إن إضفاء الصبغة الرقمية على العالم هو علامة على عدم الاهتمام بمدلولات الوجود، فضلا عن الاهتمام بما في هذا الوجود من معان وآيات، ولذلك فترقيم العالم أو رقمنته سيجعل من أنشطة الحياة مجرد إجراءات، أي أن الفعل الإنساني سيخرج من طور الحرية إلى طور الآلية، وإذا انتفت الحرية عن هذا الفعل لزم منه حدوث انقلاب في هوية الإنسان، فضلا عن الانقلاب في قيمه.
والخطورة تكمن في أن الإنسان لن يكون له نصيب في وجوده إلا بقدر خضوعه للرقمنة المكتسحة أو سعيه هو أصلا إلى رقمنة ذاته قبل أن يرقمنه غيره، وما مسارعة كثير من المؤسسات الوازنة في العالم إلى مدارسة مستقبلها ومستقبل الإنسان في ضوء هذا المتغير الجديد إلا أمارة على عمق الإحساس برسوخ هذا الانقلاب.
هكذا يمكن وسم هذا الزمن بالنسبة للإنسان بزمن اللاعقل، وما تسمية الإجراءات الرقمية والعمليات الآلية بالذكاء إلا من قبيل التوهيم باستمرارية فعل العقل في الوجود، والحال أن الوجود يشهد حضور الآلة وضمور الإنسان
ذلك، أن البرلمان والمجلس الأوروبيين وكذلك المفوضية الأوروبية مثلا شرعوا في مناقشة علاقة الذكاء الاصطناعي بقيمة الديمقراطية وأثر كل ذلك على الرهانات التي تواجه مستقبل أوروبا تقنيا ومجتمعيا وتشريعيا، ومن ثمة رفع سقف السؤال حول من يوجه الآخر، أهي التقنية الرقمية أم المؤسسة التشريعية، خاصة مع ملاحظة انهيار كثير من المؤسسات المألوفة سابقا أمام منطق العالم الرقمي الذي لا ينفك مهيمنا على كل شيء؟
هذا، وإن مأخذنا على الزمن الرقمي ليس من جهة كونه حلقة من حلقات تطور العلم الذي ما فتئ يأخذ به الإنسان تيسيرا لحياته وتحقيقا لسعادته، بل من جهة الكيفية التي اتصل بها بالعالم، حتى أنه ألبس كل نشاط لباسه، فلا حركة لهذا النشاط أو ذاك الفعل إلا بإذنه، إلى درجة أنه يسير نحو إلغاء كل مؤسسة لا تسايره وإلى نسف كل نسق لا يناغمه، ليس إكراها -لحد الآن- وإنما هو استدراج، ومثال ذلك طريقة تدخله في حسم الانتخابات الرئاسية في الدول الكبرى، حيث يحجب ما شاء وينشر ما شاء خدمة لأهدافه وتيسيرا لغاياته.
في حين أن الجهات القانونية التي كان أولى بها أن تدلي بدلوها في مثل هذه الشؤون السياسية والمنازعات الانتخابية تقف مبتعدة عن الحدث أو بالأحرى مشدوهة، لعميق يقينها بأن الفعل السياسي الذي أمامها قد دخل إلى زمن ألغى زمنها وولج إلى طور أنهى طورها.
إن هذا الإنهاء وذلك الإلغاء لم يقفا عند حدود ما ذكر، بل أصبحا ينسحبان حتى على المرجعيات الحداثية وما بعدها للمؤسسات المذكورة سابقا، ذلك أن الحداثة قامت على التوسل بكل مقومات العقل من أجل النهوض بحياة ومجتمع حديثين، لكن أن يسلّم هذا العقل نفسه للرقميات متنازلا عن كينونته الإنسانية لصالح الكينونة الرقمية لنذير من النذر الباعثة على النظر في سؤال العقل في مجتمع ما بعد الحداثة، والمقصود هو سؤال العقل في الزمن الرقمي.
هكذا يمكن وسم هذا الزمن بالنسبة للإنسان بزمن اللاعقل، وما تسمية الإجراءات الرقمية والعمليات الآلية بالذكاء إلا من قبيل التوهيم باستمرارية فعل العقل في الوجود، والحال أن الوجود يشهد حضور الآلة وضمور الإنسان نتيجة عدة اعتبارات، منها:
- إن العقل عِقال، أي رباط: منه عقلت الدابة أي ربطتها، ومن معاني العقل أيضا المنع، فالعقل يمنع صاحبه عن الاشتطاط في الحركة لئلا يتمادى فيهلك، وهذا المنع بهذا المقصد هو عين الحكمة التي تمنح صاحبها الاقتصاد في قصده حتى يبلغ مقصوده، وفي مقابل ذلك نجد أن العالم الرقمي لا عقال له، فكل شيء عنده متاح، بل كل فرض واحتمال لديه مباح ما دامت الوسيلة مسعفة لبلوغه بغض النظر عن كونه خيرا أو شرا، صالحا أو فاسدا.
- العقل صلة، بمقتضى ما سبق في دلالته على الربط، إذ الربط بين شيئين أو أمرين هو وصل بينهما.
أما العالم الرقمي فلا وصل فيه لهول ما مارسه على الإنسان من فصل، ولا فصل أتاه أفظع من فصل الإنسان عن وجوده ووجدانه، فلا هو اطمأن في حياته، ولا هو أنصت لأعماقه، وذلك لأن الفصل الذي مارسه عليه الزمن الرقمي جاءه في صورة وصل، لكنه وصل وهمي، لأنه وصله بعالم الأشياء وفصله عن عالم المعاني، وصله بالمظهر وفصله عن المخبر، وصله بالإجراء وفصله عن القيمة.
هكذا يمكن اعتبار هذا الزمن زمن اللاعقل، وما دام كذلك يكون قد دخل بالإنسان إلى طور العبث، ليكون اللاعقل عبثا، ألم يساهم تطور التقنية الرقمية في ولوج عالم العبث، العبث بصور الناس وأسرارهم، بل والعبث بصحتهم وأمنهم عن طريق العبث بالجينات والنطف والأعضاء البشرية، والعبث بحياتهم وكرامتهم عبثا فاحشا ما كان ليكون لولا دقة هذه الرقميات في إجراءاتها.
وليس لمدّعٍ أن يدّعي أن في هذا تطويرا للعلم خدمة للإنسان حياة وصحة، ذلك أن التضحية بحياة مستقبِل الحياة كشأن الجنين، من أجل حياة مودع الحياة أو قريب من ذلك لسبب من الأسباب، لهو ترجيح حياة على حياة كان الأولى فيها حفظا لقيمة الحياة مراعاة مستقبِلها باعتبارها من المعاني السامية على مستقبل العلم باعتباره من المظاهر المادية.
وبيان ذلك مثلا: أن حياة المقبل على الحياة والداخل إليها يملك من أسباب قوتها الشيء الكثير مقارنة بالمدبر عنها مرضا أو عجزا، حيث يفقد من أسباب قوتها الشيء الكثير.
وهكذا لا يمكن قيميا سلب ذاك المقبل حياته من أجل منحها لذاك المدبر عنها، وللعلم أن يبحث عن طرق أخرى للعلاج وتخفيف الآلام غير طرق السلب والسطو على حياة المقبلين لمنحها للمدبرين، وعلى فرض تعافي هذا المدبر يكون قد استفاد من حياتين، حياته الموهوبة باعتبار خلقه، وحياته الممدودة باعتبار سطوه، وبذلك يبقى السؤال: هل من العدل أن يستفيد هذا المدبر من حياتين، مقابل ألا يستفيد المقبل حتى من حقه الموهوب في الحياة؟
إن الزمن الرقمي جاء ليكرس فعل الذكاء في الطبيعة أو الأشياء، ملغيا كل اعتبار لمقتضيات فعل المعنى في الذات البشرية وأعماقها، ويتجلى ذلك بوضوح في أنه أصبح يبني واقعا جديدا عن طريق هدم الواقع المألوف لدينا، ولذلك ارتبك الإنسان المعاصر وأُغلق عليه باب فهم ما يقع حوله من تغيرات جوهرية ومتسارعة تجاوزت به أفق تلبية حاجاته إلى أفق طلب تحويجه بإيجاد حاجيات له لا يحتاجها في الأصل، لكنه حُوِّجَ إليها بفعل الانبهار الذي مارسه عليه التطور الرقمي، وبالتالي لم تعد التقنية خادمة للإنسان، بل أصبحت مخدومة من قِبَله، وتفرض شروطها عليه.
وهذا من شأنه أن يخدم الاقتصاد الجشع الخالي من القيمة، إذ من مصلحته أن يحول الإنسان إلى مجرد سلعة أو كائن مستهلك شاء أم أبى، وبذلك يكون الزمن الرقمي قد حقق نجاحا عظيما لأنه استطاع أن يقتحم كل مجالات الحياة العادية والمألوفة ويغير مدلولاتها السابقة، لدرجة أننا لم نعد نفيد معنى بالإحالة على المفاهيم وحدها بل الأشياء، فلا مدلول للاقتصاد والمدرسة والإدارة مثلا بالإحالة عليها وحدها دون نعتها بوصف الرقمي، وعليه أصبح لا بد من الحديث عن الاقتصاد الرقمي والمدرسة الرقمية والإدارة الرقمية.. إلخ.
لقد تغيرت هوية الإنسان أو كادت لأنها انفصلت عن محدد وجودها الثقافي والتاريخي والاجتماعي واتصلت بجهاز آلي رقمي مجرد عن القيم اتصالا بلغ بها رتبة اعتباره الغاية النهائية للوجود
لكن السؤال الذي يظل ملحا علينا في ضوء هذه الوقائع هو: ما الثمن الذي سيدفعه الإنسان بسبب إضافة هذا النعت؟
إن دواعي فرض هذا السؤال نفسه تعود إلى الأثر الذي أحدثه هذا النعت في الحياة تحويلا، وفي الإنسان انقلابا، فالأسرة الرقمية لم تعد هي الأسرة التي نحس في أحضانها بالدفء الإنساني، والطفل الرقمي لم يعد هو الطفل الذي نشعر في نظراته بالسمو الإنساني، والمجتمع الرقمي لم يعد هو المجتمع الذي نلمس في علاقاته ذلك الأمان الإنساني.
لقد تغيرت هوية الإنسان أو كادت، لأنها انفصلت عن محدد وجودها الثقافي والتاريخي والاجتماعي واتصلت بجهاز آلي رقمي مجرد عن القيم اتصالا بلغ بها رتبة اعتباره الغاية النهائية للوجود.
إن ملامح هذا التغير تبرز في انقلاب مفهوم الذات أو الأنا، فلا ذات للإنسان ولا أنا إلا بقدر استعماله للأدوات الرقمية، إلى درجة توهُّمِه أنه أصبح المهيمن على كل مضامينها، وأنه لا حديث للناس إلا عن ذاته وأناه، وبقدر ما يعلق الآخرون عليها أو يشاركونها أو ينخرطون معها وفي مشاهدتها أو يضعون علامة إعجاب أو ما ماثلها تكون قد تحققت هويتها، وهكذا ينفصل الإنسان عن ثقافته وتاريخه ومجتمعه متوهما أنه يؤسس لذاته من خلال الإعجابات والاهتمامات والاشتراكات الرقمية.
وبذلك، تفقد هذه الأنا هويتها من جهة تظن أنها تحصلها، إذ لم تعد لها فرادتها التي تحدد شخصيتها لكونها أضاعت حريتها متى حددت وجودها في التبعية لتصفيق المتابعين لها وإظهار اهتمامهم بها تعليقا وإعجابا، ولكونها أقامت معهم علاقات سطحية يحركها الغرور والضغط على زر الإعجاب رغبة في الظهور.
وعليه، يبدو أن الآلة الرقمية بعدما استطاعت استدراج الإنسان إلى عالمها أصبحت تنفذ إلى السلوك البشري لتقيم علاقة مع عمقه النفسي، فتعيد تشكيله من جديد تشكيلا تفاقمت معه سلوكات كان من اللازم تركها أو تقزيمها، إذ مع هذا التطور الرقمي ازدادت رغبة الناس في تتبع هفوات الآخرين وفضحهم، وتلفيق الأكاذيب ضدهم، والتجسس عليهم، وتوثيق الفضائح والعداوات توثيقا رقميا لا سبيل معه إلى نسيانها رغبة في الصلح واستئناف العلاقات الإنسانية القائمة على تجاوز الإحن والأحقاد.