كيف يقطع المغرب شعرة معاوية مع مغاربة العالم!
رؤى الشتّات كما يكتبها سبعة مثقفين ونشطاء في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية
د. خديجة حياري الولايات المتحدة، د. محمد الشرقاوي الولايات المتحدة،
لطيفة أيت باعلا بلجيكا، عبد العزيز سارت بلجيكا،
د. محمد كنوف ألمانيا، د. محمد مريزيقى فرنسا،
د. محمد عصام لعروسي تركيا/ المغرب
مقدمة
يشعر جلّ مغاربة العالم بخيبة أمل مضاعفة من موقف الحكومة والأحزاب من مبدأ مشاركتهم السياسية وحقّ المواطنة الكاملة اللتين أقرّهما الخطاب الملكي عام 2005 ودستور عام 2011. ويزداد الغيض من فيض بعد تجاهل المذكرة المشتركة لأحزاب “الاستقلال” و”الأصالة والمعاصرة” و”التقدم والاشتراكية”، الصّادرة قبل أيّام، لمغاربة العالم على الرغم من تركيز المذكرة على محورين رئيسيين: “الإصلاحات السياسية والديمقراطية”، و”الإصلاحات الانتخابية”، ودعوتها لإبرام “تعاقد سياسي جديد”. ويتكرّر الصمت المطبق عن التمثيل السياسي لمغاربة العالم أيضا في مذكرة “العدالة والتنمية” التي تصبو إلى “إعمال المقاربة التشاركية في مراجعة المنظومة الانتخابية، في إطار منهج تراكمي يرصد إيجابيات الاستحقاقات الانتخابية السابقة ويتجاوز نواقصها وثغراتها”. ومنذ مارس الماضي، زادت مؤشّرات الحنق بين مغاربة العالم بسبب تعامل الرباط مع ملف العالقين في الداخل والخارج، وسط ملفات عالقة أخرى بشأن مغاربة المهجر، مما يكرّس بوادر القطيعة النفسية والاجتماعية والعزوف عن زيارة المغرب، فضلا عن التفاف فئات واسعة من المثقفين في أوروبا وأمريكا الشمالية حول فكرة التّضامن والتّعبير عن ذاتيتهم وقناعاتهم، وتنظيم أنفسهم فكريا وسياسيا كشتات قائم بذاته، وسط تركيز اهتمام الرباط داخل دائرة التحويلات المالية.
يستعرض هذا الملفّ الخاص مواقف سبعة من الشخصيات الأكاديمية ونشطاء المجتمع المدني في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية حول ديناميات العلاقة ومآلها بين مغاربة المهجر والمغرب الرسمي، وبعض الاعتبارات والقضايا التي لا يلتقطها رادار الرباط عند تتبّع أوضاع قرابة ستّة ملايين مغربي ومغربية في الخارج.
أسئلة تفيض بالمعنى عن روح مغاربة العالم:
عندما ينضج العقل النقدي لدينا نحن مغاربة ما وراء الحدود، يكون النسق الوجودي أكثر واقعية في حيثيات حياتنا وعلى تعدّد مستوياتها. هكذا نستطيع بناء المنظومات الفكرية المؤطّرة للحياة الاجتماعية والنفسية إلى درجة خلق النموذج الحياتي الفكري والسياسي. وتنمّ هذه التوطئة حتما عن تدرّجات الحقيقة الواقعية إذا توفّرت لها كل عوامل النجاح. فماذا لو أتيحت لنا، نحن “مغاربة العالم”، أسباب الاندماج من الخارج في الداخل؟ ولنطرح السؤال بصيغة التمثل الواقعي الصّرف، ما هي الأسباب التي جعلت مغاربة العالم أصواتا خارج المشهد السياسي المغربي؟
لا يمكن اعتبار الانتماء إلى الوطن أمرا اعتباطيا أو قليل المعنى في الوجود البشري. إذ يعتبر الأصل في الوجود المادي في بعده الإنساني كينونة فائقة الأهمية. هكذا يمكن للمواطن، فردا أو جماعة، أن يكون مثالا مرجعيا للارتباط في أبعاده الهوياتية. فماذا عنّا، نحن مغاربة المهجر؟ هل يمكن اعتبار انتمائنا للوطن الأصل امتدادا طبيعيا لوجودنا وهويتنا؟ أم حالة عرضية بلا جذور تدلّ عليها؟ كنّا وما زلنا عبر تاريخنا الزمني والفكري والسياسي نخلق كل أسباب الارتباط من مستويات ذواتنا بالوطن والهوية، مبدعين في المعنى الأمثل للرّابطة المقدّسة، عرقا وجنسا، صانعين تمثلات الهوية بمعانيها العليا. على دوام العقود الستة الماضية، كنّا نتحدى كل الأسباب التي من شأنها أن نقطع حبل الصلة وإفراغنا من هويتنا. ويظل المشهد الاجتماعي الشامل، بما فيه الثقافي والسياسي، دائرة كبرى تشدّنا إليه كل الحالات الواقعية والمتوقّعة. وفي ظلّ هذا النسيج النفسي والذهني، تظل حالات من الأسئلة قائمة تقلق عقولنا في إيجاد أجوبة شافية عما يحدد وجودنا ومعناه ضمن مفهوم الهوية، والرعية، والمواطنة بين مغرب الخارج ومغرب الداخل:
أولا، حالة التهميش: هي حالة مصطنعة جدّا بمزاج المغرب الرسمي. والتهميش مقصود لدفع كل صوت وجودي وفاعل من الخارج وجعله ينزوي في زاوية متحف بشري معروض فقط للتفرّج عليه. ولهذا التهميش أسبابه النسقية المبتدعة في حالتنا. لقد عانينا وما زلنا منذ الستينات حالة التهميش والإغفال القسري، لم نكن قط في يوم من الأيام حالة بشرية لها وزنها في المشهد الوطني في الداخل، لا لكوننا غير متفاعلين، ولكن لقوة قطعت عنّا ومازالت سبل الفعل والتفاعل. نحن واعون تماما بحتمية الهدف الذي نصبو إليه بكل قوانا الفكرية والاجتماعية: هدفٌ سامٍ يرنُو إلى بلورة تواصل واندماج واقعيين في المشهد المغربي وامتداداته عبر العالم. نحن ندرك أننا بحسّنا النقدي العلمي ونسقنا العملي، نهدف إلى بناء كينونة ومنظومة اجتماعية تتكامل فيها أسباب النمو والتقدم وتجعل المشهد أكثر ثقافة على المستوى الاجتماعي والسياسي. والمطلوب والمنشود من رباط الانغلاق أن تكون رباط الفتح حقيقة، وأن تفتح باب الاندماج والمساهمة أمامنا في صناعة مشهد وطني يتعزز برؤى الاجتهاد ودواعي التوازن الواقعي في التشارك لصناعة القرار الوطني وبكل أبعاده. وحقّ المشاركة والتفاعل والانفعال الإيجابي ليس تطورا بين الدول وشتاته في العالم فحسب، بل وأيضا قاعدة واقعية للسير بالوطن إلى أعلى درجات التنمية وإحقاق الصورة المثلى لأي ازدهار ولأي ثقافة حية بمفهومها العام إذا استحضرنا دولا أخرى بنت جسور التعاون مع شتاتها في العالم.
ثانيا، نتبنّى فكر التداخل الثقافي: نحن مغاربة المهجر بتباعد جغرافياتنا وتقاربنا هواجسنا نطمح إلى بناء مقاربات عملية للمساهمة المتنورة في تحقيق التداخل الثقافي المكتسب والأصيل مع وعينا بمراعاة شتى الثوابت. من شأن هذه المقاربة قطع جميع أسباب التباعد الجغرافي والثقافي الذي أصبح نسقا مفروضا علينا وبمرجعيات ثقافية وشخصية في الداخل. وهذا ما يحزّ في نفوس أجيال من مغاربة المهجر ومن مختلف المشارب الفكرية والمرجعيات الفلسفية. بيد أنّ التنويع في المصادر والأسباب الواقعية هو ما يصنع طرائق للنمو والتقدم ونمو ثقافة الفرص الديموقراطية والاجتماعية.
ثمّة سؤال نردّده منذ زمن ليس بالقصير: متى تُتاح لمغاربة العالم فرصة التأسيس لنموذج متكامل في صناعة القرار الثقافي عموما، والسياسي خصوصا، إلى جانب مغاربة الداخل؟ لن يتأتى الجواب بسهولة كما نظن، ولن يجيب بعض رجال المرحلة في رباط الاحتراس بشفافية وصراحة. بل سيكون حتمية لمعطيات ناتجة عن التعامل المعلن معنا على قدم “المساواة” كما نحن متساوون في حالة الانتماء. وتكمن الغاية لدينا في أن نكون مساهمين في بناء صرح حضاري قائم على الواقعي والنقدي والسلم الثقافي. هو واجب الترحيب بنا باعتبارنا شريحة متكاملة التأصيل في المشهد، من شأنه أن يحفزنا إلى ما هو سام وراق، وبذلك تسهل كل حالات التدبير العام في التنمية بكل أصنافها.
ثالثا، لِمَ التخوف والتوجس من مغاربة العالم؟ سؤال وجيه نطرحه منذ عقود، ولا تزال الإجابة عنه عالقة إن لم تكن مغيّبة هي الأخرى في هذا المغرب العالق! في طيّات السؤال مكر أخلاقي، ليس المكر منّا، ولكن من الذين خلقوا منا “بعبعا خطيرا” يهددّ المشهد الوطني، أو من وَشَوْا بأننا “طابور خامس” زاحف، وهم من ينكرون علينا الحق في بناء مفهوم المواطنة وتطوير سردية الرعية التي من حقها المساهمة في إعلاء صرح الوطن في شتى الأبعاد المادية والمعنوية. قد يصاب المرء بالدهشة الحقة، أو حتى الغثيان أو دوار الأمعاء، عندما تكون العُقَدُ اللاأخلاقية هي من يصنف فئات مجتمعاتنا على حسب الأهواء والأمزجة والمصالح لدى فئة مستحكِمة في القرار.
إبعادنا عن مبدأ المشاركة بسبب التخويف غير الأخلاقي منّا وفق فرضيات واهية لشتى سرديات الشيطنة أو نظريات المؤامرة من شأنه أن يصنع مشهدا ناقصا ومبتورا ومريضا لن تكتمل له الأسباب اللازمة لنجاح التكامل المادي والمعنوي في ظل عولمة وتشابك فكري وتكنولوجي عالمي. فهل لهذا الخوف والتخويف والتشكيك فينا مبررات واقعية؟ قطعا لا، لسبب بديهي كوننا نعيش على مبدأ الثوابت ومبدأ التكامل السلمي الجمعي وبكل معانيه والتفاعل بين قيم مغربية وأخرى كونية. مغاربة العالم لا يخيفون أحدا مادامت المصلحة عامة والهدف أسمى من كل اعتبار شخصي أو منفعي إذا كان المغرب للجميع. وعندما تصرّ الرباط على انغلاقها، نزداد نحن قناعة بضرورة تفكيك ونسف سياسات التهويل والتخويف التي تروج لها جهات من وراء ستار لا ترغب في المساهمة الفعلية في إنماء كل دور مؤهل للمساهمة في صناعة المشهد المغربي الحقيقي.
رابعا، متاهة دستورية ومعيارية: لماذا تجمّد الخطاب الملكي عام 2005 وبعض مواد الدستور دون تبرير أو سند سياسي أو قانوني بشأن المشاركة السياسية الكاملة لأكثر من خمسة ملايين من مغاربة العالم في صناعة القرار الوطني؟ ألا يكون من الأجدى أن نكون مساهمين في الاستثمار التنموي سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟ ولماذا نعدّ في نظر الرباط مجرد أرقام تضاف إلى الخزينة دون أن يكون لنا رأي في تنمية الوطن على كل المستويات. أليس المغرب للجميع؟!
مغاربة العالم: خطاب المواطنة في مواجهة سياسات الإقصاء:
تنطوي العلاقة التي تجمع مغاربة العالم ووطنهم الأم على عروة وثقى مركّبة تتداخل فيها الروافد الثابتة من الانتماء الهُوِيَاتي، بمجاراة التباعد الجغرافي والمرجعية التاريخية التي تشكل المخيال الجمعي والوعي السياسي، وأيضا الروافد الثقافية والحضارية كبنائية اجتماعية متحرّكة تجعل مغاربة الشتات لا ينفصلون كليا عن الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي للبلد الأصل. ولا يمكن التقليل من أهمية العامل الاقتصادي أيضا باعتباره اللحمة الأساسية التي شكلت تاريخيا سبب هجرة المغاربة المتحدّرين من المناطق المهمشة من نطاق التنمية، والتي كانت تعرف تاريخيا بمناطق “السيبة” لعدم خضوعا لفترات تاريخية معينة لسلطة المخزن، وخاصة منطقة الأطلسيْن المتوسط والكبير والواحات ومنطقة الريف، ومنها توالت موجات الهجرات منذ الستينات من القرن الماضي نحو فرنسا وبلجيكا وهولاندا، وبعدها الى اسبانيا وإيطاليا، ثم الولايات المتحدة وكندا ودول الخليج العربي في العقود الثلاثة الماضية.
اختلفت مفاهيم الهجرة المغربية نحو الخارج، وتباينت في ظلها تمثلات النظام المغربي لها، وتدرّجت السياسات العامة بشأنها من صيغة “عمالنا في الخارج”، ثم صيغة أكثر شمولا وأقلّ قدحا “المغاربة المقيمون في الخارج”، ونهاية بعولمة المفهوم والترويج لمصطلح “مغاربة العالم”. فاتسمت الصيغة الأولى بارتباطها بهجرة فئة اجتماعية تنتمي في معظمها إلى المناطق المنسية المذكورة سابقا بسبب الفقر والحاجة وشحّ فرص الشغل. لكن العائد كان مهمّا في دعم أسر المهاجرين بتلقي الحوالات المالية والمساعدات من الخارج، ما ساهم في إحلال مستوى من التوازن المجتمعي والاقتصادي المبني على أساس التضامن الأسري بعد أن تعثّر تضامن الدولة مع المجتمعات المحلية المغلوبة على أمرها.
لم يكن مصطلح “الشتات” في تعريفه الكلاسيكي ينطبق على الهجرة المغربية التي انحسرت بداية في أوروبا الغربية حيث شملت عمال القطاعات الصناعية والفلاحية والتقنية. فلم يقم الجيل الاول بأيّ دور في المجال السياسي والنقابي في دول الاستقبال، بل ظلّت العلاقة التي تربطهم بالمغرب أشبه بالوصاية الأبوية تجسيدا لمفهوم الرّعية والسلطان. وقد ميّز الباحثان غابرييل شيفر وموش ماوز بين الشتات لأسباب تاريخية والشتات الناشئ. فوضعا تحت هذا المسمى الشتات اليوناني والتركي، ويمكن إدخال المغرب ضمن هذه الخانة، لكن انعدام الارتباطات والتفاعلات لهذا الشتات في مختلف القارات دفع رشيد العلوي الى تفضيل مفهوم “المجموعات عبر الوطنية” في دراسته الصادرة عام 2013.
كان المهاجرون المغاربة يعيشون في مناطق هامشية في دول الاستقبال ضمن جيوب جغرافية وهوياتية جانبية، كما هو حال مهاجري الستينات والسبعينات في باريس. ولم يسعوا لتغيير مسوّغات وجودهم كشتات مهاجر ذي ميزات خاصة على غرار الشتات اليوناني أو اليهودي أو التركي. وشهدت هذه الفترة أيضا توجس النظام المغربي من المعارضة السياسية التي كانت تنشط في الخارج، خاصة أقطاب المعارضة اليسارية في السبعينات. فاستهلت الرباط تجربة “ودادية المغاربة المقيمين في الخارج”، فيما الهاجس الامني هو المحرّك الحقيقي للعلاقة بين النظام المركزي في الرباط والجالية المغربية عبر العالم. بيد أن تجربة الوداديات فشلت في تقديم النتائج المنشودة في السبعينات والثمانينات.
كان الحسن الثاني يرفض فكرة اندماج المغاربة في النسيج السياسي الغربي. وفي مقابلة مع إحدى القنوات الفرنسية عام 1993، تمسّك بأن فكرة الاندماج على شكل الانصهار تفتقد للواقعية السياسية والهوياتية، وأنه لا توجد ارتباطات موضوعية بين الجالية ودول الاستقبال. كان هذا المنطق يجاري قناعته الشخصية والسياسية بأن المغاربة في الخارج “رعايا وامتداد طبيعي للمغرب خارج التراب الوطني”، ولا يمكن لهم الانخراط في قوالب الحضارة الغربية ونظمها الديمقراطية، فضلا عن توجسه من تجريدهم من “تمغربيتهم” بالشكل القانوني عبر التخلي عن الجنسية المغربية بالنسبة للبلدان التي منعت ازدواجية الجنسية. لكن هذه المعضلة وضعت المغاربة المهاجرين في مأزق قانوني، وسببت لهم الارتباك بين قرار عدم المشاركة في الانتخابات الغربية والاستثناء من المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المغربية، مما يعقد مفهوم المشاركة السياسية بشكل عام، إلى حدّ أن الحسن الثاني رفض مشاركة المغاربة في الانتخابات البلدية في ألمانيا عام 1986. وينطوي هذا المنحى على تجويف سياسي مزدوج للمغاربة في العالم ونخبهم السياسية والمثقفة في الخارج والداخل.
منذ أوائل التسعينات، راج استخدام مصطلح “الجالية المغربية المقيمة بالخارج” قبل مفهوم آخر يعتريه الغموض وعدم الاتزان اللفظي والمعنوي، وهو “مغاربة العالم”، بسبب استقرار بضعة ملايين من المغاربة في أزيد من 100 دولة. وشهدت العقود الثلاثة الماضية تغيير أنماط التفكير المغربي في توصيف الجالية المغربية، وذلك من خلال البناء المؤسساتي والتعبير عن الاهتمام بشؤون الجالية عبر إنشاء مؤسسة الحسن الثاني للجالية المقيمة في الخارج والوزارة المنتدبة المكلفة بالجالية المغربية. وتزامن هذا البعد المؤسساتي مع تغيير النّمط الوظيفي الاندماجي للجالية التي اختلف شكل وجودها في دول الاستقبال عن سابقتها بجيل ثان وثالث أصبحا يفضلان الانصهار والاندماج في المجتمعات الغربية والمشاركة في تدبير الشأن السياسي في هذه البلدان. وتنحو هذه الأجيال الجديدة منحى يستبدل النمط المعياري التقليدي الذي كان سائدا بين الآباء والأجداد الذين ظلوا في وضعية هجينة بسبب ضعف التحصيل التعليمي والثقافي لديهم، واستدامة الارتباط بالمغرب نفسيا ونوستالجيا من خلال قضاء العطل السنوية في المناطق التي ترعرعوا فيها قبل الهجرة.
تغيرت السياسات الحكومية المغربية إزاء الجالية بعد 2000 في وقت لم تعد نظرية الاندماج مستبعدة، بل أصبحت مستحبة كوسيلة أساسية لدعم المواقف المغربية وأيضا لإنعاش الاقتصاد الوطني والاستثمار في المغرب. وتراجعت مواقف التخوف من قيام معارضة خارجية مهيكلة ضد المؤسسة الملكية. فانتقل النظام المغربي من مفهوم الوصاية والمراقبة الى مفهوم المواكبة والتتبع مع إعطاء بعض الامتيازات للجالية مقابل إسهامها الاقتصادي في التنمية المناطقية والجهوية. لكن ثمة تحوّلان مهمّان في هذا الصدد: أوّلا من الناحية السياسية ورغم الاشارة في الدستور المغربي المعدل سنة 2011 في الفصلين 17 و18 والخطاب الملكي بمناسبة المسيرة الخضراء سنة 2005 الى ضرورة المشاركة السياسية لمغاربة العالم في الاستحقاقات الانتخابية وفي توجيه الحياة السياسية في المغربية، لم يصدر أي قانون تنظيمي يوضح شكل هذه المشاركة. للإشارة فان 115 دولة من أصل 210 لديها مقتضيات قانونية تسمح لمواطنيها في الخارج المشاركة في الانتخابات، لكن 13 دولة فقط تبنت قوانين وإجراءات لتقنين المشاركة السياسية للناخبين في الخارج كالبرتغال وإيطاليا والجزائر. ثانيا من الناحية الاقتصادية، فشلت السياسات الحكومية المغربية في إقناع مغاربة العالم في الاستثمار داخل الوطن في ظل بيئة اقتصادية فاسدة وفي غياب مؤشرات الشفافية والنزاهة والتنافسية حسب العديد من التقارير الدولية، الامر الذي ساهم في هروب مغاربة العالم من الاستثمار في المغرب واقتصار إسهامهم على الجانب الاستهلاكي وعلى شراء العقارات، الاستثمار الذي لم يسلم أيضا من بعض الصعوبات من خلال تعرض أفراد الجالية للنصب والاحتيال من قبل بعض المنعشين العقاريين.
في الأشهر الأربعة الماضية، كشفت القرارات التي أقرّتها الحكومة المغربية في حق العالقين المغاربة في الخارج خلال أزمة كورونا بعد رفض إرجاع المغاربة الى أرض الوطن أو السماح لهم بالرجوع الى دول الاقامة، عن بداية حلقة جديدة من تكريس الشتات المغربي في الخارج المنفصل عن كل السياسات المغربية، حيث لم تعط لهذه الفئة أي أولوية للعودة الى بلدها في ظل تداعيات الجائحة بل و تم المتاجرة بالموضوع بعد مرور أزيد من أربعة أشهر من خلال العودة المشروطة المقترنة بإجراء الفحوص الطبية والعودة من موانئ محددة واحتكار شركة الخطوط الملكية المغربية لكل رحلات العودة وبأسعار مبالغ فيها .
هذا التعاطي العشوائي مع الجالية المغربية في الخارج يدقّ أخر مسمار في نعش العلاقة المؤسساتية بين المغرب ومغاربة العالم، ويجعل هذا الشتات المغربي في إطار العلاقة المركبة مع الوطن الام يدخل في مسار جديد يحتم التفكير في جدية تطوير الشتات المغربي كمكون لجاليات العالم في غياب البعد الغائي عن الادراك الجمعي حول ماهية العلاقة مع المغرب ومقوماته كمجتمع وكتاريخ وحضارة وارتباط جغرافي وبين مغرب السياسات الارتجالية التي فشلت في دفع الشتات بالمفهوم الديسبوري الى التحول الى جبهة مدافعة عن حقوق هذه الفئة السياسية والاقتصادية. وتدعو الخشية إلى ترقب أن تتحول العلاقة الى مجرد رموز وصور وذكريات من الماضي في ظل الأزمة الحالية، ويأس الكثير من مغاربة العالم من التغيير الديمقراطي في المغرب.
مغاربة بلا حدود:
قد يدور في خلد المغاربة شعباً وحكومة أنّ الحديث عن المهاجر(ة) المغربي(ة) قد لا يفضي إلاّ إلى ثرثرة عبثية حول تجارب بشرية تنمّ عن إسقاط سردية أنّهم مغاربة “محظوظون” جادت عليهم دول المهجر بفيض من فرص العلم والعمل والعملة الصعبة، دون أن يبذلوا أدنى جهد مواز وكأنما أشجار الحديقة تثمر ورقات المائة دولار كل صباح، أو التلويح بعقلية اتكالية مشابهة لعقلية جلّ المغاربة في الداخل مع اختلاف بسيط في المكانة الاجتماعية والحدود الجغرافية. وأية محاولة لفهم واقع الهجرة أو النفي ورصد تجربة المواطن أو المواطنة المهاجريْن الملتزميْن بتحقيق الذات أو سعيهما للنجاح والمثابرة كخبيرين في المجال الذي تفوّقا فيه خارج الوطن تبقى مجرّد محاولة نظرية أو “سفسطة” مجانية. وقد تخفت في نظرهم أهمية الخيوط الأصلية في عمق كينونة الشخص المهاجر مهما تلاقت لتشكل الصورة الواقعية عن تجربته، وقد تبقى حكرا على رؤى مختلفة.
للمغاربة الحق في تدبّر دلالة هذه التجربة بسلبياتها وإيجابياتها عن الإسقاط الجزافي أو القراءة عن بعد بانتظار أن يعاينوا عن كثب فحوى التجربة كإنسان أو مواطن أو خبير. وقد يستدعي ذلك في رأيي جهدا عقليا وعاطفيا لبلوغ العمق الروحي والفلسفي لديه كإنسان عميق الذات ومركّب بين عالمين وثقافتين متوازيتين وجغرافيتين متباعدتين. ويمكن تقديم بعض القناعات التي يوقنها المغربي(ة) المهاجر(ة) برويّة حتى يتأتى اختزال المسافة بين مغرب الداخل ومغاربة “بلا حدود”، أو ما وراء البحار، ولو عبر نظرتهم للحياة. وبات الحديث عن المهاجر(ة) المغربي(ة) لا يثير في أذهان مغاربة الداخل أي قيمة اعتبارية أو مضافة سوى القيمة المادية أو النقدية. وعلى مر العقود الستة الماضية، لا تزال دلالة مغاربة الخارج أو “مغاربة العالم” حبيسة استجلاب العملات الصعبة التي تعول عليها الحكومة المغربية سنوياً لتباشر بها تسديد قروضها الدولية. وثمة أكثر من سؤال فلسفي يبرز عند تأمل تلك الروابط التاريخية بين مغاربة الخارج ومغرب الداخل: فمن هو المواطن المغربي في الخارج أو بالأحرى المغربي بلا حدود؟ هو مسافر عبر الأحلام قبل الجغرافيات، وله مواصفات أساسية:
أولا، ملتزم بمواطنته، وهو التزام ينبع من وطنية راقية تفعمها قريحة حب الوطن الأصل بحميمية وعنق تفوق حرارتهما حرارة ما يشعر المغربي داخل الحدود. وهي وطنية منفتحة على الإنسانية والعقلانية في ثقافات أخرى.
ثانيا، عمق الوعي السياسي والاجتماعي لدى المهاجر أو المهاجرة وسط التجارب المتلاحقة والانفتاح على المغرب وبقية العالم. فهما يعيان تماماً أن مفهوم الحكومة والشعب ليس هو تلك الخرافة التقليدية التي لطالما آمن بها المواطن داخل الحدود، حيث تعتقد الأغلبية أن العيش على حساب الكلّ “حق مشروع”!
ثالثا، الميلاد المزدوج، وينطوي على ولادة أولى من رحم الوطن الأم، وولادة ثانية في حضن المُرضعة “أرض المهجر” حيث تشبعت قوة الغرب بفلسفة التنوير والقيم الإنسانية ومنظومات الحريات الفردية وحقوق المواطن. ولا غرابة أن تمتد العقول والعيون المتعطشة للنور إلى هذا التنوير كدعامة لمنحى المغربي المهاجر ليستمد منه وقود قوته وبطارية تفوقه العلمي والمهني. فيصبح المغربي لا “شرقيا” ولا “غربيا”، بل هو روح شرقية وقوة غربية في جسد واحد.
رابعا، المغربي(ة) المهاجر(ة) جزء من الحل وليس من المشكل. وأسوء خطيئة يمكن ارتكابها في حق قداسة المواطن والمواطنة أن تتخلّى عنه حكومته في وقت الضراء، وليس الترحيب به وبما يجلب أوقات السراء فقط، خاصة إن تعلق الأمر بسلامته وأمنه وصحته خارج حدود الوطن كما شهدنا معاناة العالقين في الخارج والداخل خلال الأشهر الأربعة الماضية منذ تفشي جائحة كورونا. علِق الآلاف من المواطنين المغاربة في الخارج وفشلت وزارة الخارجية وبقية المؤسسات الحكومية أن تجد لهم حلا للالتحاق بأسرهم، ناهيك عن غياب التواصل حسب دواعي الأزمة وفي ظل التشرد بما يفوق عبارة الوزيرة نزهة الوافي “صبرو معنا”!!!
اكتملت للمغربي المهاجر مقومات المواطنة أين يعيش ويحقق ذاته، وأضحى هذا المواطن بلا حدود يرى مشاكل المغرب بعيون خارجية، لكنه يفكّر بعقلية براغماتية ويتشبع بمنطق الحلول الواقعية بحكم ما استخلص في تجاربه اليومية من العقلانية وترابط الحلول مع المشاكل في ثقافة الغرب. إنه يؤمن أن لكل مشكل حلا، هو يقول ويفعل، ولا يتملص من المسؤولية، فإن أخطأ اعتذر وتحمّل مسؤولية سوء تقديره وسرعان ما يوجه تفكيره نحو إيجاد الحل بسرعة وفعالية. لكن هذه الثنائية المبدئية تغيب في كبرياء فج في سياسة الرباط إزاء المغاربة بلا حدود.
لم نمانع أن نفتح بيوتنا للطلاب العالقين بالخارج، وأن نجسد روح التضامن، كما فعل بعض نشطاء المجتمع المدني في بروكسيل خلال شهر رمضان وبعده، في سد حاجيات العالقين ورفع معنوياتهم. تمنيت لو كانت هناك رابطة “مغاربة بلا حدود” خارج المغرب، وتوأمتها مع جمعية غير حزبية في الداخل، وتضم نخبة من المثقفين والأخصائيين والخبراء في شتى المجالات لتكون صوتاً لمن لا صوت له، تقترح حلولا عاجلة حتى لا يطول أمد ضياع البوصلة في الرباط.
أخيرا، حقبة ما بعد كورونا لن تكون للقوي أو المتفوق فحسب! فالخطر الذي يهدد المغرب اليوم قبل أي زمن مضى ليس هو مثقفو المهجر، أو مفكّرو الشتات، أو من يخرج عن سرب الرباط، بل العدو الكامن في الداخل الذي يتربّص روح الوطنية والمواطنة، وروح الحرية والتطور، ومنحى هذا الشتات الموهوب للمساهمة في بناء مغربي ديمقراطي وحداثي ومنفتح على العالم. في حقبة السلطوية الجديدة، يستنبح المغرب الكلاب الأشدّ ضراوة وافتراسا على مغاربة بلا حدود!
القيمة المغيّبة للشتات المغربي كرصيد استراتيجي:
ثمّة قاعدة ذهبية تتمسّك بها الدول المتقدمة، وإنْ تنطّع لها البعض في المغرب، هي الاحتكام إلى الدّراسات النقدية وعقد المقارنات الموضوعية في تقييم السياسات والاستراتيجيات وقياس التنمية الشاملة بمؤشرات ملموسة. فلا تلويح ولا ادّعاء بنجاح أيّ خطط التنمية دون وضعها على الميزان الدولي والاستئناس بما توصّلت إليه المعرفة العلمية المجردة من أي توظيف سياسي أو تلوين أيديولوجي. بيد أن منطق التّبرير السائد في الرباط غالبا ما يلعب على وتر “الخصوصية المغربية” أو “الاستثناء المغربي”، فيتمّ ليّ عنق دلالة الاستثناء مما هو إيجابي منشود في الأصل إلى التغطية عن تعثرات وتجلّيات الفشل المحرج. ولا يخرج الارتباك وضياع البوصلة عند تعامل الرباط مع قضية العالقين في الداخل والخارج عن سياق معضلات وملفات عالقة أخرى منذ خمسة عقود إزاء مغاربة العالم، وسط تأرجح الإرادة الرسمية بين تشجيع تحويلاتهم المالية والاحتراس من مشاركتهم السياسية ومآل تحويلاتهم السياسية في المستقبل. وتزداد خيبة الأمل والإحباط من مراكز القرار والحكومة والأحزاب معا عند مناقشة وزارة الداخلية “قانون الانتخابات الجديد”، وتراجع أغلب الأحزاب عن مواقفها بشأن المشاركة السياسية للجالية، بانتظار الاقتراع المرتقب عام 2021 رغم تلويح المذكرة المشتركة لأحزاب “الاستقلال” و”الأصالة والمعاصرة” و”التقدم والاشتراكية” بضرورة “تشجيع المشاركة السياسية للمواطنات والمواطنين.” وخلف هذه العبارة تغييب مقصود آخر لمواطني المهجر الذين يتبدد أمام أعينهم مغزى المواطنة المعلنة، ويشعر كثيرون أنها خيانة سياسية وأخلاقية!
قد يلومني البعض في الرباط على إخراج المارد من القمقم بالحديث عن الشّتات المغربي، وليس “مغاربة العالم” كصيغة مهذّبة لعبارة “عمالنا في الخارج”، وإنْ كان شتاتا موجودا في الواقع، ديمغرافيا وفكريا وسياسيا، في مائة دولة يقيم فيها المهاجرون المغاربة. وقد لا يتابع جلّ المسؤولين والشخصيات الحزبية تحوّلات سوسيولوجيا هذا الشتات وتجليات تفكيره ضمن تدوينات الإعلام الجديد والنقاشات العامة والإصدارات الأدبية للجيل الثاني والثالث من أولئك المهاجرين. ولا تحيد تعبيرات هذه الأجيال الجديدة عن مواصفات ما أصبحت الدراسات المعاصرة تعتبرها أصناف الشتات ومنها “الشتات الثقافي”، أو “الشتات الرقمي”، أو “الشتات الافتراضي” كناية عن “استخدام الفضاء الإلكتروني من قبل المهاجرين أو أحفاد مجموعة مهاجرة لغرض المشاركة أو الدخول في عمليات تفاعل عبر الإنترنت.” وتشكل سيولة الهوية وتحديدها من منطلق ذاتي أيضا عنصرا متغيّرا في تشكّل الشتات المغربي مثل أيّ شتات آخر كرصيد مثمر في خطط التنمية. ويتوقع دافيش كابور الأستاذ في جامعة هارفارد أن أهمية تدفق رأس المال البشري الدولي ستزداد أكثر فأكثر خلال العقود القليلة المقبلة، وأن مجموعة من العوامل الديمغرافية والتكنولوجية والتغيّرات في البنيات الاقتصادية والسياسات المحلية والملفات المقلقة في الأمن القومي ستساهم في تحديد مستوى تدفق رأس المال البشري الدولي.
تتأتّى هذه القناعات لديّ من تشريح الفرق بين المنطلق الواقعي زمنيا وثقافيا واجتماعيا الذي أتمسّك به في السعي لتركيب علاقة استراتيجية منتجة بين مغاربة العالم والمغرب، والمنطلق الرومانسي الذي يتغنّى بالرّوابط النوستالجية والروح الوطنية وبقية السرديات الرمزية ضمن أدبيات الدولة المغربية. ولا ينبغي أنّ ينمّ الحديث عن واقع مغاربة العالم عام 2020 عن كتابة قصيدة أو تأليف عزف اوركسترالي لاحتفاليات الأعياد الوطنية، بل أن يعكس واقعية الهجرة وعقلانية النقاش المحتدم في جلسات المقاهي وحول موائد العشاء في حقبة أصبحت فيها زيارة المغرب، ناهيك عن العودة إليه، من قبيل الكوابيس لدى جل المهاجرين.
هناك أيضا سجال مفتوح حول خطاب “عمالنا في الخارج”، و”مغاربة العالم”، وامتدادات صلة الرعية التي تعتبرها الأدبيات المخزنية معطى قارّا لا تؤثّر فيه التحولات السوسيولوجية والوعي القِيَمِي المتحرك بين أجيال المغاربة في الخارج. في المقابل، هناك الدلالة المتنامية لخطاب المواطنة العابرة للقارات، أو المواطنة المرنة المعاصرة، في ضوء الهويات الجديدة من قبيل “مغاربة أمريكيون”، و”مغاربة أوروبيون”، و”هولنديون من أصل مغربي”، وإلى أين هم ذاهبون بهذه الهويات المزدوجة أو Hyphenated names والثقافات المركّبة والرؤى العالمية التي تتجاوز جينات الدم أو حدود الأرض أو نقاط الجمارك أو ختم الجوازات؟
أستحضر مجدّدا ما كتبه الروائي البريطاني الساخر جورج أورويل قبل سبعين عاما في عبارة مثيرة في معناها ومغزاها قائلا إن “أسوأ شيء يمكن للمرء أن يفعله بالكلمات هو الاستسلام لها”، وأضاف أن على المرء “السماح للمعنى باختيار الكلمة، وليس العكس.” أستحضر مقولة أوريل للتمهيد لاستعراض الفرق بين أن يُسقط المغرب هوية واحدة على قرابة ستة ملايين موزعين بين مائة دولة وفي أعمار ومستويات تعليمية وتجارب حياتية مختلفة، هي هوية تدخل في تركيبها عدة عناصر عرقية ولغوية وثقافية يفترضها المغرب ومنها الاعتداد بما يسمى في الأدبيات “الثوابت والمقدّسات”، وبين أن يساهم هؤلاء المغاربة النازحون في تحديد هويتهم وخطابهم بشكل ملائم. ويكمن الفرق بين خلاصاتي حول واقع مغاربة العالم في ضوء أبحاثي ورحلاتي الميدانية في السنوات الأخيرة وتمسّك البعض برفض وجود شتات مغربي في نقطتين أساسيتين:
أولا، وجود مسافة ثلاثين عاما في التحليل بين واقع 2020 ومحاولة استدامة خطاب عام 1990. لم تتحرك الرباط من خارج الدائرة المغلقة التي تُجمّد مغاربة المهجر قسريا ضمن خانة “عمّالنا في الخارج” وارتباط وجودهم خارج الحدود بهدفين أساسيين: 1) العمل وحشد المدخرات المالية لتحويلها إلى المغرب، وأن مقامهم في الخارج مسألة مؤقتة ضمن الجزم السائد بعودتهم في نهاية المطاف. 2) لا تزال السياسات العامة المغربية تتفادى الحديث عن الشتات وتسعى لإخفائه ضمن خانة الهجرة. كما لا تزال عالقة عند النسق الكمّي من خلال التركيز على البيانات الديموغرافية وأعداد العابرين عبر الموانئ والمطارات وقيمة التحويلات المالية السنوية لمغاربة العالم، بدلا من تطوير النسق الكيفي الملائم لدراسة حيثيات الشتات والهجرة باستخدام أدوات العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة.
ثانيا، حيرة الرباط بين اعتبار الشتات المغربي تهديدا سياسيا، وبالتالي تجميد فكرة تمثيله في البرلمان ومجالس الحكامة، أو رصيدا استراتيجيا يساهم في تعزيز غايات السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية للمغرب كما هو حال الدول التي استثمرت في ربط الشّتات بالتنمية التكنولوجية والمعرفية والاقتصادية والمجتمعية مثل الصين والهند وروسيا وإسرائيل. منذ خمسة عشر عاما، حاول الملك محمد السادس في خطاب 6 نوفمبر 2005 تعديل موقف غير سليم نتيجة ما يبدو موقفا انفعاليا، وليس رؤية استراتيجية، لدى والده الراحل الحسن الثاني الذي كان يتوجس من وجود نخبة اليسار الاشتراكي في فرنسا، ويعارض أيضا اندماج المغاربة في الدول التي استقروا فيها. تستمر الحيرة في الرباط إزاء قرابة ستة ملايين مواطن مغربي، مقيمين أو متجنّسين في مائة دولة، ومنهم على الأقل 300000 يمثلون النخبة، حسب إحصائيات مجلس أوروبا.
قد تحتاج الرباط لثلاثين عاما أخرى لتصحيح مفهومها للشتات والمكاسب المغيبة لمساهمته المؤجلة في بناء التنمية والديمقراطية. ويسأل كينغسلي أيكنز مدير معهد دراسات أهمية الشتات Diaspora Matters Institute في أيرلندا “ما الذي جعل الصين مصنع العالم؟ وما الذي مهد للهند أن تكون مركزًا للتكنولوجيا في العالم؟ وما الذي أضحت به إسرائيل مركزًا رائدًا للابتكار؟ إنه التواصل مع الشتات في الولايات المتحدة.” على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، تقول آن ماري سلوتر Anne-Marie Slaughter مسؤولة السياسات العامة في وزارة الخارجية الأمريكية سابقا والأستاذة في جامعة هارفارد “نحن نعيش في عالم مترابط التواصل بين خيوط الشبكة، فالديبلوماسية عملية تشبيك، والأعمال والتجارة تقوم على علاقات تشبيك، والإعلام مرتبط بعملية تشبيك، والمجتمع ذاته يعمل بمنطق التشبيك، وحتى الدين عملية تشبيك. ويكمن مقياس القوة في هذا العالم في الترابط والتشبيك، ومنه تتدفق الطاقة نحو القدرة على إجراء أقصى عدد من العمليات القيمة في التواصل والتشبيك. لم تعد القضية القوة النسبية، ولكن أن تكون في وضع مركزي ضمن شبكة عالمية كثيفة. والسؤال من أنت هو ما يحدّد ما باستطاعتك أن تحقّ قه، وبمن تستعين، ومن تثق بهم وتدخل في عملية تشبيك معهم.”
بين 2020 و2050، سيتحرك شراع المغرب على موج متقلب اقتصاديا وجيو-استراتيجيا، وقد لا تنتبه السلطوية الجديدة في الرباط إلى منطق الربح والخسارة بين أن يكون هذا الشتات حليفا في صفّها من الآن، أو يكون جبهة تتقوّى في ثغورها في عواصم المهجر!
أزمة “تامغربيت” لدى مغاربة العالم في حقبة كورونا:
“وجدنا أنفسنا مقعدين إلى الأرض بسبب فيروس صغير للغاية، وكشفت الجائحة مدى هشاشة عالمنا”، هذا بعض ما قاله أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة في الذكرى الثانية بعد المائة لميلاد نيلسون مانديلا. وقد أظهرت أزمة الصحة التي أثارتها جائحة كورونا مدى الضعف الشديد لعالمنا، ولكنها سلطت الضوء أيضًا على القيم الأساسية التي تتمسك بها إنسانيتنا. للأسف، تجاوز عدد الوفيات 620000 حالة في جميع أنحاء العالم، ويستمر الفيروس في التسبب في مآسي وخسائر متزايدة! وتزداد الأسئلة في إلحاحها حول نظامنا الاقتصادي، ومسؤولية الإنسان عن تدمير البيئة ونظم الإيكولوجيا الطبيعية وتزايد الاحتباس الحراري.
في مواجهة وضع عالمي غير مسبوق، اتخذت المملكة المغربية بسرعة شديدة إجراءات منطقية بإغلاق مجالها الجوي وحدودها بهدف ضمان الأمن الصحي للسكان. وحاصر العالم نفسه في مسعى لكسر سلسلة انتشار الفيروس على أمل القضاء عليه، فتم الإغلاق لجميع المجالات الجوية! وتعيّن على جميع البلدان إدارة كيفية إعادة رعاياها الذين تقطّعت بهم السبل في الخارج. وجرت عمليات العودة التاريخية إلى الوطن في العديد من البلدان. بيد أن المغرب ظلّ من الدول النادرة في العالم التي ترفض إعادة رعاياها إلى وطنهم، أحياء أم موتى، فيما غدا وصولهم إلى أرض الوطن أمرا محظورا.
يتمّ وضع مغاربة العالم قيد الإقامة الجبرية لمدة 4 أشهر، دون أي انشغال أو اهتمام بمصيرهم. ولا تتمكن الغالبية العظمى منهم من الحصول على أي مساعدة من قنصليات المغرب. ولا بد للمرء أن يستنكر المواقف اللاإنسانية والتي انطوت على الكثير من المعاناة. ولم يتمكن الكثيرون منهم من سدّ رمق الجوع والعطش إلا بفضل التضامن الذي أبداه مجتمع مدني سخي ومعبأ خاصة خلال شهر رمضان. وبغض النظر عن كل النوايا الحسنة في العالم ولكن دون موارد كافية، لا يمكن للسفارات والقنصليات المغربية أن تخلق المعجزات مثلما فعلت مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج التي لم تدخر جهداً في الاستجابة للعديد من الطلبات.
بيد أن المغاربة من مزدوجي الجنسيات الأوروبية والمغربية وأيضا العالقين هم من تكبدوا تداعيات المسؤولية عن هذه التدبير الكارثي. ولم تتحرك هذه العقدة المستعصية إلا عندما قامت دول إقامتهم، كبلجيكا مثلا، بالدفاع عن قضيتهم حتى يستجيب للمغرب في نهاية المطاف بأن يأذن لهم بمغادرة أراضيه فيما توّلت دول الإقامة ترتيب إجراءات عودتهم إليها. ينظر المغرب الرسمي إلى هؤلاء العالقين وكأنهم “منبوذون”، وتعرّضت أعداد منهم لتعليقات ومضايقات وسلوكيات التمييز بسبب “مسؤوليتهم” المفترضة عن جلب ونشر الفيروس، وتردّدت العبارة “كنت تريد المغادرة والبقاء في أوروبا. نحن لا نريدك هنا”!
على الرغم من سياق الوضع الوبائي غير المسبوق عبر العالم، لم يكن هناك أي سبب أو مبرّر لأخذ المغاربة المقيمين في الخارج وأيضا المغاربة العالقين في الخارج رهائن. فإلى متى سيعاني المغاربة من عواقب التقلبات المزاجية لطبقة سياسية تفتقر إلى الدبلوماسية والحسّ الإنساني؟ كان على المغرب، الذي أظهر سخاءً بشكل خاص تجاه بعض البلدان الأفريقية خلال أزمة كورونا، أن يعيد رعاياه إلى وطنه أو على الأقل احترام التزاماته الدولية بتقديم المساعدة اللازمة للمغاربة العالقين في الخارج.
خلال الرفع التدريجي لقرار الحجر، ما الذي يمكن أن يبرّر منطقيا قرار أن يعود مغاربة العالم والعالقون في الخارج إلى المغرب عن طريق البحر عبر مينائي “سيت” في فرنسا و”جنوة” في إيطاليا، باستثناء الموانئ الأخرى بما فيها الجزيرة الخضراء؟ وبينما يوجد آلاف المواطنين في إسبانيا على مقربة من نقطة الدخول إلى المغرب، تجبرهم السلطات المغربية على السفر أكثر من ألف كيلومتر إلى الشمال لركوب الباخرة. فلماذا لا تسهّل الرباط عودة المغاربة الذين تقطعت بهم السبل في الخارج، ولا سيما أولئك الأكثر تأثرا اقتصاديا بأزمة كورونا؟ ألا يمكن للمغرب أن يبذل جهدا لإعفاء شركاته الصغيرة المستقلة من الرسوم الجمركية عندما يعودون بعد أن ظلوا مجبرين على البقاء في الخارج دون أية موارد؟
لقد أيقظ هذا الوضع المتردي بعض الأسئلة المحرجة للرباط التي كانت في غنى عنها. وما أظهرته الجائحة حتى الآن هو ضآلة الاهتمام التي تبديه الحكومات المتعاقبة في الرباط بقضايا مغاربة المهجر خاصة في العقود القليلة الماضية. كما أن المشاكل المرتبطة بعودة مزدوجي الجنسية سلّطت الضوء كذلك على إشكالية التفسير المحدود لوضعية الجنسية المزدوجة. فهل أضاع المغرب فرصة لتعزيز أو حتى تجديد الارتباط بشتاته؟ مرّة أخرى، وبعد هذه المواعيد الهائمة والفرص الضائعة:
أولا، قانون انتخابي يكرس التمييز ضد مغاربة العالم،
ثانيا، مجلس جالية مغربية في الخارج مبتور الكيان بعدم استكمال العدد المقرر لأعضائه عند التأسيس، ومكلّف بمهمة استشارية بسيطة، والذي كان ينبغي مراجعة صلاحيته في العمق.
ثالثا، دبلوماسية ينبغي أن تسعى لإدماج مغاربة العالم ضمن تحركاتها.
رابعا، تعدّدٌ فائقٌ للمؤسسات المكلفة بملف مغاربة العالم وسط قراءة ضبابة للمشهد ودون تكامل بين برامجها.
خامسا، وجود مجالس ومؤسسات أخرى فيما يستمرّ إقصاء مغاربة العالم منها.
سادسا، وجود المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة في بروكسيل دون معرفة حقيقية لدوره والمصلحة من وجوده. ونأسف لكون تدبير المجال الديني يظل عرضة للإمهال في وقت كان من الممكن أن تساعد الدبلوماسية الدينية في تعزيز التشبّع بالقيم الكونية في بلد الإقامة. وثمة الكثير من الآمال منذ جلوس الملك محمد السادس على العرش، مما منح الثقة مجددا إلى المغاربة وعلى الخصوص مغاربة العال. وبعد مرور خمسة عشر عاما، متى تبقّى من الخطاب التاريخي في السادس من نوفمبر 2005؟ إنها خارطة الطريق الديمقراطي لمغرب جديد. لقد حان الوقت لكي يعيد المغرب النظر في كل المعمار المؤسساتي المرتبط بشتاته من خلال قرينة التشاور معه في إعادة تحديد الروابط وخطوط التماس.
حان الوقت أيضا لمراجعة مفهوم “تامغربيت”marocanité، وماذا يتبقى الآن من ثوابتها؟ هل هي “تمغرابيت” قابلة للتطور ويمكن العمل بفرضيتها والترحيب بها؟
يبدو أن المشاكل المتعلقة بتدبير أزمة عودة العالقين إلى دولهم قد أجّجت التوتر بين أوساط المغاربة في الخارج. كما أنها سمحت بتوظيف هذا الملف، وغذّت مشاعر ومواقف الرفض لتلك “التّامغربيت” عند كل من مغاربة العالم وشريحة من سكان دول الإقامة، مما شحن خطابات الكراهية والعودة إلى سياسات الجنسيات المزدوجة.
لقد دفع موقف السلطات المغربية الكثيرين لتصور التحلل من الجنسية المغربية (البند 19 من قانون الجنسية المغربية)، هي جنسية يعيشها المغاربة كعبء على أكتافهم وبحكم الاضطرار في هذه المرحلة، وتشكل أيضا عائقا ضد عودتهم إلى بلدان إقاماتهم. في الوقت ذاته، يشعر هؤلاء بالجرح النفسي الدفين بسبب تخلي المغرب عنهم في مرحلة حرجة، وقد تظاهروا أمام القنصليات والتمثيليات الدبلوماسية المغربية قبل طرح قرار اللاعودة إلى المغرب حتى ولو تطلب الأمر بقائهم في دول المهجر دون وثائق إقامة شرعية. هذا هو الإحباط المطلق!
ينبغي الآن أن يجرؤ المغرب على تدشين نقاش بدون طابوهات مع هذه الجهة 13 للبلاد، هي شتات قوي بخمسة ملايين فرد، وبمثقال مؤثر يحضر بسبعة في المائة من الناتج القومي الإجمالي، ويرجح كفته الاقتصادية ودلالته الاجتماعية، وينبغي بالتالي أن يكون له بالضرورة وزن سياسي مماثل.
مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المرتقبة عام 2021، يظل مغاربة العالم في حيرة من أمرهم بشأن مصيرهم الديمقراطي في المغرب. هل يمكنهم الترشح أو المشاركة في الاقتراع على ممثليهم مباشرة طبقا لحيثيات البند 17 في الدستور المغربي، والذي ينص “يتمتع المغاربة المقيمون في الخارج بحقوق المواطنة كاملة، بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات. ويمكنهم تقديم ترشيحاتهم للانتخابات على مستوى اللوائح والدوائر الانتخابية، المحلية والجهوية والوطنية. ويحدد القانون المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي. كما يحدد شروط وكيفيات الممارسة الفعلية لحق التصويت وحق الترشيح، انطلاقا من بلدان الإقامة.”
هل يجب على الشتات المغربي أن يستقيل ويستكين إلى وضع “مواطنين من الدرجة الثانية”؟ فتجارب التصويت في الاستفتاء على دستور 2011 وكذلك تمثيلية مغاربة العالم من 1984 إلى غاية 1993 أظهرت أنهم قادرون على المشاركة في تدبير الشأن العام، وأن العائق يكمن حقيقة في غياب إرادة سياسية لدى الطبقة السياسية برمّتها.
ختاما، نودّ أن نستحضر فقرات من خطاب الملك محمد السادس عام 2002 عندما أقرّ “بوجوب إحداث دوائر تشريعية انتخابية بالخارج، ليتسنى لمواطنينا بالمهجر اختيار نوابهم بالغرفة الأولى للبرلمان. علما بأنهم يتمتعون، على قدم المساواة، بالحقوق السياسية والمدنية، التي يخوّلها القانون لكل المغاربة، ليكونوا ناخبين أو منتخبين بأرض الوطن”، وأنّ مغاربة العالم “يتمتّعون، على قدم المساواة، بالحقوق السياسية والمدنية، التي يخولها القانون لكل المغاربة، ليكونوا ناخبين أو منتخبين بأرض الوطن.”
لن يمكن تشييد مغرب ديمقراطي بدون مغاربة الشتات!