أثارت مقالتي المنشورة قبل يومين بعنوان “كورونا المغرب: فشل الاحتواء وأمْنَنة المرحلة” ردود البعض بأنّ استخدام لفظ “فشل” كان “مجحفا ومُجانبا للصواب”، أو أنّه “مطلق ومتسرّع” كما قال بعض المتحمّسين لقصّة “نجاح” المغرب و”حنكته في تدبير الأزمات”.
لا أستغرب من هذه القناعات الذاتية، ولا ألومهم على تشبّعهم بخطاب عاطفي، أكثر منه عقلاني، يمزج بين تقبّل الاستعراضية الأمنية المغالية في التحكّم في الشّوارع وسردية “مصلحة الوطن”. القراءة من الداخل ليست كالقراءة من الخارج. ومنطق القياس “الوطني” الحماسي لا يقبل العقل البارد غير الموالي، ولا المقارنة الموضوعية مع استراتيجيات دول أخرى تسعى بدورها للحد من انتشار الفيروس وحماية الصحة العامة في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى، دون أن تهدر حقّ المواطنة وبقية القيم المشتركة.
في غمرة الحماسة وقرع طبول الحرب جزافا ضدّ وباء كورونا، قد تختلط الألوان وتتداخل الغايات المعلنة وغير المعلنة. ويعود “القيّاد” والشيوخ” و”المقدمّين” وبقية أعوان السلطة في نشوة المرحلة يفرضون منطق القوة، ومنحى التعنيف أحيانا، على منطق السلامة العامة واحترام المواطنة. ويعود المغرب إلى سنوات رمادية حاول التخلّص من تركتها منذ عشرين عاما. هناك فرق شاسع بين فرض صرامة تحمي المواطن واعتماد أسلوب الزجر و”التصرفيق” والعنف الجسدي واللفظي إزاء شباب زادتهم حملة كرونا قنطا على قنط. ومشاهد هذا الفيديو غيض من فيض في انتهاكات أخرى غير مسجّلة تتكرّر في أكثر من حيّ وأكثر من مدينة.
من يدافع عن هذه التصرّفات لهؤلاء المدجّجين بمنطق السلطة أو بالأحرى شطط السلطة، أو يجد له تبريرا “منطقيا” لضرورة المرحلة، يغدو محاميا من حيث لا يدري عن نظرية سيكولوجيا الجماهير. فنعود مجدّدا إلى مؤلّفات غوستاف لوبون، وغبرييل طارد، وسيمغموند فرويد، وستيف ريتشر وغيرهم لمعرفة كيف يتدرّج الجمهور نفسيا، وليس عقلانيا خاصة أوقات الأزمات، عبر ثلاث مراحل نحو ما يصبح إجماعا، أو توافقا، أو “واجبا وطنيا”: أوّلها، مرحلة الغمر، ويفقد فيها الأفراد إحساسهم بالذات الفردية والمسؤولية الشخصية وسط انغماسهم النفسي مع بقية الجمهور. ثانيها، تنتشر العدوى الذهنية، (ليس عدوى كورونا)، بين الأفراد وسط الجمهور العام باتباع الأفكار والعواطف السائدة لديه بلا جدال أو تقييم أو انتقاد. ثالثها، مرحلة الاقتراح التي يتمّ فيها استخلاص أفكار وعواطف الجمهور في المقام الأول من اللاوعي المشترك. ويأتي هذا السّلوك من اللاوعي المشترك القديم، وهو غير حضاري في طبيعته. وتنمّ هذه المرحلة عن محدودية القدرات المعرفية والأخلاقية لدى الأعضاء الأقل قدرة على التفكير النقدي.
يلاحظ منظّرو سيكولوجيا الجماهير أيضا أن بعض الأفراد داخل المجموعة يشعرون بشعور أقلّ من اللّوم القانوني بسبب صعوبة محاكمة سلوك الغوغائيين. ولا يختلف تعنيف المواطن عن هذه الغوغائية وإنْ كانت باسم “القانون”، وما يعتقد القايد أو عون السلطة أنه “مشروع” ضمن صلاحياته التي ينطوي عليها المنصب أو تمثيل الدولة في المجال العام. لا غرابة أن تكون هناك غوغائية الخارجين عن القانون، لكن الأغرب أن يتمّ تبرير غوغائية رجال وأعوان السلطة عندما يتجاوز سلوكهم ما قصدته السلطات بفلسفة الحجر الصحي الاحترازي، وليس “تجريم” أو “محاكمة” المواطن تحت طائلة “تنفيذ التعليمات”.
يبدو أن سلوكيات التعنيف لرجال السلطة في هذا الفيديو قد لا تلقى الانتقاد على نطاق واسع بسبب انغماس جلّ الجمهور في منطق التبرير وغضّ الطرف عن انتهاكات جلّية، وحتى في القبول بتجاهل أو استبعاد أي منظومة قِيَمٍ متعارف عليها، أو حاول تناسيها من حقبة الجمر والرصاص.
لا يزال حلمي كبيرا في مغرب الحداثة، مغرب احترام المواطنة!
لتصلك اخر اخبار المقاطعة حمل تطبيق هبة بريس من بلاي سطور على الرابط الاتي:
https://www.youtube.com/watch?v=Vns3gqz2OTo&fbclid=IwAR3aIVSfhZXPeaoGbb7R5H1JIDv0PS9MiyXIAHOgGN3uxAVKlTU2Dur5CiI