الكبير في آفاق 2020” في وزارة الخارجية في ضيافة النادي الدبلوماسي المغربي، “صفقة القرن وتقلبات موازين القوة في العالم العربي في حقبة ترامب” في كلية الحقوق بسطات، و”لماذا يحتاج العالم العربي لصراعُلوجيا كعلم جديد؟” في كليات فاس والدار البيضاء والمحمدية.
أثار محور صراعلوجيا كمفهوم جديد Why the Arab World Needs Conflictology as a New Science اهتمام الباحثين، وتدفقت الأسئلة حول ماهيته ودلالته المعرفية ومدى الحاجة إليه في منطقة غارقة حتى أخمس قدميها في الأزمات والصراعات.
كان الحافز الأولي لي هو سؤال راودني منذ مدة عن مدى علاقة عقلنا العربي بفهم الأزمات والصراعات المتنامية حول حدودنا وداخل دولنا ومجتمعاتنا، وقد أصبح العالم العربي بمثابة معرض قائم بذاته من حيث تعدد تلك الصراعات الظاهرة والخفية وطبيعة تعقيداتها وتداخلاتها، وأين يقف النسق الأكاديمي في الجامعات المغربية والعربية من تدريس نظريات الصراع واستراتيجيات الوساطة والمفاوضات والتحكيم وبقية آليات الحد من العنف في مرحلة أولى، وصنع السلام في مرحلة ثانية، وبناء السلام في مرحلة ثالثة؟
ولست أول من يسترعي الاهتمام بوجود فجوة معرفية في العالم العربي كمنطقة تعيش نوعا من انفصام الشخصية بين غزارة الصراعات المحلية والإقليمية واستقالة العقل العربي عن صياغة مفاهيم واستراتيجيات عضوية للتعامل مع تلك الصراعات من داخل الثقافة ذاتها، فيما تظل دراسات الصراعات تتدحرج بين أقسام علم السياسة والعلاقات الدولية والحقوق في أغلب الجامعات العربية.

أصل المصطلح ومبررات نحته:
صراعلوجيا مزيج من “صراع” و”لوجيا” وفي الأصل اللاتيني “لوغوس” Logos، ويعني الأرضية والرأي والنداء والكلمة والخطاب والسردية. وأصبح “Logos” مصطلحا متواتر الاستخدام في الفلسفة الغربية بدءا من الفيلسوف هيراكليتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد الذي استخدم اللفظ بمعنى النظام والمعرفة.
كتعريف أولي، يمكن اعتبار صراعلوجيا ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع وعلى مختلف المستويات الفردية والعائلية والمؤسسية والدولية. وأقدم أطروحتي كجيل ثان لمدرسة تسوية الصراعات conflict resolution التي تبلورت في السبعينات من القرن الماضي كعلم اجتماعي قائم بذاته وعابر للتخصصات بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع والأنثروبوجيا وعلم السياسة والاقتصاد وغيرهم. وأصبحت جامعات جورج ميسن وجورجتاون ومينونيات وسان دييغو في أمريكا، وجامعات برادفورد وكِنت وغيرها في بريطانيا تمنح شهادات الدكتوراة والماجستير والإجازة في هذا العلم.
أرمي بصراعلوجيا إلى رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، على أساس القيام بأكبر مجهود من التمحيص والتحري، وأن الظاهرة قد تبدو غير قابلة للتفسير ما لم يكن هامش المراقبة واسعا بما يكفي ليشمل السياق الذي يحدث فيه الصراع. ولا يقتصر على مجال العلوم الاجتماعية فحسب، بل يستوعب أيضا جميع المعارف البشرية العلمية والعقلانية والمعرفة الحدسية والعاطفية. وتتم دراسة جميع هذه المعارف والقدرات أيضا من منظور البيولوجيا، والطب، وعلم الأعصاب، والمذاهب الصوفية، وتوجهات المنطق وكل تلك الطرق التي تسهم في الشعور بسلامنا الداخلي: السلام العقلي والنفسي والعاطفي. وفي الوقت ذاته، يجسّد صراعلوجيا خلاصة وافية من تقنيات التحوّل والتدخّل والمعونة والموارد والإجراءات. ويهدف إلى تكوين باحثين وممارسين ميدانيين متشبّعين برؤية برغماتية من أجل الحدّ من الصراعات وحفظ السلام في شتى بؤر الصراع في العالم. انطلق من سبع مفارقات وأربع اعتبارات إبستمولوجية.

سبع مفارقات واقعية:
تنمّ المفارقة الأولى عن حقيقة أنّ الجغرافيا السياسية العربية تفرّخ بؤر صراع محتدمة بوتيرة أسرع وأحجام وتعقيدات مختلفة في السّنوات الثماني الماضية، أسمّيها مفارقة الحدود المسمومة، ونحن أكثر شعوب الأرض تكريسا وتشبّعا بالمؤامرات والأحقاد ومآسي الشعوب واحتماء بالدول العظمى بموازاة استمرار ضعف الدولة الوطنية، مما جعل صحيفة كريشتيان ساينس مونتر الأمريكية تتساءل: “لماذا يهرع العالم العربي للانضمام إلى صراع متعدّد الجنسيات؟”.
تكمن المفارقة الثانية في الأعداد الهائلة للضحايا المدنيين في ليبيا واليمن وسوريا والعراق من قتلى ومفقودين ومشردين ولاجئين. لدينا رقم قياسي آخر عندما تُؤوي المنطقة العربية، أكثر من غيرها، دولا هشّة أو فاشلة أو متأرجحة بين المنزلتين. وكشف مؤشر الدول الهشة الذي يصدره صندوق السلام منذ ستين عاما أن اليمن كان الدولة الأكثر هشاشة عام 2019، وجاءت الجزائر في المرتبة الثانية والسبعين بتراجع 0.4 عن عام 2018، والمغرب في المرتبة الثامنة والسبعين بتراجع مرتبة واحدة عن العام السابق، وتونس في المرتبة الخامسة والتسعين بتراجع مرتبتين على القائمة التي شملت 178 دولة تناولها التقرير.
تأخذنا المفارقة الثالثة إلى الأراضي والمياه الإقليمية في الخليج أكثر من المحيط، حيث تنتشر القواعد العسكرية الأجنبية وتتحرّك الغوّاصات وناقلات الطائرات الأمريكية والبريطانية والرّوسية والفرنسية والإيطالية، وحتّى الصينية، فيما تتقاطع مشاريع التحكّم والهيمنة بمقاسات مختلفة. فحقّق العالم العربي مرتبة متقدمة في كتاب غينيس للأرقام القياسية بأن استقطب خمسين قاعدة عسكرية أجنبية، تسعٌ وعشرون منها أمريكية. ووصل عدد الجنود الأمريكيين المرابطين فيها قرابة مائة ألف رغم تلويح الرئيس ترامب بضرورة الانسحاب العسكري من المنطقة، بينما يحرص جنرالات البنتاغون على إعادة الانتشار وفق التحولات الميدانية خاصة في سوريا وحول إيران.
أرمي بصراعلوجيا إلى رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، ثمة مفارقة رابعة أكثر تعقيدا تؤرّق الشعوب والحكام ومهندسي السياسات العامة والدبلوماسيين بشأن مدى فعالية الأمم المتحدة وكافة هيئاتها في نيويورك وجنيف وبعثات حفظ السلام التي يبدو أنّها انتقائية بين الانتشار في بؤر صراع معينة دون غيرها. هناك حاليا ثلاث عشرة بعثة من بعثات حفظ السلام في العالم. ولم تشهد أيّ أزمة عربية منذ عام 2011 كالأزمة السورية واليمنية والليبية نشر قوات دولية لحماية المدنيين فيها. ولا يزال النقاش نظريا منذ عام 2016 بشأن إقامة مناطق خفض التصعيد وبناء السلام في سوريا مثلا. فكيف نتفهم موقف الأمم المتحدة حامي حمى الأمن والسلام الدوليين عندما يتجاوز القتلى المدنيون نصف مليون شخص وأكثر من أحد عشر مليون لاجئ في سوريا مثلا؟
ترتبط المفارقة الخامسة بقَدَر التاريخ وضعف العقل السياسي العربي في منطقة ولاّدة بأزمات وصراعات كانت تحدث في القرن الماضي بوتيرة معتدلة بين عشرة إلى خمسة عشر عاما: كانت قضية فلسطين عام 1948، ثم هزات سياسية وثورات وحروب غيرت ملامح الجغرافيا السياسية بين عام 52، و67، و73، و90. لكن الوتيرة أصبحت تتسارع منذ حرب العراق عام 2003، وحرب لبنان 2006، وحرب غزة 2009، مرورا بالهزات الكبرى عام 2011، وقيام داعش واتساع نطاق ما يسمّى مكافحة الإرهاب منذ 2014، وأحدثها حراكات مفتوحة في السودان والجزائر والعراق ولبنان عام 2019، والخيط على الجرّار. أصبحنا نعيش في مرحلة تواتر الأزمات والصراعات على مدار العام، ويتعب المرء في متابعة تطوّراتها في وسائل الإعلام.
تتمثّل المفارقة السّادسة في أنّ الحروب المعاصرة والقانون الدولي الإنساني يعاني كلّ منهما حالة سكيزوفرينيا أو انفصام الشخصية في هذا القرن. وقد تناولت هذه المفارقة بتفصيل خلال محاضرتي في المكتبة الوطنية حول القانون الدولي الإنساني بين حدّيْ المعيارية والبراغماتية الأسبوع الماضي. ويتجلّى الانفصام في طبيعة الحروب المعاصرة وكيف أصبحت تحيد عن نسق الحروب التقليدية بين الدول Interstate wars التي تقوم على التنافس على الموارد، أو اختراق الحدود البرية أو الجوية، أو المواجهة حول أحقّية الدّولة بالمياه الوطنية، أو الانتهاكات الأخرى لسيادة دولة من قبل دول أخرى. لكنّ هذه الحروب بين الدّول في تراجع عددي حاليا مقارنة مع تصاعد وتيرة الحروب داخل الدولIntrastate wars ، وهي كناية عن الحروب الأهلية وانشطار اللّحمة الوطنية بسبب فشل الدولة المركزية في الاستجابة لمطالب الشّارع بالحياة الكريمة وانسداد آفاق المستقبل وبالتالي تزايد الفجوة بين المجتمع والدولة.
المفارقة السابعة والأخيرة هي نتيجة تراكمية لضعف فعالية القانون الدولي، وتعثّر الأمم المتحدة في تسوية الأزمات الليبية واليمنية والسّورية منذ تسع سنوات، وفشل اليسار اللّيبرالي في استدامة تأثيره في العلاقات الدولية. وفي ظلّ هذا الوضع، نعايش حاليا مناورات اليمين واستعراض العضلات في السياسة الدولية عندما يقول دونالد ترامب إن “الشرعية هي القوة”، وأنّ الطرف القوي يفرض ما يراه مناسبا في تركيب شرعية مطاطية. وأصبح الخطاب الترمبي أبعد ما يكون عن الدفاع عن حقوق الإنسان والحرية وحقوق الأقليات والبوتقة الثقافية وبقية القيم التي قامت عليها أمريكا وتحولت من خلالها إلى بناء سياسي وقيمة حضارية في العالم.

أربع منطلقات إبستمولوجية:
أوّلا، ينسج صراعلوجيا على هدي سوسيولوجيا، وانثروبولوجيا، وجينيالوجيا، وسيكولوجيا، وبقية “ا—–جيات” التي تفرّعت تاريخيا من أمّ العلوم: الفلسفة منذ عهد الإغريق. وأستحضر هنا مفهوم الرّاحل المهدي المنجرة الذي بلوره في كتابه “عولمة العولمة” حول تطوّر العلوم وتجاوز الفصل بين حقول المعرفة المتشعبة، هو مفهوم “الشبكية” الذي لا يعترف بأي حدود معرفية بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية أو ما غرسته المدرسة الفرنسية جزافا في أذهان المغاربة بـ “التخصص spécialité”..
ثانيا، دعوة نيوكولاس كريستاكيس المدير المشارك لمعهد جاسكون للشؤون الدولية في جامعة ييل الأمريكية الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية لعدم الدفاع عن تخصصاتهم القائمة فحسب، بل وأيضا أن “يسخّروا أغلب جهدهم لتأسيس مجالات معرفية جديدة مثل علم الأعصاب الاجتماعي، والاقتصاد السلوكي، وعلم النّفس التطوري، وعلم التخلّق الاجتماعي، وهي تخصّصات يوجد معظمها، وليس من قبيل الصدفة، عند تقاطع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، يستخدم علم الاقتصاد السلوكي علم النفس لإعادة تشكيل الاقتصاد الكلاسيكي بشكل جذري.” ومن تجليات هذا التحول المعرفي مثلا، قررت جامعة هارفارد نقل دراسات التخصّص الفرعي للأنثروبولوجيا العضوية، التي تعتمد على دراسة الجينات المعاصرة، من شعبة الانثروبولوجيا إلى شعبة البيولوجيا أو علم الأحياء البشرية التطوّرية.
ثالثا، يستدعي تحليل أي صراع وتفكيك عناصره الجمعَ بين الروافد البنيوية والمجتمعية والفردية معا بالنظر إلى تشعّب أسبابه بين ما هو عوامل بنيوية ضمن التركيبة السياسية والاقتصادية والثقافية، أو ما يمكن تسميته النظريات البنيوية Structural theories وما هو ميول أو سلوكات فردية تكرّس ذاتية الفرد وبيئته العائلية والمجتمعية، أو نظريات الفرد Theories of the person). وخلف هذا التّوازي بين نظريات البنية ونظريات الفرد، يتوخّى علم فض الصراعات توجيه الأنظار إلى العوامل الجذرية أو الدفينة التي تُديم أمد الصراع، ويسعى بالتالي لتحديد مسار مناسب لعملية خفض التصعيد وتحديد معادلة جديدة بين طرفيْ أو أطراف الصراع.
رابعا، عند تقاطع قوّة البنية الاجتماعية وتطلّعات الفرد، تنطوي نظرية التعقيد أو التداخل Complexity theory على أهمية متنامية لدى المنظّرين والممارسين خاصة من أنصار مدرسة تحوّل الصراعconflict transformation . وتكمن أهمية الانفتاح على هذه النظرية في مستويين: أولهما الحاجة للتدقيق في العلاقات والتأثيرات لمختلف الرّوافد البنيوية للنزاع عند عملية التحليل. وثانيهما، الحاجة لقياس التغيير في العلاقات بين أطراف الصراع عقب القيام بالوساطة أو أي شكل من أشكال التدخل الأخرى على مستوى الممارسة. ولهذه الغاية، تستدعي نظرية التعقيد التكامل على المستويين النظري والعملي، وأنّ من الممكن أن تحفّز المنهجية العابرة بين شتى العلوم هذا التطور في مجال السلام والصراع.

ما خلف صراعلوجيا؟:
يمكن تحديد تعريف أولي لصراعلوجيا بأنه ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع. وفي الوقت ذاته، يجسّد خلاصة وافية من تقنيات التحوّل والتدخّل والمعونة والموارد والإجراءات. ويهدف إلى تكوين باحثين وممارسين ميدانيين متشبّعين برؤية برغماتية من أجل الحدّ من الصراعات وحفظ السلام في شتى بؤر الصراع في العالم. ويحاول رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، على أساس القيام بأكبر مجهود من التمحيص والتحري، وأن الظاهرة قد تبدو “غير قابلة للتفسير ما لم يكن هامش المراقبة واسعا بما يكفي ليشمل السياق الذي يحدث فيه الصراع. ولا يقتصر على مجال العلوم الاجتماعية فحسب، بل يستوعب أيضا جميع المعارف البشرية العلمية والعقلانية والمعرفة الحدسية والعاطفية. وتتم دراسة جميع هذه المعارف والقدرات أيضا من منظور البيولوجيا، والطب، وعلم الأعصاب، والمذاهب الصوفية، وتوجهات المنطق وكل تلك الطرق التي تسهم في الشعور بسلامنا الداخلي: السلام العقلي والنفسي والعاطفي.
وينبني هذا الصراعلوجيا على المدرسة التقليدية المعروفة بفض أو تسوية الصراعات، وتتمسّك بأنّ فضّ الصراع حسب مقوّماته التي تبلورت منتصف القرن العشرين علم اجتماعي يُراعي الخصوصيات المحلية، وتأثير العوامل العائلية أو القبلية أو المجتمعية أو الدينية أو التاريخية وكل التركيبة الثقافية، وتباين طبيعة الصراعات عن بعضها بعضا من حيث فهم كلّ طرف لطبيعة الصراع وأسبابه الجذرية برؤى ذاتية متضاربة في الغالب وليست موضوعية واحدة. ويستحضر أيضا مراعاة خصوصية المعرفة التي تتأتّى من العلوم الاجتماعية، وتكمن في أنها تتعلّق بالمجتمع، وأنّ علماء الاجتماع يرتبطون بطريقة ما بالمجتمع الذي يشكل موضوع تحقيقهم. وتساهم العلوم الاجتماعية في تطوير الأحكام، مما يعني أنّها لا تقترح حلولا للنزاعات فحسب، بل تصبح تلك الحلول المقترحة جزءا من الالتزامات النظرية أو الإيديولوجية لعلماء الاجتماع.
يمكن تحديد تعريف أولي لصراعلوجيا بأنه ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع.
ينمّ نسق الصراعلوجيا عن ارتباط نجاح أي تدخّل أو وساطة أو استراتيجية للتّعامل مع الصراع بمدى مراعاة السّياق الداخلي في المجتمعات المتأزّمة، وبنية التفكير السّائدة بين الأطراف وقناعاتهم الشخصية والمجتمعية، وهذا امتداد منطقي لفلسفة الأنثروبولوجيا، خاصة ما يعرف بالأنثروبولوجيا التفسيرية Interpretive Anthropology، التي تعدّ أحد الروافد الرئيسية في تطور هذا العلم واستقلاله المتنامي عن العلاقات الدولية وعلم السياسة. وتعكس هذه الرؤية صدى لمفهوم “الوصف العميق”Thick description الذي جاء في كتابات جبلير رايل Gilbert Ryle، ومفهوم “تأويل الثقافات”The Interpretation of Cultures لدى كليفورد جيرتز Clifford Geertzالذي يعتبر أهم باحث في الأنثروبولوجيا الثقافية في النصف الثاني من القرن العشرين.
يعدّ هذان المفهومان امتدادا للنسق الفلسفي القائم على أهمية “الفهم”Verstehen لدى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1860-1920) الذي كان يدعو إلى تركيب “علم العقل “Geisteswissenschaften، وهو توحيد العلوم الإنسانية كالفلسفة، والتاريخ، وفقه اللغة، واللسانيات، وعلم الموسيقى، ودراسات المسرح، والدراسات الأدبية، والدراسات الإعلامية، وأحيانا علم اللاهوت والفقه التقليدي ضمن مناهج التعليم في الجامعات الألمانية. ويؤدّي التفاعل بين العلوم الاجتماعية ودراسات الصراع، سواء من منطلق “متعدّد التخصّصات”multi-disciplinary أو “عابر للتخصّصات”inter-disciplinary، إلى تطوير المعرفة من أجل تحقيق غايتين على الأقل: “أوّلا، تحويل أو تعديل أو تحريك أو التلاعب بأي جزء من الطبيعة “الصرفة”، أو الطبيعة التي تم تعديلها فعلا على نطاق واسع. ثانياً، تجسّد المعرفة التفاعل التواصلي بين الناس، وتنطوي على المشاركة ونقل المعنى.
لا أرمي صوب إعادة تركيب التاريخ النظري لفض الصراعات، ولا أن أدافع عن أي “استثناء” عربي أو إسلامي أو شرقي كما لو نحن في حلبة التباري بين “مفاهيمنا” العربية و”مفاهيمهم” الغربية، أو أحقية “أصالتنا” على “معاصرتهم”، أو يجادل بشأن أحقية “الملكية الفكرية” مع الغرب في تطوير معرفة علمية بتعقيدات الصراعات وسبل تسويتها والحد من تداعياتها السلبية. لكنه يتمسك بحتمية التراكمات التاريخية وجدلية التكامل بين ما أنتجته موجات الممارسة عبر العصور القديمة والحقبة الراهنة في التنظير والتدوين في مجال التعامل مع الصراعات.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here