“لغتنا الجميلة” :
يحكى أن الزعيم الألماني “بسمارك” سئل: ما هو أكثر أحداث التاريخ إيلاما لك؟، فقال عندما أقرت أمريكا اعتماد اللغة الإنكليزية لغتها الرسمية، رغم أن اللغة الألمانية حققت نتيجة أعلى منها في الاستفتاء الذي أجري فيها لاختيار لغة الدولة.
لاحظ المراقبون للمحادثات الجارية حاليا بين روسيا وأوكرانيا على خلفية الحرب القائمة، لاحظوا أن الجانب الروسي لم يذكر موضوع من أسماهم بالنازيين الجدد، الذين تروج أجهزة إعلامهم أن الحرب شنت بسببهم، وبدلا من ذلك يطرحون ضمان حرية التحدث باللغة الروسية في المناطق الشرقية من أوكرانيا.
وعند تفاوض اليابانيين مع الأمريكان حول شروط الاستسلام، وافقوا على كل الشروط إلا شرطا واحدا وهو جعل الإنكليزية لغة اليابان الرسمية.
من الأمثلة الثلاث السابقة، نستخلص ان أهم سمات أية أمة هي لغتها، فهي عنوانها الثقافي وسمتها الحضارية، لأنه ما من أمة تخلت عن لغتها إلا واضمحلت والتحقت بغيرها.
لذلك رأينا أن أهم عامل لوحدة الأمة بعد العقيدة هو اللغة، ويبدأ تداعي الأمم المنذر بالزوال عند انهيار منظومتها الأخلاقية التي ترتكز أولا على العقيدة السليمة وثانيا على تخلخل بنيتها الثقافية، وتبدأ بحلول اللهجات المحلية مكان اللغة الجامعة.
ولقد رأينا كيف أن المصالح الاقتصادية جمعت الدول الأوروبية سريعا في اتحاد، فتخلت الأقطار عن عملاتها المحلية وقبلت عملة موحدة وبرلمانا واحدا ومفوضية واحدة لرسم السياسات الخارجية، لكن ظلت وحدتها الاندماجية بعيدة المنال بسبب تعدد اللغة، وتمسك كل دولة بلغتها، وعدم قبول التخلي عنها.
لذلك كان استهداف اللغة على رأس أولويات المستعمر الأوروبي عندما هزم أمتنا في بداية القرن العشرين، وكان من الممكن ذلك لولا نعمة أن كان القرآن الكريم باللغة العربية.
لم تكن العقبة بسبب الوعي لأهمية اللغة، فقد تولت الأنظمة التي ولاها الغرب على الأمة مهمة التغريب الثقافي، والترويج لقصة أن العربية لغة الشعر والأدب، ولا تصلح لأن تكون لغة العلم والتقنية، وتوانت عن ترجمة المصادر العلمية الأجنبية اللازمة للتعليم الجامعي، مع إمكانية تحقق ذلك، فكل دول العالم تفعله، لكنه مقصود لكي يكون التعليم الجامعي باللغات الأجنبية وليس بالعربية، لتسهيل الالتحاق الثقافي بالغرب.
كما ساهم المثقفون التغريبيون طوال القرن الماضي بوضع مناهج تعليمية للتلاميذ بأساليب منفرة من العربية بجعل قواعدها النحوية والصرفية ثقيلة صعبة الفهم، ولكي يتقبلوا تعلم العلوم في الجامعة باللغة الإنجليزية في بلاد المشرق العربي، وبالفرنسية في بلاد المغرب العربي.
صحيح أن الدين هو الحارس الأمين للغة العربية الفصحى من ضياعها بسبب استخدام اللهجات المحلية اليومي الغالب، فكل اركان الإسلام القولية كالشهادتين والصلاة والحج، إضافة الى الأذكار والأدعية، جميعها لا تقبل إلا باللغة العربية الفصحى.
إلا أن هنالك تأثر كبير، يتزايد يوما بعد يوم، في بقاء التمسك بها في التعاملات اليومية، ومرجعه الى الإفراط باستعمال أدوات التواصل الاجتماعي للتخاطب والمراسلة، وقلة استخدام الكتابة بالقلم، الأمر الذي أدى الى ضعف التعبير اللغوي بسبب قلة المخزون اللغوي للشخص لاعتماده على قليل من الألفاظ الدارجة، ولقلة مطالعة الآثار الأدبية التي كتبت بلغة راقية.
واذا أضفنا الى ذلك، ما أصبح سائدا في معظم أقطار الأمة من توجه ملحوظ لإدخال أبنائهم في مدارس تدرس وفق البرامج الأجنبية، بعد أن مهدت الأنظمة لذلك بجعل التعليم العام (باللغة العربية) طاردا، كونه بات في أضعف مستوياته، نجد أن الأجيال القادمة لن يكون لها كبير ارتباط بلغتها، وذلك يتوافق مع رعاية الغرب ودعمهم لجهود العلمانيين التي جعلت الهجوم على الدين (حامي اللغة العربية الرئيس) شغلها الشاغل، سنجد أنه في النتيجة أنها جهود منسقة تؤدي إن نجحت الى دحر الأمة ثقافيا، وهي الطريقة الوحيدة لحملها على الاستسلام والتخلي عن واجبها الرئيس في الدعوة لمنهج الله.
فمن سيتصدى لذلك ويحبطه غير المخلصين من أبنائها؟